رشيد الخيّون:
يغلبُ على الظَّن أنَّ زيارة بابا الفاتيكان إلى العِراق، كانت أكثر زيارات البابوات ضجيجاً في الإشاعات، فحتَّى زيارة البابا إلى كوبا، وهي لافتة للنظر، على اعتبار أنّها جزيرة مثلت الثَّوريَّة الصَّارخة، لم تحظَ بعِشر التحليلات والإشاعات التي حفلت بها زيارة العراق، مع أنَّ كوبا استقبلت البابويَّة في ثلاث زيارات ودية جداً: يوحنا بولس الثَّاني(1998)، وبينديكتوس السَّادس عشر(2012)، وفرنسيس(2015)، وحضور فيدل كاسترو(ت:2016) القداس بهافانا، عاصمة القلعة الثَّوريَّة. فما هو معروف كانت كوبا مناصرة أساسيةً للقضية الفلسطينيَّة، وداعمة لحركات التَّحرر اليساريَّة بآسيا وإفريقيا، حتَّى تداول حينها أنَّ أرنست جيفارا(قُتل: 1967)، أبرز رجالات الثَّورة الكوبيَّة، كان عازماً التَّوجه إلى فلسطين بعد تحرير بوليفيا.
لم يأخذ الكُتاب القوميون هذا التطور، في الملف الكوبي، بنظر الاعتبار، أمَّا العِراق فيبدو شأنه آخر، يلزم عليه النحر بكواتم «الممانعة»، فأشاعوا: ستمد زيارة البابا البساط مِن رام الله إلى النَّاصريّة، وإسرائيل ستطالب بأور، والزِّيارة مبادرة إلى صهر الدِّيانات في ديانة واحدة، وغير ذلك مِن الترهات. لكنّ أكثر الآراء غرابة، أن زيارة البابا غير مرحب بها إلى العراق، لأن الفاتيكان أقر، بدعم صهيوني، تبرئة اليهود مِن دم المسيح، والمطلوب إبقاء الرّواية شاهداً على الصَّلب، مع أنَّ المسيحيين أنفسهم حسموا الموقف، وحلَّوا القضية بقيامته، فعلام الثَّأر! أمَّا القرآن فيقول: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»(النّساء: 157).
لا بد مِن مراعاة واقع البشريَّة اليوم، وقد أخذت التكنولوجيا تعطف شرق الأرض على غربها،«ويكاد بيتٌ في العِراقِ بجذوةٍ/ مضرومةٍ في تيبتَ يتنور»(الجواهري: 1951)، فإذا بعد أكثر مِن عشرين قرناً، يُراد استمرار تورط ديانة كاملة بدم نبي ديانة أخرى، معنى ذلك أنَّ أجيالاً، بعد أجيال، تعيش الكراهية والانتقام، لأن الجريمة مقيدة ضد أحفاد الأحفاد. فحسب الرَّأي المذكور، إنَّ مَن يدعو إلى تبرئة اليهود فهو صهيوني بالضَّرورة، وقياساً يكون جماعة إخوان الصَّفا(القرن10م) صهاينة، لأنهم أول المطالبين حصر القضية بزمن وشخص مَن مارسها، ناهيك عن أنَّ شعور الانتقام مؤذي للمسيحيين قبل اليهود.
قال «إخوان الصَّفا» قبل ألف عام: «مِن الآراء الفاسدة، والاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها، رأي مَن يرى أنَّ بارئه وإلهه روح القُدس، الذي قتلته اليهود، وصلبت ناسوته، وذهب لاهوته لما رأى ما نزل بناسوته مِن العذاب، فتركه مخذولاً. ثم اعلم أن هذا الرأي والاعتقاد يُكسبُ صاحبه غيظاً على القاتل، وحنقاً، وعلى المقتول حُزناً وغمَّاً، ثم يبقى طول عمره، متألمة نفسه، مُعذباً قلبه، مشتهياً للانتقام مِن عدوه، ثم لا يظفر بشهوته، ويموت بحسرته وغصته»(الرِّسالة 42، الأولى في الآراء والدِّيانات).
إذا لم يخط الفاتيكان تلك الخطوة (1965)، حين قرر الانفتاح على الدِّيانات كافة، فما معنى الإخوة الإنسانية، التي باركتها تلك المؤسسة، وما معنى السَّعي إلى تكريس التّسامح الدِّيني والتَّعايش بين البشر؟!
احصروا مناداتكم بحقّ الفلسطينيين على أرضهم، لا تضيعوا ذلك الصَّوت في متاهة خرافة أخرى، خرافة «الولاية»، التي أهلكت العراقيين وسواهم بألفاظ «الممانعة والمقاومة». أقول: لا يستبعد أنّهمَ سيتجاوزون القرون إلى اعتبار «إخوان الصفا» صهاينة حتَّى قبلِ عشرة قرون، لرأيهم أنَّ دمَ المسيح يتحمله وثني روماني أو يهودي عبراني، وهي روايات استحالت عقائدَ، ثم صارت شدائد على أتباعها، بشهوة الانتقام.