مصر.. بين أيام طه حسين وهذه الأيام - مقالات
أحدث المقالات

مصر.. بين أيام طه حسين وهذه الأيام

مصر.. بين أيام طه حسين وهذه الأيام

د. عماد بوظو:

 

يقدّم كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" صورة عن الواقع الثقافي وحالة القضاء في مصر قبل قرن من الآن، كما يكشف حجم التراجع الذي شهده المجتمع المصري منذ ذلك الوقت، ورغم أن الغرض من الكتاب هو إثبات أن "الشعر الجاهلي" قد كتب بعد الإسلام وليس قبله، ولكنه تضمّن في سياقه كثيرا من الأفكار الجريئة، واستعراضها بشيء من التفصيل يوضّح مناخ الانفتاح الفكري الذي كانت تعيشه مصر في تلك الأيام.

فقد استهل طه حسين كتابه بالدعوة إلى مناقشة كافة المواضيع بعقل منفتح، حيث أشار إلى أن "من يرددون ما أجمع عليه العلماء طريقهم سهل فقد أغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في الفقه"... ويضيف "أما أنصار الجديد فأمامهم عقبات لا تحصى... فقد خلق الله لهم عقولا تجد من الشك لذة ومن القلق رضا، وسواء عندهم إن وافقوا القدماء أو خالفوهم، رغم أنهم قد ينتهوا إلى الشك في أشياء لم يكن الشك فيها مباحا، وربما أنا أحب الحياة الهادئة المطمئنة ولكني مع ذلك أحب أن أفكّر وأبحث وأعلن للناس ما انتهى إليه بحثي، وآخذ نصيبي من رضا الناس أو سخطهم حين أعلن عليهم ما يحبّون أو يكرهون".

ويؤكد حسين أنه توصل إلى أن "الأغلبية المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليس من الجاهلية في شيء وإنما تم انتحاله بعد الإسلام"، ورأى أن "الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو الأعشى وغيرهما لا يمكن أن يكون لهؤلاء الشعراء من الناحية اللغوية والفنية ولا أن يكون قد قيل قبل القرآن".

ولفت إلى أنه حاول "أن أصطنع في الأدب المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت وهو أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، بحيث يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن، لذلك يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وديننا، وألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا لمناهج البحث العلمي".

ويقول حسين: "ولنجتهد غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي عليه، ولا وجلين إذا انتهى بنا البحث إلى ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية، وسنبقى في النهاية أصدقاء سواء اتفقنا في الرأي أو اختلفنا فيه، فمنهج ديكارت ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب بل في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا، وإني لا أبالغ حين أطلب من الذين لا يستطيعون أن يبرؤوا من القديم وأغلال العواطف والأهواء ألا يقرؤوا هذه الفصول فقراءتهم لن تفيدهم إذا لم يكونوا أحرارا حقا".

وتابع ضمن المنهج الذي اعتمده في بحثه: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أبضا، لكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات قصة هجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلى مكة، ونحن مضطرون أن نرى أن هذه القصة نوع من الحيلة لإيجاد صلة بين اليهود والعرب والإسلام واليهودية وبين التوراة والقرآن"، ويكمل "وبما أن الصلة واضحة بين القرآن والتوراة والأناجيل لاشتراكهم في الموضوع والصورة والغرض، فقد أتت قصة القرابة في النسب بين العدنانية واليهود لتدعم هذا التشابه الديني"، ولذلك أيدت قريش "أسطورة أن تكون الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم".

كما قال إن العوامل الدينية لعبت دورا في اختراع الشعر الجاهلي خصوصا تلك التي تتحدث عن "إثبات صحة النبوة وصدق النبي، وتتضمّن كل ما يروى من هذا الشعر في الجاهلية ممهّدا لبعثة النبي وما يتصل بها من أخبار وأساطير تقول بأن علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو مكة".

ومن ضمنها "ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وبنو هاشم صفوة قريش وقريش صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية جميعها، وأخذ القصّاص يجتهدون في هذا النوع من تنقية ما يتصل بأسرة النبي خاصة، فيضيفون إلى عبد الله وعبد المطلب وهاشم من الأخبار ما يرفع شأنهم ويثبت تفوقهم على قومهم وبقية العرب".

"كما أراد المسلمون أن يثبتوا أن الإسلام قديم في بلاد العرب قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الإسلام هي التي أوحى بها الله إلى الأنبياء من قبل، فالقرآن يجادل اليهود والنصارى في كتبهم ويذكر غير التوراة والإنجيل صحف إبراهيم ويذكر دينا آخر هو ملّة إبراهيم وهي هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبيّن معناها الصحيح، وأخذ المسلمون يرجعون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى".

واختتم طه حسين كتابه: "قد يشعر البعض بأننا نتعمد الهدم ويتخوفون من عواقبه على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به خاصة، ونقول لهؤلاء إن الشك لا ضرر منه وهو مصدر اليقين لأن هذا الأدب يجب أن يقوم على أساس متين، وخير له أن يتحرر من هذه الأثقال التي تضر ولا تنفع".

بعد نشر الكتاب أرسل شيخ الأزهر تقريرا رفعه مجموعة علماء من الأزهر للنائب العام اتهم فيه طه حسين بأنه كذّب بكتابه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبي وعلى نسبه الشريف، وأتى فيه بما يخلّ بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطالب باتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة، فردّ محمد نور رئيس نيابة مصر على من تقدّموا بالشكوى: "من حيث أن العبارات التي يقول المبلّغون أن فيها طعنا في الدين فقد أتت في سياق الكلام عن موضوعات تتعلق بالغرض الذي تم تأليف الكتاب من أجله، ولا يجوز انتزاعها وتقديمها منفصلة، ولا بد من مناقشتها في السياق الذي وردت فيه لمعرفة قصد المؤلف وتقدير مسؤوليته".

ثم قسّم تلك الشكوى إلى أربع بنود

  • تكذيب القرآن في قصة إبراهيم وإسماعيل
  • والتشكيك في أن القراءات السبع للقرآن منزلة من عند الله كما يقول رجال الدين، بينما أرجعها الكاتب لاختلاف اللهجات بين العرب
  • والتعرّض لنسب النبي وادعاء أن هناك من حاول تعظيم شأنه
  • وإنكار أولوية الإسلام في بلاد العرب.

ثم استفاض القاضي محمد نور في ملحق قرار النيابة في مناقشة هذه المواضيع كلّا على حده، وتحاور حولها مع طه حسين فاختلف معه في رؤيته لعلاقة إسماعيل وإبراهيم بمكة، ولم يعترض على رؤيته للقراءات السبع للقرآن، كما لم يعترض على قوله بمحاولات الرواة تعظيم نسب النبي وأولوية الإسلام في بلاد العرب ولكنه اعتبرها بغض النظر عن صحّتها تتضمن تهكّما غير لائق.

وخلص إلى الحكم التالي: "النظام الدستوري للدولة المصرية ينصّ على أن حرية الاعتقاد مطلقة ويكفلها القانون، أما حول المادة 139 التي تنص على عقوبة من يعتدي على أحد الأديان فيجب توفّر القصد الجنائي، والكاتب وإن كان قد أخطأ فيما كتب، إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء والخطأ المصحوب بنية التعدّي شيء آخر، ومما تقدّم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وبذلك فإن القصد الجنائي غير متوفر وتحفظ الأوراق إداريا".

هكذا تم التعامل قبل أكثر من تسعة عقود مع كتاب يشكك في بعض ما يعتبره شيوخ الأزهر من ثوابت الدين، ورغم أن العالم قد تطور كثيرا منذ ذلك الوقت بحيث أصبحت حرية الاعتقاد إحدى الركائز الأساسية لحقوق الإنسان ورغم صدور تشريعات وقوانين دولية لحمايتها، لكن ذلك لم يشمل المنطقة العربية التي شهدت تراجعا في مجال الحريّات، فالأفكار التي طرحها طه حسين قبل قرن في كتاب علني مطبوع وموزّع على المكتبات لم يعد من السهل الاقتراب منها اليوم.

ومع تراجع مناخ الحرية تدهورت الحياة الثقافية في مصر وأصبح من الصعب أن يأتي كتّاب وأدباء بمستوى القامات الكبيرة التي أثرت الحياة الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين، وهيمن على الأزهر نهج اتباعي تقليدي ولم يشهد طوال قرن كامل بروز رجال مستقلين أو مجددين أو تنويريين، لكن الانتكاسة الكبرى كانت تلك التي شهدها القضاء المصري الذي فقد استقلاليته وانحدر مستواه بشكل غير مسبوق، وأصبح ساحة يصول ويجول فيها المتشددون الغاضبون، بحيث لو دارت محاكمة كتاب "في الشعر الجاهلي" مع ما رافقها من حوارات اليوم، لما كان القضاء المصري ليكتفي بسجن طه حسين بل كان سيضع إلى جانبه سجينا آخر هو رئيس النيابة محمد نور نفسه.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*