محمد الزلباني:
علاقة النبي محمد بالشعر كانت عبارة عن سِجال؛ يهجُونه أعداؤه فيُنافح عنه صحابته، يتهمونه بأن قرآنه ليس منزلاً وإنما هو أبيات قرضتها قريحته، فينصره ربُّه بالقرآن: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ". ليس هذا فحسب، بل روى عنه أنس بن مالك، أنه (ص.ع) نظم بيتاً شعرياً، خلال عمله مع المسلمين في بناء أول مسجد بعد الهجرة، قال فيه: "اللهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَة... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَة"، وفقاً للبخاري في صحيحه.
وكثر الحديث عن تقبُّل النبي للشّعر، حتى وصل الأمر عند البعض حدّ التأكيد على محبته له، مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي قال في كتاب "العين": "كان الشّعرُ أحبَّ إلى رسول الله من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له." واستشهد الفراهيدي بقوله (ص.ع): "أنا النبيّ لا كذب/ أنا ابن عبد المطلب". وإن كان هذا هو الإجماع، فلماذا هناك إجماع مضادّ على أن النبيّ أهدر دم الشعراء؟!
عاد لينتقم... 3 شاعرات مهدور دمهن بأمر نبويّ
هناك بعض الروايات بحقّ مجموعة من الأشخاص أمر النبيُّ بقتلهم بعد فتح مكة المكرمة، كما هو مذكور في عدد من مصادر السيرة النبوية التي تزيد على العشرة، أبزرها: البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن إسحاق، وابن هشام، وابن جرير الطبري، والبيهقي، والنووي، وابن الأسير، وابن حجر، والبلاذري، والمباركفوري. لكن لا يوجد اتّفاق تامّ حول من هم هؤلاء الأشخاص، وكم عددهم، إذ تراوحت الأعداد من واحد إلى اثني عشر شخصاً.
ولم يقف الخلاف على عددهم فقط، بل تباينت الرؤى حول سبب أمر الرسول بقتلهم، فبعضهم يرى أن السبب هو الردّة، وآخرون يجزمون بأن السبب هو العداء للنبي، والتحقير منه شِعراً.
تتفق أغلب المصادر على أن المأمور بقتلهم لهجائهم النبي، هما جاريتان كانتا عند ابن خطل (أحد المهدور دمهم أيضاً)، واسمهما "فُرتان" و"أرنب"، بينما تزيد مصادر أخرى سيدةً تُدعى "سارة"، قيل إنها "كانت تؤذي النبي بلسانها" وفق ما ذكر ابن إسحق في "السيرة النبوية" .
ويروي ابن إسحاق في الكتاب عن ابنِ بُكير أنه قال: "قال أبو عبيدةَ بنُ محمدِ ابنِ عمَّارِ بنِ ياسر وعبدُ الله بنُ أبي بكرِ بنِ حزم: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين دَخل مكةْ وفرَّق جيوشَه، أَمرهم أن لا يقتلوا أحداً إلاَّ مَن قاتلهم، إلاَّ نَفَراً قد سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (اقْتُلُوهُمْ وإنْ وَجَدْتُمُوهُمْ تَحْتَ أسْتَارِ الكَعْبَة.) ثم قال: (إنما أَمر بقَتل ابنِ خَطَل، لأنه كان مسلماً، فبعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقاً، وبَعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولىً له يخدمُه، وكان مسلماً. فنَزل منزلاً وأَمَر المولى يَذبحُ له تَيساً ويصنعُ له طعاماً. فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله. ثم ارتدَّ مشركاً، وكانت له قَيْنَة (جارية) وصاحبتُها كانتا تُغنيان بهجاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأَمَر بقتلِهما معه. قال: ومِقْيَس بنُ صُبابة لقَتله الأنصاريَّ الذي قتل أخاه، وسارةُ مولاةٌ لبني عبد المطلب، كانت ممن يؤذيه بمكة."
تلك الرواية ذاتها، ينقلها الواقدي في كتابه "المغازي" مُضيفاً اسمي الجاريتين، بقوله: "ونهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن القتال، وأَمَر بقتل ستة نفرٍ وأربع نسوةٍ." ثم عدَّدهم: "وابن خطل، وسارةُ مولاةُ عمرو بن هاشم، وقَينتين لابن خطل، فَرَتْنَا وقُريبة. ويقال: فُرتان وأرنب".
كعب بن الأشرف... أسمع صوتاً يقطر منه الدم
قيل إن كعب بن الأشرف كان شاعراً يهودياً، عُرف عنه مداومة هجاء النبي وأصحابه، والتحريض عليهم بأبياته، فيروي ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أن النبي "قال: اللَّهُمَّ اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْتَ فِي إِعْلَانِهِ الشَّرَّ وَقَوْلِهِ الْأَشْعَار. وقال أيضاً: مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ فَقَدْ آذَانِي؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَقْتُلُهُ. فَقَالَ: افْعَلْ وَشَاوِرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَمْرِهِ".
قصة أمر النبي بقتل الشاعر كعب بن الأشرف أخرجها البخاري في أربعة أبواب من صحيحه. تلك الأبواب هي: باب قتل كعب بن الأشرف، وباب رهن السلاح، وباب الفتك بأهل الحرب، وباب الكذب في الحرب.
ويروي البخاري عن جابر بن عبد الله، أن قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ. فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئاً. قَالَ: قُلْ. فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ (يقصد النبي) قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ. قَالَ: وَأَيضاً وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ. قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقاً أَوْ وَسْقَيْنِ."
ويُكمل البخاري روايته بأن ابن الأشرف صدق أن ابن مسلمة يريد الصدقة منه، وأن النبي هو من طلبها، فتواعدا على أن يأتيه ليلاً. وفي الموعد المُحدد ذهب إليه ابن مسلمة برفقة أبي نائلة (أخُ لكعب بن الأشرف من الرضاعة) ورجل آخر لم يُسمّه.
يروي البخاري أن زوجة كعب حين سمعت أصوات الرّجال ينادون زوجها، قالت له: "أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَخِي أَبُو نَائِلَة. قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتاً كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَة".
وكان توقّع زوجة كعبٍ في محلّه، إذ قُتِل زوجها بطريقة يعتبرها البخاري من باب "الفتكِ بأهل الحرب"، حيث يروي أن محمد بن مَسلمة قال لصاحبيه إنه بمجرد نزول ابن الأشرف إليهم سيطلب أن يشمّ شعره، وعندها سيتمكن منه، "فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ، فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوه".
أبو رافع... نسخة الخزرج المكررة من الأوس
لم تختلف طريقة قتل الشاعر الخيبري أبي رافع، المعروف باسم سلاّم بن أبي الحقيق، عن سابقه كعب بن الأشرف، حتى أن البخاري أورد قصته في الباب التالي لقصة كعب دون فاصل بينهما، بقوله: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطاً إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلاً وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ."
ويروي ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" أنه لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف، أرادت الخزرج أن تزود هي الأخرى عن النبي: "وَاللَّهِ لَا يَذْهَبُونَ بِهَا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، فَتَذَاكَرَ الْخَزْرَجُ مَنْ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَابْنِ الْأَشْرَفِ، فَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُوَ بِخَيْبَرَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُمْ." فلما قدِم قتلة أبي رافع إلى بيته ليلاً، لم يدعوا باباً في الدار إلا وأغلقوه على أهله. ويقول ابن الأثير، إنهم "ضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ".
عصماء بنت مروان... شاعرة لا ينتطح فيها عنزان
بعد تسعة أشهر من الهجرة، وتحديداً في اليوم السادس من رمضان، حدث ما عُرِف في المرويات التاريخية الإسلامية بسَرية عُمير بن عدي الخطمي، إلى الشاعرة عصماء بنت مروان، وانتهت بقتلها بعد فترة من السّجال الشعري بينها وبين شاعر الرّسول، حسّان بن ثابت.
يروي ابن إسحاق في "السيرة النبوية" أن عصماء كانت "تعيب على الإسلام وأهله، بقولها: بِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ وَالنَّبِيتِ/ وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ/ أَطَعْتُمْ أَتَاوِيَّ مِنْ غَيْرِكُمْ/ فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مَذْحِجِ/ تَرْجُونَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرُّءُوسِ/ كَمَا يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ/ أَلَا أَنِفٌ يَبْتَغِيَ غِرَّةُ / فَيَقْطَعُ مِنْ أَمَلِ الْمُرْتَجِي.
" فردّ عليها حسانُ شعراً: "بَنُو وَائِلٍ وَبَنُو وَاقِفٍ/ وَخَطْمَةُ دُونَ بَنِي الْخَزْرَجِ/ مَتَى مَا دَعَتْ سَفَهاً وَيْحَهَا / بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي/ فَهَزَّتْ فَتًى مَاجِداً عِرْقُهُ/ كَرِيم الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ/ فَضَرَّجَهَا من نجيع الدّماء/ بَعْدَ الهُدُوِّ فَلَمْ يَحْرَجِ".
فلما بلغ أمرها النبي، قال: "أَلَا آخِذٌ لِي مِنْ ابْنَةِ مَرْوَانَ؟" فسمع عُمير بن عدي قولَ الرّسول وهو عنده، فلما أمسى من تلك الليلة دخل عليها في بيتها فقتلها.
ويقول محمد بن عبد الباقي في كتاب "شرح الزرقاني على المواهب اللّدُنية بالمنح المحمدية": "دخل عليها عُمير بيتها، وحولها نفرٌ من ولدِها نيام، منهم من ترضعه. فحبسها بيده، ونحى الصبيَّ عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها. وصلّى الصبح معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك، فقال: لا ينتطح فيها عنزان، أي لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر."
رصيف 22