بابكر فيصل:
قام رئيس مجلس السيادة السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الأسبوع الماضي برحلة لدولة أوغندا التقى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، بمدينة عنتيبي في أول خطوة رسمية تخترق جدار القطيعة وتمهد لتطبيع العلاقات بين البلدين.
الرحلة التي تمت في سرية كاملة ولم يكشف عنها البرهان إلا بعد عودته للبلاد، أثارت جدلا واسعا في الأوساط السودانية، حيث أعلن مجلس الوزراء في بيان رسمي عدم علمه بها واستنكر قيام رئيس مجلس السيادة بهذه الخطوة في مخالفة واضحة للوثيقة الدستورية التي تمنح صلاحية مباشرة العلاقات الخارجية لرئيس مجلس الوزراء.
كذلك انقسم السودانيون حيال خطوة البرهان إلى معسكرين، أحدهما معارض بشدة باعتبار أنها تخالف الموقف السوداني الثابت تجاه إسرائيل، وهو الموقف الذي أكدته القمة العربية التي عقدت في الخرطوم عام 1967 والمعروفة بقمة اللاءات الثلاثة: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف".
بينما رأت قطاعات واسعة من السودانيين أنه يجب النظر للخطوة في ضوء المصلحة الوطنية العليا، حيث أن العديد من الدول العربية (منها دول مواجهة)، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) الممثل الأكبر للشعب الفلسطيني، قد أبرمت معاهدات صلح مع إسرائيل، وأنه إذا كانت هناك فوائد ستعود على البلد من التطبيع فيجب المضي في هذا الطريق وتطوير خطوة البرهان بما يخدم مصلحة السودان.
وإذا كان من الطبيعي بروز مثل هذه الخلافات في وجهات النظر حول قضية التطبيع في إطار بحث المصالح الوطنية والعلاقات بين الدول والشعوب، فإن الأمر غير الطبيعي هو محاولة نزع تلك التباينات في الرؤى عن إطارها الحقيقي (شؤون الدنيا) وإلحاقها ببعد ديني يمنح إحدى وجهتي النظر سندا إلهيا بينما يُصوِّر الأخرى وكأنها تخالف إرادة السماء.
ذلك ما فعله رجل الدين السلفي، عبد الحي يوسف، الذي خرج على الملأ بتصريح عبر برنامج "الدين والحياة" الذي تبثه قناة "درر" الفضائية قائلا إن لقاء البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي يمثل "خيانة لله ولرسوله!".
نسى عبد الحي يوسف أو تناسى عمدا أن القناة الفضائية التي تحدث عبرها والتي تُعرِّف نفسها بأنها قناة "تعالج مختلف القضايا من منطلقات شرعية على منهج أهل السنة والجماعة" تبث برامجها من مقرها في دولة تركيا، التي يعلم القاصي والداني أنها دولة تربطها علاقات دبلوماسية وتجارية وعسكرية وثيقة بإسرائيل، فكيف إذن تسنى لعبد الحي يوسف الإقامة ببلد يخون "الله ورسوله"؟!
من ناحية أخرى، لماذا لم يفتح الله على عبد الحي يوسف بكلمة واحدة في حق دول عربية وإسلامية أخرى تقيم علاقات مع إسرائيل من بينها دولة قطر التي تتبادل مع الأخيرة مكاتب الاتصال التجاري منذ عام 1996 حين وقع البلدان اتفاقيات بيع الغاز القطري لإسرائيل وما صاحبها من إنشاء لبورصة الغاز القطرية في تل أبيب!
يبدو أن تصريحات عبد الحي يوسف حول خيانة البرهان لله ورسوله لمجرد اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلي لا تخرج عن إطار المزايدة الرخيصة التي تسعى لأن تغطي المواقف السياسية برداء الدين من أجل كسب مشروعية لموقف دون الآخر.
غير أن الأمر الأهم في هذا الإطار هو أن هناك رجال دين آخرين، ينتمون للتيار السلفي الذي ينتمي له عبد الحي يوسف، قد جوزوا إقامة العلاقات مع إسرائيل، ومنهم السعودي ابن عثيمين الذي قال إن الصلح مع الأخيرة يعتبر "مسألة سياسية" وليس شأنا دينيا.
كذلك أفتى رجل الدين السلفي الآخر ومفتي عام المملكة العربية السعودية السابق، عبد العزيز بن باز، بجواز الصلح مع إسرائيل وقال: "كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك. وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية".
وأشار بن باز في فتواه إلى أن "الواجب على كل من تولى أمر المسلمين، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر".
إن التباين في الفتاوى بين أصحاب المدرسة الفقهية الواحدة (السلفية أو أهل السنة والجماعة) حول قضية التطبيع مع إسرائيل يبين بجلاء أن القضية في جوهرها سياسية، وأن كل طرف يسعى لتبرير وتعضيد موقفه تجاهها عن طريق الاستعانة بالدين باعتباره المصدر الأكبر للشرعية في مجتمعات العالم العربي.
من الأجدى لرجال الدين الابتعاد عن الخوض في أمور السياسة التي تتحكم فيها قواعد معروفة تعتمد على موازين القوة وتبدل المصالح وتغير الأحلاف، ذلك لأن التدخل السافر في هذه الأمور لا بد أن يوقعهم في شراك التناقض التي تكشف في بعدها العميق أن ظاهر منطلقاتهم هو الحرص على الدين بينما باطنها هو الأدلجة الهادفة لخدمة مواقف ومرامي سياسية بعينها.