الفقه وتقنين الشريعة - مقالات
أحدث المقالات

الفقه وتقنين الشريعة

الفقه وتقنين الشريعة

رضوان السيد:

 

موضوع «التقنين» شديد الأهمية والخطورة في مجالات التشريع الإسلامي لحوالي القرن ونصف القرن، سواء أكان المقصود التراث الفقهي الإسلامي أم الشريعة عامة. وهو يحتاج للتأمل والمراجعة. وقد تنبهتُ قبل أيام إلى عمل أحمد الشمسي، الأستاذ بجامعة شيكاغو، الصادر عام 2013 بعنوان «تقنين الفقه الإسلامي». والشمسي ينسب تلك العملية قديماً إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي وضع قواعد تقنينية للاجتهاد الفقهي (في كتابه «الرسالة») مُغادراً تقاليد العمل في مدرسة أهل المدينة (الإمام مالك)، وممارسات مدرسة الرأي عند العراقيين (الإمام أبو حنيفة وتلامذته).

ويرى الشمسي أنّ تقعيدات «الرسالة» وتقنيناتها جرى تطبيقها في كتابه الأم الذي جمعه تلامذة الشافعي واختصره البويطي والمزني وآخرون. وهذا الأمر من وجهة نظره هو الذي حوَّل تلك التقاليد والممارسات إلى مذاهب، سار إليها الأحناف بعد الشافعية، ثم المالكية وأخيراً الحنابلة. 
ولا أريدُ في هذه العجالة دراسة القضية، بل همُّنا الآن مسألة التقنين أو تحويل الشريعة إلى قوانين مُلزمة. وقد بدأ عمليةَ التنظيم والتقنين الفقهاءُ العثمانيون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانوا يستندون في ذلك لتراث الفقه الحنفي. وظلّت أبواب الفقه تتحول إلى قوانين حتى صدور آخِرها: قانون العائلة عام 1917. 

وجاء المشروع الآخر لتقنين الفقه (على مثال القانون المدني الفرنسي) على يد الفقيه الدستوري المصري عبد الرزاق السنهوري (في كتابه «الخلافة» 1926)، ومشروعه أكثر طموحاً وشمولا وخطورة. لكنه كان ما يزال يتحدث عن التراث الفقهي وليس عن الشريعة. السنهوري أدخل الموضوع في مسألة مشروعية الدولة الوطنية الحديثة في عالم الإسلام. إذ ليست المشكلة (في نظره) في القائد الذي يمكن انتخابه من الجمهور أو من البرلمانات، بل في التشريعات السائدة، والتي ينبغي أن تكون إسلامية. ومن أجل تكوين المشروعية يمكن تقنين الفقه الذي يتعين إدخال إصلاحات جذرية عليه ليتوافق مع مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون. ثم لابد أن تكون هناك نهضة قانونية وتشريعية مستمدة من روح الإسلام، وتتشارك القيم والتقديرات مع الثقافة الإنسانية المعاصرة. ولأنّ السنهوري شارك في صياغة القوانين المدنية في مصر وثماني دول عربية وإسلامية أخرى، فقد أدخل من التراث الفقهي الذي كان يعرفه جيداً موادّ كثيرة، وألّف في «مصادر الحق» في الفقه، وما عاد إلى مسألة المشروعية، وهل هي متحققة أم لا.

بعد السنهوري، ومع ظهور حركات وأحزاب الصحوة، ما عاد هناك حديثٌ عن تقنين الفقه، بل صار الكلام على تقنين الشريعة وتطبيقها! واعتبر الحزبيون أن الدولة الوطنية ضعيفة الشرعية، لأنّ الشريعة غير مطبقةٍ فيها! لكن ما هي الشريعة؟ وما علاقتها بشرعية الدولة؟ وكيف يكون تطبيقها؟.. كلها مسائل ما لقيت كبير عناية. ونعلم أن الشريعة اسمٌ من أسماء الدين أو عَلَمٌ عليه، والدين له أربعة أركان: الوحدانية، والنبؤات والكتب والرسالات، واليوم الآخر، والأخلاق والمعاملات.. وكلها سائدٌ الاعتقاد بها في مجتمعاتنا. والدين قوةٌ ناعمةٌ، وهو يعتمد على دخلنة القيم، وليس على تحويلها إلى قوانين تُلزمُ الدولُ الناسَ بها! فالدولُ مهمتُها حُسْنُ إدارة الشأن العام، وليس إلزام مواطنيها بدين مقنن، إذ «لا إكراه في الدين»!
لقد سادت في أوساط المتعلمين المتدينين فكرة تطبيق الشريعة وإقامة السلطة التي تُلزمُ الناس بها! وكلها أوهامٌ. والأوهام في الأعراف والعادات والهواجس خفيفة الوطأة، وسُرعان ما تزول. أما الوهم القائل بأنّ الوجود الديني مهدَّد، فهو ادّعاءٌ لا يجوز السكوت عليه ولا التسليم به. 

لستُ على ثقة بأنّ الشافعي قام بتقنين الشريعة قديماً! لكني على ثقة أنّ الدعوة لتطبيق الشريعة داءٌ عضال يهدّد الدين قبل الدولة!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت

الاتحاد

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث