القتل من أجل التاريخ الافتراضي - مقالات
أحدث المقالات

القتل من أجل التاريخ الافتراضي

القتل من أجل التاريخ الافتراضي

إبراهيم عيسى:

 

حين ينضم عنصر جديد إلى الإرهابيين فإنه بعد طقوس الاختبارات والامتحانات والسمع والطاعة والقسم بالولاء، يحمل اسمًا ولقبًا قادمًا من التاريخ، يبدو معه وكأنه شخصية من القرن الأول الهجري، تمامًا مثلما تراهم في الفيديوهات التي يبثونها عن أنفسهم يركض الواحد منهم فوق حصان كأنه في غزوة من العهد النبوي، ولكنه يمسك في يده «كلاشينكوف» بديلًا عن السيف. إنه لقاء العصر الهجري بالميلادي تحت راية الإسلام.
فتِّش عن بياناتهم وأسمائهم وأبطالهم المزعومين وقتلاهم المنعيين، ستجدهم كلهم أبو بكر القندهاري، وأبو عبيدة الصنعائي، وأبو هريرة الشيشاني، وأبو حمزة النجدي، وأبو بكر البغدادي، وأبو مصعب الزرقاوي. 
إنهم يعيشون عالمًا افتراضيًّا، محبوسين في التاريخ الذى يظنونه مثاليًّا وفاضلًا ونقيًّا، لغتهم كلها منحوتة من الألفاظ والكلمات ذاتها المتداولة في كتب عمرها مئات السنين. ولِحاهم كثَّة كثيفة لا حلاقة ولا تهذيبًا لها، وشعورهم مرسلة بضفائر أو تتدلَّى من وراء العمائم، ويسمون أولادهم بأسماء مستعادة من الماضي ومستعارة من السابقين الأوَّلين رغم غرابتها عن أيامنا وغُربتها عن تعاملاتنا، إنهم يتقمَّصون أدوار الصحابة والتابعين وينفصلون عن عصرهم، ملتحقين بعصر قديم لا يكادون يبرحونه ذهنيًّا ونفسيًّا. 
من حيث الشكل والحوار تكاد تتصوَّر أنك أمام فيلم تاريخي تدور أحداثه وملابسه وأشخاصه وأسلحته في المئة الأولى من الزمن الإسلامي، حيث الوظائف هي: جابي بيت المال والمحتسب والجلاد والسياف، وحيث البيعة وأهل الحل والعقد والفرس والفرنجة والتتر والمغول.
فتاويهم وقضاياهم وأسئلتهم وأمثلتهم منتزعة من كتب بيننا وبينها ألف سنة وأكثر. لا يكادون يخرجون من هذا القفص النفسى إلا ليقتلوا ويقطعوا الرؤوس ويذبحوا ويحرقوا الأعداء الذين هم مشركو مكة ويهود خيبر.
لا شىء تحرَّك منذ عهد الخلفاء الراشدين من موضعه ومكانه. لا يريدون إلا العودة إلى هذه السنوات التى تبدو عندهم سنوات الغزو والفوز والورع والتقوى. 
كل سعيهم هو الحفاظ على الشلل التاريخى للعقل المسلم وللفكر الإسلامي، بحيث لا يتجاوز عتبة هذه المرحلة إلى عصر جديد يتطلَّب رؤى وفهمًا وتفاسير مجددة. لكن هؤلاء لا يبرحون هذا الزمن في عقولهم أبدًا، متشبثين به ومقعدين عنده في نوع من المرض النفسي الذي يغطِّي نفسه بملاءات من أوهام التديُّن، وهو في الحقيقة مبرر للانفصال عن الواقع وخلق عالم موازٍ في ذهنه والإفراج من داخله عن طاقة عدوان وعنف، بل وإجرام يضفي عليه طابع القداسة.
إذا صبرت قليلًا ودرست سيرتهم سترى معظمهم حديثي التديُّن وبعضهم حديث الدين الإسلامي أصلًا، حيث اعتنقه قبل تحوّله الإرهابي بأسابيع ربما، ولكنهم جميعًا لم يعرفوا عن تاريخ المسلمين إلا غزوات ضد الكفار وحروبًا ضد الروم والفرس وسبيًا للنساء وجواري ملك اليمين والسيطرة على حكم العالم القديم وفرض الجزية على أهل ذمة الشعوب المحتلة!
إن أول خطوة لأن يكون إرهابيًّا هو أن يعيش في عالم افتراضي، لكنه ليس افتراضيًّا على شاشة كمبيوتر أو فضاء إنترنت، ولكنه افتراضي بين صحبة ورفقة وجماعة، وتتغيَّر حروف اسمك وطريقة نطقك وملافظ لغتك وشكل ملابسك وملامح وجهك وطول لحيتك وأسلوب حياتك وطبيعة أفكارك، كى تتحوَّل إلى واحد من هؤلاء الذين يعيشون في الزمن الأول الطاهر.
هنا مأساة التاريخ الدعائي المزوَّر الذى يقرؤونه أو بالأحرى يسمعون عنه، يتخيلونه ملائكة تمشي على الأرض ومجتمعًا ليس بشريًّا بقدر ما هو طهراني مثالي، وهذا محض كذب، فتاريخ المسلمين الأوائل شأنه شأن أي تاريخ إنساني، فيه الخير والشر داخل الإنسان الواحد، وفيه الكبار الذين يعانون صراع الإيمان والأغواء، وداخلهم وبينهم الطمع والطموح والصراعات الشخصية والصغائر والغيرة والتقاتل والأخطاء والتوبة والخيانة والخسَّة والنبالة والروعة والنهم والشره والزهد والتعفُّف، وقد أحبّوا بعضًا، وسيّحوا دم بعض أيضًا، وقد خاضوا أعظم المعارك معًا وخاضوا أفظع المعارك بينهم، لكن هؤلاء الشباب جهلة بالتاريخ الحقيقي، فقرروا أن يقتلوننا كي يعيشوا في تاريخهم الافتراضي!

المقال

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*