محمد المحمود:
منذ خرج الإنسان العربي من صحرائه إلى العالم خروجَه الكبير؛ قبل أربعة عشر قرنا، وهو لا يعي علاقته بالآخرين إلا على نحو تَغَالبي/ صِرَاعي. قبل ذلك، وفي حدود جغرافيته القاسية، كانت عملية الاحتراب/ الصراع الدائم مع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة، تمثل آلية انتخاب شبه طبيعي.
تَشكّل وعيه محاربا/ مصارعا قبل أن يخرج، ويوم خرج خروجه الكبير منتشرا في أقاليم الجوار، لم يخرج تاجرا أو مُبشّرا أو سفيرَ علاقات نفعية، وإنما خرج بسيوفه ورماحه وأقواسه ودروعه ومغافره وخيوله وجماله، خرج بـ"عُدّة محارب" مغامر، قاتلا أو مقتولا، استقبل العالم من حوله كمحارب/ كغاز/ كفاتح، مستبطنا إرادة القوة/ إرادة الهيمنة؛ كجزء أصيل من إرادة تحقيق الذات، أو ـ على نحو أدق ـ كجزء أصيل من تصوره عن كيفية تحقيق الذات.
صحيح أنه خرج مُحَمَّلا برسالة/ برؤية شمولية للعالم، بدين عظيم. لكن كان هذا البُعد الرّسالي محدودا بحيث لا يتجاوز حدود وعي "النخبة التَّقويّة" التي ستتكفل تفاعلات العقود اللاحقة بإزاحتها، بل وسيتمكن ممثلو الذهنية العربية الأصلاء من محاصرتها وتهميشها؛ لينتهي الأمر ـ في الصراع البَيْنيّ ـ إلى ما يشبه عملية التطهير/ الاستئصال للعدد المحدود من مُمَثّلي البعد الأخلاقي الإنساني.
ستنتصر آلة الحرب، سيسود منطق القوة، وستصنع القوة حقائقها التي ستعيد إنتاج منطقها باستمرار، وسيكون ـ حينئذٍ ـ مبدأ: الصراع/ المغالبة/ الاحتراب هو المبدأ الغالب على وعي الأجيال الشرق أوسطية عبر القرون.
هكذا تأسس الوعي العربي ـ وليس الواقع العربي فحسب ـ على أطراف الأسل، على إيقاع سنابك خيول الغزاة؛ منذ تباشير صباحه الأول. ومن هنا؛ كان لا بد أن يكون "السيف أصدق أنباء من الكتب" و"المجد للسيف ليس المجد للقلم"؛ كما نص على ذلك أكبر شاعرين في تاريخه (أبو تمام، المتنبي).
تكاد تكون الآثار الحضارية العربية معدومة، رغم قيام إمبراطورية الغزاة على مدى قرون. الآثار الرومانية تجدها ماثلة في كل بقعة سبقت إليها سنابك خيول الرومان، بينما لم يبق لنا من تاريخنا الإمبراطوري الذي امتد من غرب الصين شرقا إلى الشمال الإسباني غربا، إلا أحاديث القتل والقتال، و"صراع الخلفاء" الذين كان يفتك بعضهم ببعض كما تفعل الوحوش بفرائسها، بل ويسمل بعضُهم أعينَ بعض بأسياخ الحديد التي تتوقد نارا؛ حتى لا يكون له مطمع بالخلافة بعد أن يصبح أعمى.
وعلى أي حال، فما نقوله هنا يبقى مخاتلة معرفية؛ إذ ليس التاريخ/ تاريخنا المقدس مفتوحا لنا للبحث فيه بكامل حريتنا المعرفية، فنحن لا نزال في سياق ثقافي يُلْحق العلم بهموم الأيديولوجيا؛ ولا يسمح لهما بالانفصال.
في عالمنا العربي، الحقيقة العلمية التي تتجلى في البحث التاريخي إذا اخترقت حدود المقدس؛ تصبح مؤامرة وعدوانا يجب التصدي له بالحديد والنار، لا بالبحث والبرهان.
لكن، ما يسمح به مجال القول هنا هو التأكيد على أننا مهما تعامينا عن التاريخ/ تاريخنا؛ فالتاريخ يلاحقنا. لم نتحللّ من عقده/ رؤاه بعد. التاريخ/ تاريخ وعينا المتشكل عبر القرون، هو ما يحكم مجمل تصوراتنا في شتى المجالات. وبما أن منطق الصراع هو عصب هذا التشكل، فنحن نرى وجودنا اليوم من خلال منطق صراعي. حتى تَشَكّل الهويات العربية الحديثة ـ بما فيها الهوية الجامعة ـ قام على أساس صراعي. بل حتى التعامل مع التقدم، ومع الغرب الذي هو مصدر هذا التقدم، قام على أساس صراعي، واستمر كذلك، ولا يُراد له أن يتغيَّر بحال!
في مقاربة لافتة لتاريخ العرب الحديث، يقول الباحث اللبناني حازم صاغية: "تصرفت القوى السياسية السورية منذ جلاء الجيش الفرنسي عن البلد في 17 أبريل 1946 كمن ينتظر مشكلة كبرى تعفيه من أن يواجه مهمة بناء الدولة ـ الأمة. والمشكلة حضرت بعد عامين ممثلة في القضية الفلسطينية" (الانهيار المديد، ص120(.
هكذا يبدو أن البناء الحضاري (بكل ما يشتمل عليه من إعداد إنساني ومادي متكامل، وبكل ما يتطلّبه من نفس طويل) مهارة لا يحسنها العربي/ الوعي العربي، فهو لم يَعْتَد تحمّل مسؤوليتها؛ بينما هو يُحْسِن الوقوفَ على أطلال داحس والغبراء والبسوس وصفّين والقادسية واليرموك من جديد!
والمشكلة الأكبر أن العربي ـ وهو يتعمّد خيار الصراع مع العالم صراحة أو ضمنا ـ لم يعد يعي حتى منطق الصراع الحديث الذي يختلف عن منطق الصراع القديم. رؤية الحرب الكاملة بمنطق شمولي لم يتوفّر عليها الوعي العربي المعاصر، لا يزال هذا الوعي يتوهّم إمكانية النصر دونما تقدّم كُلّي: إنساني، تقني، اقتصادي، سياسي، هذا الوعي يتوهم أن عُدّة المواجهات المسلحة (وهذه أيضا لا يملك أبجدياتها المتطورة) كافية لتحقيق النصر الذي يتخيل أنه يستحقه لمجرد أنه اعتقد ذلك.
لهذا، وطوال صراعه مع عدوه التاريخي (إسرائيل)، لم يكن النصر حليفة في أي مواجهة، فعلى جبهات المواجهة العسكرية مُنِي بالهزائم الساحقة 1948 ـ 1967 ـ 1973...إلخ الهزائم التي يحاول ـ بمغالطات بهلوانية ـ تحويل بعضها إلى نصر مجيد، وربما إلى نصر إلهي؛ عندما يُمَاهِي بين إرادته وإرادة الله!
ربما لا توجد أمة تُعَبِّرُ ـ بشتّى الطرق، الصريحة وغير الصريحة ـ عن حاجتها إلى عدو؛ كما تُعَبِّرُ "الأمة العربية" عن هذا الاحتياج إلى خصم/ عدو تشتبك معه في صراع وهمي أو حقيقي.
عندما رحل الاستعمار بشقيه: التركي والغربي (وهو المشجب الذي يعلق عليه المنهزمون أسباب تخلّفهم وهزائمهم)، كان المتوقع أن تُطوى هذه الصفحة بالكامل، وتبدأ رحلة البناء الخلاّق.
لكن، ولأن المنطق الحاكم للوعي العام كان منطقا صراعيا من جهة، ومن جهة أخرى؛ ليس لديه تصور حضاري بنائي، بحيث يعرف أين يضع قدمه في خطواته الأولى، فقد وجد نفسه في موقف حَرِج، في موقف انكسار/ عجز رهيب تتعرّى فيه الذات أمام الذات.
لهذا، كان لا مفر من البحث عن خصم، عن معركة يلهو بها ـ ويُلْهِي بها ـ عن مهمة البناء. وهنا، لا شيء أفضل من أن يكون الخصم هو نفسه ذلك الذي يمتلك التصورات والآليات والمكونات الضرورية لتقيق المنجز/ البناء الحضاري، أي الغرب.
لكن، كيف يشتغل على الغرب خصما، كيف يُقِيمه عدوا في وعي الجماهير؛ وقد رحلت كل جيوشه بكل فلولها، وأمسك "الأبطال القوميون"، المناضلون ضد الاستعمار، بزمام الأمور من الألف إلى الـياء؟!
هنا ـ كما يؤكد حازم صاغية ـ جرى التمسك بالاستعمار كما لو أنه واقع راهن، وبالمستوى نفسه، جرى التمسك بالنظر إلى الغرب كعالم مسيحي لم يخض بعد غمار الإصلاحات الدينية والتنوير (الانهيار المديد، ص26).
بمعنى أن "الأبطال القوميون" من ذوي الحناجر الصاخبة، استمروا في الحديث عن الاستعمار ومؤامراته، رغم فخرهم الأجوف بأنهم قد طردوا الاستعمار وحرروا الأوطان تحريرا كاملا وشاملا. هم ـ كما زعموا ـ طردوا الاستعمار، بل وانتصروا عليه، ولكن الاستعمار ـ بزعمهم المراوغ ـ باقٍ، وهو ما يعرقل عملية البناء، ففشلهم التنموي/ الحضاري هو بسبب الاستعمار، ولكنه الاستعمار الذي لم يعد له وجود!
إذن، هم يثبتون الاستعمار وينفونه في الوقت نفسه، ينفونه؛ ليكسبوا بالتحرر منه مجد/ بطولة التحرير، هذه البطولة المُدَّعَاة التي تمنحهم شرعية الحكم المطلق بوصفهم "ضرورات تاريخية"، وهم ـ في الوقت نفسه ـ يُثْبِتون هذا الاستعمار؛ ليُبَرِّروا فشلَهم المتواصل في تحقيق أدنى مستويات التقدم الحضاري.
وحيث لا توجد على أرض الواقع أية تحديات يفرضها الاستعمار/ الغرب الغائب كعدو، فلا سبيل ـ حينئذ ـ إلا بتثبيت هوية الصراع التاريخي، أي تأكيد مسيحية الغرب؛ لتأكيد فرضية أنه عدو ماثل دائما وأبدا، عدو ـ وإن اختفى ظاهريا ـ فهو يتآمر من وراء ألف حجاب وحجاب، إذ يكفي كونه مسيحيا ليكون هو ذاته الصليبي الذي قاد جحافل الغزاة منذ تسعة قرون.
إذن، وفق هذه الذهنية العربية، الجامدة على تصوراتها الصراعية، العاجزة عن رؤية التحولات/ التقدم/ المتغيرات النوعية، لا شيء يَتَغيّر في هذا العالم. هذه الذهنية أحادية البعد تقول: الأمور باقية كما هي منذ مئات السنين، وكما كان الغزاة الصليبيون يأتون ويذهبون في القديم، فكذلك الاستعمار الغربي الحديث الذي لا يعدو أن يكون ـ وفق هذا التصور ـ هو الغزو الصليبي الجديد، يذهب ليرجع، يذهب كمستعمر مباشر؛ ليرجع كمستعمر غير مباشر.
وهذا ما أكّد عليه "أبطال التحرر القومي"، أولئك الذين سيتقاذفون تُهَم الخيانة، سيُخَوِّن بعضُهم بعضا، على سبيل النفي والإقصاء ونزع المشروعية بتهمة العمالة للاستعمار، وهو أيضا ذات المنحى الاتهامي الذي ستؤكّده الإسلاموية بعد ذلك بشكل صريح، إذ ستزعم أن الاستعمار ذهب بجيوشه؛ بعد أن أبقى/ بعد أن ثبّت وكلاءه الاستعماريين الذين هم من أبناء العرب/ المسلمين.
وهنا يتضح لنا أن الإسلاموي والعروبوي مُتَوحّدان رغم الاختلاف/ الصراع الظاهري، كلاهما يصدر عن وعي واحد، عن ذات النسق الثقافي، فالإسلاموي عروبوي بحكم المقدمات الأولى التي صنعت وعيه؛ مثلما أن العروبوي إسلاموي بحكم النتائج/ الممارسات التي تتجلى في تفاصيل المسلك الأخلاقي العام (بالمفهوم الأوسع للأخلاق).