تطور الحرية والحرية الدينية - مقالات
أحدث المقالات

تطور الحرية والحرية الدينية

تطور الحرية والحرية الدينية

محمد المحمود:

 

ينفتح الأفق الليبرالي الرحب على "عالم الحريّات المتنوع"، هذا العالم الحيوي الذي تُثِير بعض "تنويعاته" إشكالات واعتراضات لدى كثير من ألوان الطيف الاجتماعي المحافظ، بل ولدى عدد غير قليل من أولئك التواقين إلى "التحرر" الذين يحاولون تفصيل وتنضيد مسارات الحرية على ضوء تصوراتهم الخاصة: الدينية أو المذهبية أو المَناطقية/ الوطنية أو الثقافية...إلخ التي تمتلك شروطها الخاصة للمتصور الذهني عن الحرية، ومن ثم؛ لمتثلاتها في الواقع.

إذن، ثمة حرية، وتنوع حرياتي، وثمة تأويلات متعددة لأصل الحرية ولتنويعاتها. ومع هذا، ترجع كل خيوط هذا الاختلاف إلى تصور عام ـ وربما عائم أو غائم متَضَبّبٍ للحرية، يقضي بأنها: غياب الإكراه وتعدد الخيارات. وحيث لا يمكن أن يغيب الإكراه بالمطلق، ولا أن تتعدد الخيارات المتاحة إلى ما لا نهاية؛ فالحرية تبقى نسبية، مشروطة بظرفها التاريخي والجغرافي؛ فضلا عن بقية الشروط الثانوية: الشروط الأصيلة، أو تلك التي تُفْرَض عليها على سبيل الادعاء.

على أي حال، تبقى هذه النسبية وهذه الظرفية في تحديد مفهوم الحرية، وفي مقاربة إمكانية تفعيلها في الواقع، ملمحا أصيلا وفارقا يؤَكد أن الحرية متطورة بالضرورة. تطوّر الحرية، أو تطوّر الوعي بالحرية، لا ينفك بحال عن مسار تطَور الوعي بالإنسان. وطبعا، ليس شرطا أن يكون تطور الحرية أو تطور الوعي بها تطورا تصاعديا يُلازم حركة التاريخ في تقدمها الفيزيائي المُحَايد؛ إذ إن إنسان العصر الحجري، أو ما قبله بقليل أو كثير، يصعب الحكم عليه بأنه أقل أو أكثر حرية من الإنسان في العصر اللاحق: عصر الحضارات الزراعية التي نشأت على ضفاف الأنهار قبل عشرة آلاف عام.

وإذا كان قد سبق لي القول في مقال سابق أن الحرية لا تعني الفوضى، ولا العكس، فإن الحرية الحقّة التي نُشير هنا إلى تطوّرها وتنوّعها هي تحديدا: الحرية في إطار ضمانة القانون. فلا حرية خارج القانون؛ لأن الإنسان بلا ضمانة قانونية مَدعومة بالقوة، يبقى عُرْضَة للاعتداء من كل أحد، في كل وقت، وفي كل ظرف، ولأي سبب، بل وبدون سبب. أي أنه سيفتقد إلى قاعدة الأمان التي تنهض عليها الحرية، ولا حرية بدونها. وهذا السبب هو ما جعل الحرية لا تُطرح و لا تُنَاقش أصلا إلا في سياق التشريع القانوني المضمون بقوة الدولة، وليس خارج هذا التشريع، ولا خارج حماية دولة القانون.   

لهذا، فإن التطور المشار إليه إن هو إلا مقاربة لمسألة الحرية في القرون الخمسة الأخيرة التي نشأ فيها مفهوم الدولة الحديثة، وما تعالق به ومعه من مسائل التشريع للسلطات وللحريات. ومعلوم أنه منذ بداية الإصلاح الديني أوائل القرن السادس عشر(1517)، والجدل محتدم حول مسألة الحرية في صورة الجدل حول مسألة الحرية الدينية، إذ كانت الحرية بوجه عام تناقش من خلال أهم محاورها وتفاعلاتها مع الشأن العام، وخاصة الشأن السياسي.

لقد قدّم الإصلاحُ الديني خطوة رائعة إلى الأمام فيما يخص مسألة الحرية؛ على الرغم من كل صور التعصّب المرافقة لمسيرة الإصلاح. الإصلاح بذاته مجردا طرح مسألة التعدّد، وهي بالضرورة تعني مسألة الحرية من حيث هي فضاء خياراتٍ ممكنة، بصرف النظر عن طريقة التعاطي مع هذه الخيارات. وهذا يفسر كيف أن التعاطي مع الحرية الدينية في إنجلترا (التي تحولت إلى بروتستانتية) أخذ شكلا متصاعدا، فإذا كان من يُنْكِر ألوهيّة المسيح مثلا، يُحكم عليه بالموت في البداية، فقد أصبح يُحْكم عليه بالسجن، ثم أصبح يُحْكم عليه بالنفي والتجريد من المواطنة (على اعتبار أن مَن لا يُؤمن بعقائد كنيسة الدولة فليس حقيقا بمواطنتها) ثم أصبح لا يُنْفى، بل يَعيش داخل الوطن، ولكن يكون عقابه فقط أنه لا يستحق الوظائف الحكومية (على اعتبار أن مَن لا يُؤمن بعقائد كنيسة الدولة فليس أمينا على مناصبها/ وظائفها)، ثم أصبح يَتولّى المناصب؛ إلا المناصب العليا، ثم أصبح أيُّ مواطن حقيقا بكل حق يحظى به أي مواطن آخر؛ بعيدا عن أي تصنيف ديني...إلخ؛ في مَشهدِ تَصاعدٍ حُريّاتي ديني يعكس تصاعدًا في كل مسارات الحريّة التي كانت تتفاعل جدليا مع بقية مسارات الحقوق في العالم الغربي.

مع هذا، تبقى الخطوة الدافعة الأهم نحو عصر حرياتي هي الخطوة التي كتب فصولها مفكرو عصر الأنوار من مبدأ علماني، وكانت الثورة الفرنسية تَمثّلها العملي؛ على الرغم من كل ما لابس هذا التَّمثَّل من اجتزاء وانتقاء وافتعال، أو حتى إرهاب. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو الإعلان الذي تحتلّ مسألةُ الحرية مَحَلَّ القلب النابض له، هو الذي وضع الأساس ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ للحريات والحقوق التي ينعم بها ـ أو يحلم بأن ينعم بها ـ إنسانُ العصر الحديث، بينما هي لأسلافه الغابرين كانت مجرد هرطقات يستحق المُهرطق بها الإعدامَ حرقا، أو كانت من "اللاَّمفكر فيه" أصلا؛ مما لم يَخْطر على قلب بشر في سالفِ الأيام.        

في ذلك العصر الفارق، كتب فيلسوف التنوير الأكبر/ فولتير يقول: "إن الحرية تتمثّل في ألا يخضع المرء إلا للقوانين". وفي هذا السياق، نجد فولتير يضع الحرية في مراتب/ أولويات
المرتبة الأولى: حرية الشخص الإنساني. فالعبودية تتنافى والطبيعة (ويقصد بهذا، الحرية مقابل الرّق، ألا يكون الإنسان رقيقا هو شرط أول/ مرتبة أولى؛ لا حرية أخرى بدونها)
المرتبة الثانية: ويرى أنها "حرية الكلام والصحافة، الضامنة لسائر الحريات الأخرى".
المرتبة الثالثة: حرية الضمير، النقيض للتعصب الكاثوليكي (يقصد: الحرية الدينية).
المرتبة الرابعة: حرية العمل، أي حق كل إنسان أن يبيع ذراعيه لمن يدفع له أكثر..."إذ العمل هو المُلك الوحيد للذين لا يملكون" (يقصد: أن يكون الإنسان متحررا من الاستعباد الإقطاعي الذي يُجبر الإنسان على العمل وفقَ إرادة صاحب العمل)

هذه هي الحرية، وهذه هي مراتبها التي هي شروط تراتبها؛ وفق ما يراه أحد أهم فلاسفة التنوير. وهي في المؤدى النهائي: الحرية الفردية التي يبني عليها كثيرا من المسائل العملية ذات الطابع الجمعاني (راجع: فلسفة الأنوار، ف. فولغين، ص33)

طبعا، ليس كل مفكري عصر الأنوار على هذا النحو من الوضوح والحسم في مسألة الحرية، فمثلا، كان فيلسوف التنوير القانوني/ مونتسكيو يُشدّد على الاعتدال حتى في العبودية، فقد رأى ألا تهدف الشرائع إلى تصفية العبودية، بل تُهَذِّبها وتُنَقيّها من التجاوزات وتحمي المجتمع من الأخطار الناتجة عنها. وإذا كان يرى ألا تحتوي الدول المعتدلة على عدد من الرقيق أكثر مما ينبغي، فإنه في المقابل يرى من الضروري التحذير من مَغَبَّة "ارتفاع عدد المَعْتُوقين أكثر مما ينبغي"( فلسفة الأنوار، ف. فولغين، ص59و60).

لاحظ هنا أن مونتسكيو الذي كان ينطق بلسان عصر التنوير لم يكن حاسما في تقرير أول مراتب الحرية؛ بل هو داعم للعبودية الصريحة، وذلك بطلبه تحسين شروطها، وليس إلغائها. ما يعني أن الإنسان وإن تجاوز ـ بحد ما ـ منطقَ عصره، فإنه لا يستطيع الانعتاق منه إلا بدرجة ما؛ تصغر أو تكبر؛ فهو ـ في النهاية ـ مشروط بحدود "وعي العصر" الذي يتموضع فيه؛ فضلا عن كونه مشروطا بشروط "واقع ذلك العصر"، وهي الشروط التي تفرض عليه ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ تحيّزاتٍ مخزِية، لا يشعر بِخزيها، ولا يُلْبِسه عارَها؛ إلا أبناءُ العصور اللاحقة الأكثر تحررا، أولئك الذين نهضوا على أكتافه، ولكنهم باتوا ينظرون إلى ما هو أبعد وأسمى مما رآه في سماء الحريّة اللامتناهي.  

إذن، وكما يبدو هنا، فإن الحرية متطورة في التاريخ، خاصة التاريخ الحديث المتمثل في القرون الخمسة الأخيرة من تاريخ البشرية. وكما هي متطورة/ مُخْتلِفة في أطوار التاريخ، فهي مختلفة/ متطورة في فضاء التنويع الجغرافي الذي يشكل قاعدة التنويع الثقافي. وفي هذا السياق، يذكر جوستاف لوبون هذا الاختلاف، فيوكد أن الاستقلالية الفردية مُتطوّرة لدى أبناء عرق الأنغلوساكسون، وأما جماهير اللاتينية فهي ليست حسّاسة إلا للاستقلالية الجماعية لطائفتها، وسمة هذه الاستقلالية الجماعية هي الحاجة إلى إخضاع كل المنشقين لعقائدهم عن طريق القسر والعنف (سيكولوجية الجماهير، ص77).

ما يذكره لوبون هنا لا يسلط الضوء على حقيقة التباين في درجة استشعار أهمية الحرية فحسب، وإنما يسلط الضوء أيضا على طبيعة تصورها، أو طبيعة تصور الأهم منها، إذ على الرغم من كونه ينتمي ـ عرقيا ـ إلى "الجماهير اللاتينية" ذاتها، إلا أنه ينتقد مَيْلها إلى تصوّر جمعاني للحرية؛ لأنه ـ في جوهره ـ تصوّر مضاد/ مناقض للحرية، فالتصور الجمعاني للحرية هو "وَهْم حريّة المجموع"؛ فيما "كل فرد" يعيش حقيقة القسر والقهر والإخضاع ـ المباشر واللاَّمباشر، الخَشن والناعِم ـ ليتلاءم خيارُه الفردي وسلوكه الفردي، بل وضميرُه الفردي؛ مع خيار وسلوكِ وضميرِ المجموع

مؤكد أنه ليس "العرق" بالمفهوم السلالي هو ما يقصده لوبون بشكل أصيل، وإنما يقصد بالأصالة: "العِرق الثقافي"، الذي قد يَكون مُتأسِّسا على خلفِية سلالية، وقد لا يكون. واللاتينة الجمعانية (التي تُشَابه كثيرا الواقع العربي/ الإسلامي) هي ذاتها الحالة الجمعانية السابقة على الإصلاح الديني، أو ـ على نحو أدق ـ الجمعانية المستعصية على الإصلاح الديني. فإذا كان بزوغ الإصلاحي الديني أوائل القرن السادس عشر يعني بزوغ عصر الفرد، فإن الأساس/ الواقع الذي خرج عليه هذا الإصلاح مناهضا ومناقضا، كان يمثل عصرَ الجماعة. وطبيعي أن يبقيا في التاريخ اللاحق متقابلين ضديا: حالة جمعانية مستقرة في الواقع ومُتَشّبثةٌ به، مقابل حالة فردية متمرّدة ومتحرّرة؛ تُحَاول إعادة تشكيل هذا الواقع على أساس حُريّاتي مُتطوِّر يُؤمن بالحرية في وجودها الملموس: الحرية الفردية في الفضاء العملي الليبرالي

لكن، يُلاحَظ خلال التفاعلات الحُريّاتيّة في هذا التاريخ التطوّري كله، وعلى نحو مضمر أو معلن، أنه يجري التأكيد دائما على كون "الحرية الدينية" هي الأساس الذي تنبني عليه سائر الحريات، التأكيد على أنها هي الجذر الحُرِّيَاتي الذي تتفرّع منه بقية أغصان الحرية، على اعتبار أن أول تصوّر لحرية ما أمتلكه هو أنني حرّ فيما أعتقد، حُرٌّ في ضميري وما ينطوي عليه من قناعات هي في الأصل ذاتية جدا، وسِريّة جدا، وغير قابلة للتغيير بالإكراه في الحقيقة؛ إلا أن يكون قسرا خارجيا لا يستطيع التحكّم إلا بما هو خارجي (منفصل عن الذات حقيقة) من قول أو فعل، يتجاوزان مجرّد الاعتقاد إلى التعبير ـ صدقا أو كذبا/ نفاقا ـ عن الاعتقاد.

لهذا السبب كانت "الحرية الدينية" هي نقطة الالتقاء الأهم في كل نقاش حول الحرية؛ أيا كان موضوعها. إذا غابت هذه الحرية؛ فليس ثمة حرية وراءها؛ إلا أن تكون وهما أو قبضا من شعارات جوْفاء. يقول خوسيه كازانوفا: الحرية الدينية، بمعنى حرية الاعتقاد، هي في التسلسل الزمني "أول الحرية".. بالإضافة إلى أنها شرط سابق للحريات الحديثة كلها (الأصول السياسية للحرية الدينية، أنطوني جيل، ص63)

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث