نيرڤانا محمود:
حلب 17 أكتوبر 1850. اليوم الثاني من عيد الأضحى 1266ه. اندلعت أعمال شغب وعنف في المدينة، حيث رفض مسلمو المدينة التجنيد العثماني الإجباري ثم صبوا جام غضبهم على الأقلية المسيحية، متهمين إياها بتعاظم النفوذ والثراء الفاحش بعد الإصلاحات العثمانية.
لم يتدخل البشوات العثمانيون وقواتهم لفرض الأمن، وأعيان المدينة بدورهم، اختبأوا وراء أسوار قصورهم.
أما النتيجة.. مقتل الآلاف (14 ألف بحسب بعض التقارير) وهجرة العديد من المسيحيين من المدينة، وعرفت الأحداث تاريخيا "بقومة حلب".
تذكرت "قومة حلب" وأنا أشاهد صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو يقدم لضيفيه الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني حسن روحاني، فاكهة التين، عقب القمة الثلاثية التي جمعتهم بأنقرة، الإثنين الماضي.
وبينما يقتل المدنيون السوريون في إدلب، كما قتل الآلاف غيرهم في حلب، لا يجد الرئيس التركي أي غضاضة في تقديم الفاكهة لزعيمي إيران وروسيا اللذين ساهما ويساهمان في القتل في سوريا.
لم يكتف أردوغان بهذا الأمر، فقد أمعن، في نفس اليوم، في انتقاد السعودية بسبب حربها في اليمن بالرغم من أنه أيد هذه الحرب في 2015 من منطلق "الحفاظ على أمن الخليج".
التاريخ، حديثا أو قديما، هو بالنسبة للرئيس التركي أداة سياسية لا أكثر أو أقل.
دعونا نتخيل كيف سيكتب أحباء أردوغان تاريخ الثورة السورية؟ هل سيكتبون أنه الزعيم الذي شجع السوريين على الثورة ضد الأسد ثم تراجع وقدم التين لداعمي الأسد؟
بالطبع لا. فمحبو أردوغان سيدافعون عن سياسته الخارجية في سوريا وغيرها دفاعا مستميتا ويصورونه كالمضطر الذي يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، بينما سيلعنون أي زعيم عربي لو أقدم على الفعل نفسه.
بنفس المنطق والأسلوب يصور أحباء أردوغان تاريخ الدولة العثمانية، فيدعون أنها كانت فتحا مبينا ونورا للمؤمنين واستقرارا للمواطنين.
أما الواقع التاريخي فأكد كيف حكم العثمانيون شعوبا لم تطلب حكمهم، ويختلفون معهم في اللغة والعادات والتاريخ. وكيف اتبع العثمانيون سياسات داخلية تهدف فقط لتحقيق استقرار أمني وجباية الضرائب، ولم يهتموا بخلق أي استقرار مجتمعي أو تآلف بين الطوائف والأعراق. فكانت النتيجة استقرارا وهميا ينبع من اختلاط سطحي بين الطوائف وقلة في الترابط المجتمعي، مما أدى إلى زرع بذور الفتن وانعدام الثقة في المجتمعات العربية.
اعتمد العثمانيون الجدد في تركيا، منذ وصول أردوغان إلى سدة الحكم، وتحالفه مع حركات الإسلام السياسي العربية، على سياسة دعائية تهدف إلى تجميل الخلافة العثمانية في عيون الشباب العرب.
على سبيل المثال، يقدم العثمانيون الجدد تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني على أنه السلطان "المتواضع" "الوطني" الذي "حج سرا إلى مكة"، ورفض "بيع فلسطين للحركة الصهيونية".
ساهمت جودة الإنتاج الإعلامي التركي في تغلغل رسالة العثمانيين الجدد في عقول الكثير من الشباب العرب الذين يحلمون بيوتوبيا الأمة الإسلامية. وبالطبع يتغاضى هذا الشباب الحالم عن جوانب أخرى في حكم السلطان عبد الحميد كالبوليس السري وفرض الرقابة، وحل البرلمان (مارس 1877)، كما أوقف العمل بالدستور (فبراير 1878(
المهم في نظر هؤلاء هو الحج ورفض الصهيونية، والباقي بالنسبة لهم "نثريات" غير مهمة.
يعمد العثمانيون أيضا إلى تجنب مناقشة الأحداث التاريخية التي اصطدموا فيها بمواطنيهم العرب، فلا تتوقع أن يصدر مسلسل تركي مثلا عن "قومة حلب"، لأنها من الأحداث التي لا تناسب ماكينة الدعاية التركية.
كما يعمد المؤرخون الأتراك إلى تسليط الضوء على الإصلاحات العثمانية وتصوير أنها أدت إلى تحسين أوضاع الأقليات، ويلومون العرب على المجزرة في حلب. بينما يوجه مؤرخون آخرون اللوم للقيادات العثمانية في المدينة لعدم قدرتهم على بسط الأمن والحفاظ على أرواح المواطنين.
في الواقع، إن الإصلاحات العثمانية، فتحت الأبواب لما يصفه البعض بمساواة بين الطوائف، بدون أي إعداد مجتمعي صحيح لهذه التغييرات الجذرية، مما أدى إلى تصاعد التوترات والقلاقل وحتى الثورات الداخلية.
باختصار، لم ينتج الحكم العثماني أمة واحدة متجانسة كما يدعي الإسلامويون، بل كانت شعوبا وطوائف مختلفة لا يجمعها إلا حكم المحتل، مما أدى إلى تحديات أكبر بعد انتهاء الحكم العثماني.
أدلجة التاريخ هو داء عضال في الشرق الأوسط، وسلاح يهدف إلى إجهاض أي نهضة مستقبلية لشعوبنا العربية.
الدرس المستفاد من أحداث الماضي، كـ"قومة حلب"، ليس في استخدامه كدعاية مضادة في الحرب ضد الأتراك أو غيرهم، بل في استخدامه لتسليط الضوء على ضرورة قيام وتدعيم دولة المواطنة في جميع بلادنا العربية، حتى تستوي فيها كل الأعراق والأديان تحت مظلة القانون. دولة تبني الثقة بين الأغلبية والأقليات، وتجمعهم على حب الوطن والولاء له. دولة لا تمجد الماضي، بل تعرضه بموضوعية هادئة، وتتعلم من أخطائه بدون تزييف وتهويل.
فمن يمعن في النظر إلى الخلف لن يستطيع التقدم للأمام أو مواجهه التحديات.