علي أبو الخير:
كما هو معروف، وكما كتبنا وكتب غيرنا، أن أكثر مناقب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت موضوعة في زمن الفتنة الكبرى وما بعدها، عندما استعمل المسلمون سلاح الكذب (المباح) على لسان النبي، يمدح هذا الصحابي أو ذاك، فهذا ذو النورين وهذا أمين الأمة وثالث سيف الله، وآخر حواري النبي.. وغيرها من المناقب التي أُضيفت في ما بعد.
ولا نقصد من نقد تلك الأحاديث إلا بقدر ما يؤكد لنا أن بعض تلك المناقب تؤخذ على صاحبها أكثر من أن تُشيد به، وقد تلقى الخلف من السلف تلك المناقب كضرورة إيمانية، يتم تكفير قائلها، وهو ما أسّس ما يشبه الدين البشري أكثر من الدين النبوي القرآني.
نأخذ مثلًا الروايات التي تشير إلى عدل وزهد وورع وفقر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، المشهور بالفاروق، الذي فرّق بين الحق والباطل، فنجد رواية مشهورة خلاصتها أن ملك الفرس أرسل رسولا إلى عمر بن الخطاب عنه، فلما دخل المدينة سأل أهلها: أين ملككم؟ فأجابوه: ليس لدينا ملك بل لنا أمير، وقد ذهب إلى ظاهر المدينة، فذهب الرسول في طلب عمر، فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمل، وقد وضع عصاه كالوسادة والعرق يتصبّب من جبينه، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه، وقال: "رجل تهابه جميع الملوك وتكون هذه حاله.. ولكنك حكمت فعَدلت فأمِنْت فنِمْت يا عمر"، وقد أسلم رسول ملك الفرس بعد ذلك..
وتلك الرواية ذكرت اسم رسول ملك "فارس" وهو الهرمزان. ولكننا عند نقد تلك الرواية، نجد أولًا أن "الهرمزان" كان قائدا فارسيا، جاء المدينة المنورة أسيرا مع باقي الأسرى، وذلك بعد هزيمة الفرس ومقتل قائدهم "رستم" في معركة القادسية"، وقد أسلم "الهرمزان" وقيل إنه حسُن إسلامه، وعاش بالمدينة مثل باقي الموالي المسلمين، وبالتالي لم يكن رسولا لـ"كسرى يزدجرد الثالث" الفارسي الهارب في جبال فارس حتى قُتل، والكسرى الفارسي الأحمق هو من مزّق رسالة النبي، أنفة واستكبارا.. كل هذه الدلائل تشير إلى أن "الهرمزان" كان من الموالي المسلمين، ويعرف الخليفة عمر، ويقابله ويصلي خلفه، فلا توجد ضرورة للبحث عن الخليفة، ومن الجدير بالذكر أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب قتل "الهرمزان" بعد اغتيال والده الخليفة "عمر بن الخطاب" دون وجه حق، ولكن عثمان بن عفان سامحه وأفرج عنه، مما سبّب خلافا بين الصحابة، فكان علي بن أبي طالب يرى ضرورة القصاص من "عبيد الله"، وقال له "لو ظفرت بك يوما يا فاسق لقتلتك بالهرمزان"، وقد قُتل "عبيد الله" وهو يشارك مع "معاوية" في معركة "صفين" ضد "علي بن أبي طالب"، وهذا استطراد لابد منه.
ونعود لرواية نوم الخليفة في الشارع، بما لا يليق، حيث تقول الرواية إن عمر بن الخطاب خليفة المسلمين -أمير المؤمنين- رأس الدولة الناشئة القوية ينام في عرض الطريق فوق الرمال وتحت أشعة الشمس الحارقة، وهو أمر لا يفعله عمدة أو رئيس مجلس محلي أو محافظ أو حتى رجل عادي، فكيف من يفعل ذلك هو رئيس دولة المسلمين، وهو الذي يعلم أن النبي مثلًا لم ينم في الشارع، وهو النبي القدوة، ولم يؤثر عن صحابي آخر ممن هو أقل منزلة من "عمر" أنه نام في عرض الطريق، خصوصا إذا علمنا أن "عمر" رأس الدولة له بيوت فيها زوجاته، فكيف لا يحلو له سوى النوم في أحد الشوارع، يراه ويمر من حوله المسلمين، بعضهم مُعجبون بعدله، والآخرون مستنكرون أن ينام الخليفة في الشارع على الملأ، والفترة التي ربما كان ينام فيها، هي فترة القيلولة، ففي النهار كان يجلس عمر في مقر حكمه داخل المسجد النبوي، يحكم ويقاضي ويستقبل الوفود وقادة الجيوش، وبعد صلاة الظهر أو العصر، يرتاح قليلا من عناء العمل، فيذهب للنوم في بيت إحدى زوجاته. وفرضًا أنه من فرط تعبه الشاق، كان يمكنه أن ينام القيلولة داخل المسجد النبوي، رغم صعوبته على نفسه. والنبي عليه السلام رأى علي بن أبي طالب ينام على حصى المسجد، حيث لم يكن يوجد موكيت أو سجاد أو حتى مجرد حصير، ولكن النبي لام عليًّا لومًا خفيفًا، وقال له "انهض أبا تراب"، وكان علي قد غضب من فاطمة الزهراء فترك لها البيت ونام في المسجد، ورآه النبي فمنعه، ولكنّ المستبدين المسلمين الأمويين جعلوا من لفظ "أبي تراب" شتيمة لعلي على المنابر. على أية حال، نرى أن نوم المسلمين أو غير المسلمين في الشوارع هكذا أمر غير مستحب عند كل الأمم، وعندما رووا هذه الرواية عن "عمر" أخذها المسلمون بالتصديق والتوقير الإيماني الزائف، الإيمان الروحي الذي فيه بعض أسطورة تخفف حياة المساكين والعوام، ولكنها لا تكون كذلك لأي باحث أو دارس، أو مجرد من يشغّل عقله، هذا بالإضافة إلى أن رواية نوم الخليفة عمر في الشارع تسيء إليه، أكثر مما تظهر فقره وزهده.
عمر الخليفة لم ينم في الشارع، ولم يلبس جلبابًا فيه 15 أو 17 رقعة، ولم يذهب لفتح مدينة "إيلياء الكبرى" وهي "مدينة القدس"، بعباءة مهترئة، ولكنّ المؤرخين زعموا أنه سافر من المدينة مرتديا جلبابه المهلهل المقطع بـ17 رقعة مشينة، ثم ركب جملا من المدينة للقدس، ويتناوب عليه مع "أبي عبيدة بن الجراح"، وكأنّ الجمال كانت قليلة وغير متوفرة لدى المسلمين، لدرجة عدم وجود جمل آخر يركبه الخليفة أو "أبو عبيدة"، ليأخذ الخليفة جملا ويأخذ رفيقه جملا غيره. وهنا لا ننسى رواية مزعومة تفيد أن قائد جند الروم أو "البطريرك" في بيت المقدس رأى "أبا عبيدة" راكبا الجمل، و"عمر" يسير على قدميه، فظنّ أن الأول هو الخليفة، ولكنّه صُدم عندما رأى أن الخليفة هو القادم على قدميه بجلبابه المُرقّع، وهو أمر يثير الغرابة، لأنه يُميت العقل، وينسب إلى المسلمين الإيمان بالخرافة أكثر من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
ومن ضمن مزاعم المناقب العُمريّة أنهم قالوا إن "عمر" لُقّب بالفاروق بسبب موقف يدلّ على قوة إيمانه، وصلابة عقيدته، فتذهب الرواية إلى أن مسلمًا منافقًا ويهوديًّا تخاصما في أمرٍ، فقال اليهودي: نتحاكم إلى رسول الله، وقال المنافق: نتحاكم إلى "كعب بن الأشرف"، فتحاكما إلى النبي عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي، فقال المنافق: هلمّ فلنتحاكم إلى "أبي بكر"، فحكم "أبو بكر" لليهودي، فقال المنافق هلمّ نتحاكم إلى "عمر"، فأتيا عمر، فأخبر اليهودي عمر أنّهما تحاكما إلى النبي وإلى "أبي بكر" فحكما له، فأمر عمر بأن يلبثا قليلًا، ثمّ دخل بيته وأحضر سيفه فضرب به عنق المنافق فقتله، وهو يقول "هذا جزاء مَن لا يرضى بحكم الله ورسوله"، فعُرف بين الصحابة بالفاروق، لأنّه فرّق بين الحق والباطل، وهو أمر غير منطقي، فليس من المعقول تصديق أن "عمر" قتل رجلا دون محاكمة ودون استئذان النبي، وهو لا يمكن أن يعرف المنافق من غير المنافق، لأنه لم يشقّ عن صدره.
ثم زعم المؤرخون والمفسرون أن الشيطان كان يخاف من "عمر بن الخطاب" لدرجة أنه إذا رآه يسير في طريق، يجري الشيطان لطريق آخر حتى لا يقابله، ثم تورّط هؤلاء المؤرخون والمفسرون وزعموا أن الشيطان نفسه تمكن من سحر الرسول عليه السلام، وهذا إفراط نراه غير عادل للصحابي "عمر"، و"عمر" لا يحتاج إلى مثل تلك المناقب، التي تسيء إليه أكثر مما تشيد به، فهو غني عنها، ولكنها في النهاية أساءت لعمر، وأساءت للمسلمين الذين أخذوها حتى الآن بفكر إيماني زائف ولكنه مُصدق، فغاب العقل وظل المسلمون على تأخرهم الإيماني والعقلي على السواء.. رحم الله عمر ورحم الله الأمة من غفلة رجال دينها وعوام الأمة على السواء.