جريج أوستن*
جعلت إدارة ترامب من هزم تنظيم «داعش» الإرهابي أحد أولى أولوياتها، وأهم أهداف سياستها الخارجية. وفي هذا الإطار، من المقرر أن يقدّم وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس للرئيس ترامب الخطط العسكرية التي تتوخى تحقيق هذا الهدف بحلول الأول من يوليو المقبل. وبالنظر إلى تصميم الولايات المتحدة وقدراتها والدعم الذي تحظى به من قبل حلفائها، فبوسعنا أن نتوقع أنه في غضون عام أو نحوه سيتم قتل أو اعتقال آخر مقاتلي «داعش» الذين يوجدون الآن في سوريا والعراق، داخل عاصمتهم «الرقة»، وبذلك، سيتم القضاء على آخر ما تبقى من بنية «داعش» كتنظيم إرهابي يسعى لبناء «دولة». غير أنه بالتوازي مع نجاح الحملة العسكرية، هناك على الأقل ثلاثة أسئلة مقلقة يجب على إدارة ترامب وشركائها في الائتلاف الدولي الإجابة عليها:
- ما هو تأثير هذه الهزيمة العسكرية على مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من أنصار «داعش» والمتعاطفين معه عبر العالم؟ - وما هو تأثير الهزيمة العسكرية على الاتجاهات المستقبلية للنزاعات السياسية والعسكرية التي تنشط فيها مجموعات مسلحة تابعة لـ«داعش»: في أماكن أخرى من سوريا، وفي ليبيا، ومصر، وأفغانستان، ونيجيريا، وإندونيسيا، والفلبين؟
- وبغض النظر عما تستطيع القوات العسكرية الأميركية تحقيقه ضد تنظيم «داعش»، ما هو الشكل أو الأشكال التي ستتخذها «دولة داعش» الثورية المقبلة، وفي أي منطقة جغرافية من العالم ستؤسس نفسها (باكستان أم ليبيا أم أفغانستان أم اليمن أم قطر)؟
الأسئلة الثلاثة جميعها تستحق تحليلاً مطولاً، ومن واجب كل أعضاء الائتلاف تجاه مقاتليهم ومقاتلاتهم، ومواطنيهم ومواطناتهم، تقديم تحليلات وإجابات على هذه الأسئلة الملحة. ونركز هنا على السؤال الثالث، ولكنه يقدم في الوقت نفسه بعض الملاحظات التي تتعلق بالجانبين الأولين. إن فكرة «دولة إسلامية» هي فكرة يمكن أن يتعاطف معها كثير من المسلمين. لكن إذا كان هناك من يرى أنه ليس لدى العالم خيار غير التعايش مع الدول الإسلامية (أو الدول اليهودية أو المسيحية) إنْ كانت تلك هي الطريقة التي تتطور بها السياسة في بعض المناطق. وبالفعل نستطيع جميعاً الاستفادة من وجود دول دينية، فإن هذا الكلام صحيح فقط طالما أن هذه الدول تكنّ الاحترام اللازم للسلام وأمن البشر والازدهار الاقتصادي. فالخطأ الأكبر الذي ارتكبه تنظيم «داعش» ليس إعلانُه قيام دولة وإنما اتباعه فكراً ثورياً وعنيفاً، (وإنْ كان أصولياً حتى النخاع)، بموازاة مع شنه هجمات مباشرة ضد مواطنين أجانب بأكثر الطرق وحشية وافتقاراً للإنسانية.
ولا شك أن تنظيم «داعش»، قام بإنشاء شبكة دعم دولية من خلال الاعتماد على المغتربين المتطرفين من أبناء دينه، مستخدماً أشكال تواصلٍ حديثة ذات جاذبية كبيرة بالنسبة لمجموعات عمرية معينة مثل الشباب. وبإلقاء نظرة استشرافية على المستقبل، يمكن القول إن الشكل المقبل لتنظيم «داعش»، أو التنظيم الذي سيخلفه، سيستفيد من أخطاء تنظيم «داعش». ذلك أن ظهور «أفاتار» أو شكل راديكالي جديد لتنظيم «داعش» بات شبه مضمون تقريباً، نظراً لتجربة «داعش» في التعبئة العالمية. وقد اعترف وزيرُ الخارجية الأميركي الحالي «ريكس تيلرسون» بهذه النتيجة، وإنْ لم يقدّم تفاصيل كافية بشأنها، خلال جلسات تثبيته في منصبه أمام مجلس الشيوخ حين علّق عقب النجاح في القضاء على السيطرة الميدانية لـ«داعش» في سوريا قائلًا إنهم «سيتحولون إلى شيء آخر».
وثمة العديد من العوامل والظروف الأخرى التي ستُسهم في الظهور المبكر لتنظيمٍ متطرف جديد خلفاً لداعش. فإلى جانب حقيقة أن أنصار تنظيم داعش مازالوا لم يُقض عليهم في بلدان أخرى، وفي بعض الحالات يزدادون قوة، فإن الدوافع والعوامل الاجتماعية الأعمق لعزلة أتباع داعش ومنظّريها تزداد سوءاً على ما يبدو. هذه العوامل لخصتها بوضوح دراسةٌ أنجزتها «مصلحة أبحاث الكونجرس» ونُشرت في يناير 2017 قبل أيام فقط قليلة من تنصيب الرئيس. وشملت: الطبيعة المترابطة للنزاعات والأزمات السياسية في العراق وسوريا وبلدان أخرى؛ و تدخل وتنافس لاعبين من الإقليم ومن خارجه مثل روسيا وإيران وتركيا ودول الخليج العربي؛ التعاون الدولي المحدود في مجالي الاستخبارات ومحاربة الإرهاب؛ وتوافر السلاح بشكل سهل؛ بيد أن أحد أهم العوامل الذي يبدو أنه سيزداد ويتكثف، ولكن التقرير لم يأتِ على ذكره بشكل صريح، هو الحملات العسكرية المتواصلة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، غالباً دعماً لأنظمةٍ سلطوية ضد مجموعات مسلحة مسلمة راديكالية، فهذا يؤدي لسقوط المسلمين في التشدد والتطرف.
أي منطقة جغرافية؟
لقد مزّق تنظيمُ داعش الخرائط القديمة وخلق حركة عالمية منتشرة جغرافياً؛ و«الدولة الإسلامية» المقبلة قد تظهر داخل دولة موجودة فقط، ولكن احتمال وقوع ذلك يظل ضعيفاً. وبالمقابل، فإن المنطقة الأكثر عرضة لمثل هذا السيناريو من غيرها هي المناطق المسلمة الممتدة على الحدود البحرية الإندونيسية- الفلبينية، مثلما أشار إلى ذلك تقرير في صحيفة «نيويورك تايمز» الشهر الماضي. ذلك أن التنظيم الذي سيخلف داعش بعد القضاء عليه لن يكون في حاجة للتقيد بمنطقة جغرافية معينة وسيكون أكثر خطراً إن استطاع إنشاء خلايا في غاية الانضباط في بلدان مهمة، وذلك على غرار ما فعلت الشيوعية الدولية.
ما هي الخطة الأميركية؟
إن «تيلرسون» محق؛ ولكن علينا جميعاً أن نولي انتباهاً أكبر إلى تنبؤه. فمعظم اهتمام السياسات كان منصباً على فرار مقاتلي تنظيم «داعش» للعودة إلى بلدانهم الأصلية. غير أن تلك ليست هي المشكلة الأكبر التي نواجهها اليوم. وبالمقابل، فإننا في حاجة لتقييم ودراسة ما سيكون عليه شكل «الدولة الإسلامية» المقبلة وتحديد الوسائل التي سنحتويه بها. ولهذا الغرض، فإن طريقة تنفيذ العمليات العسكرية النهائية ضد الرقة، وكل الدبلوماسية من هنا فصاعداً، يجب أن تؤطرها استراتيجيةُ جديدة لاحتواء التنظيم الثوري الجديد الذي سينبعث من رماد «داعش» الحالية بعد القضاء عليه.
التعليقات الأخيرة لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي حول تزايد الهجمات الإرهابية في الجزر البريطانية وعبر العالم خلال الآونة الأخيرة دقيق وفي محله: «لقد طفح الكيل!»، ولكن تلميحها إلى التخلي عن بعض وسائل حماية حقوق الإنسان ليس خطة. وبالمقابل، علينا أن نجترح خطة من أجل احتواء «الدولة الإسلامية» الثورية المقبلة لأن الهزيمة العسكرية لهذه الفكرة غير ممكنة.
*أستاذ بجامعة «نيو ساوث ويلز» الأسترالية وزميل «معهد شرق غرب» في نيويورك
تريبيون نيوز سيرفس
ترجمة صحيفة الاتحاد