عجّل بنهاية الأمويين وأضعف العرب في الأندلس... صراع القيسيين واليمنيين - مقالات
أحدث المقالات

عجّل بنهاية الأمويين وأضعف العرب في الأندلس... صراع القيسيين واليمنيين

عجّل بنهاية الأمويين وأضعف العرب في الأندلس... صراع القيسيين واليمنيين

حامد فتحي:

 

مثّل الإسلام نقلة جديدة في حياة العرب السياسية. فمن خلال الدعوة المحمدية تأسس أول مجتمع قائم على أسس غير قبلية، وهو مجتمع المدينة المنورة، ثم توسع ليضم مجمل جزيرة العرب في اتحاد قبلي قائم على دفع القبائل الزكاة أو الجزية، مع الاعتراف بسلطة المدينة. واقع الحال أن هذا البناء كان جديداً في توحيده للعرب، إلا أنه لم يكن جديداً في أسسه، فقد خضعت القبائل للنبي محمد من منظور الخضوع لزعيم شريف تمكنت قبيلته من فرض سيادتها، وهي قبيلة المسلمين. وما لبث معظم القبائل العربية أن انفصل عن الاتحاد الإسلامي حين توفي النبي، فحدثت الحروب التي فرضت الوحدة السياسية بشكل تام على جزيرة العرب، لتبدأ دولة العرب القائمة على الإسلام كهوية للجماعة. إلا أن الهوية الإسلامية لم تمحُ الهوية القبلية، ولم تهدف إلى تحقيق ذلك، إذ أن أبا بكر الصديق وأصحابه كانوا يجادلون الأنصار حول خلافة النبي بدعوى قبلية، وهي أن العرب لا تخضع إلا لقبيلة قريش. خلقت هذه الثنائية الهوياتية بين الإسلام والقبيلة مجتمعاً غير مستقر، فشهد التاريخ الإسلامي صراعات قبلية دموية، وصراعاً مستمراً على الحكم، ومن أخطر الصراعات القبلية صراع القيسية مقابل اليمنية.

القيسية واليمنية خلال الفتوحات

يذكر الباحث في التاريخ الإسلامي حسن حافظ لرصيف22 أن العرب قُسمت وفق ثنائية عرب الشمال "العدنانية" أو القيسية، وتضم قبائل مضر وربيعة، وعرب الجنوب "القحطانية" أو اليمنية وأشهر قبائلها بني كلب وبني لخم. وعلى أساس هذا التقسيم قامت التحالفات، ودارت الصراعات في فترات عديدة من التاريخ الإسلامي. ويشير حافظ إلى أن جذور الصراع بين عرب الشمال والجنوب وُجدت قبل الإسلام، فقد أدى انهيار سد مأرب إلى نزوح قبائل يمنية إلى الشمال، وبعضها استقر في يثرب وهم الأوس والخزرج، وبعضها في الشام تحت تجمع الأزد. إلا أن الصراعات القبلية كانت بشكل أساسي تدور بين قبائل البدو والحضر، ولم يكن الصراع بين القيسية واليمنية حاداً. ويلفت إلى أن اليمنية كانت تتفوق وتتفاخر على القيسية بإنشاء الحضارات والمدنية، حتى كانت بعثة النبي فحدثت موازنة في الفخر، إذ راحت القيسية تفاخر بالنبوة والملك، لأن قريش منها. ولما كانت كل قبيلة، أو تجمع قبلي، تحوز بقعة جغرافية محددة، لم يحدث الاحتكاك إلا بين الجيران، لكن هذا الوضع تغير مع التوسع العربي باسم "الجهاد" الذي مزج كل القبائل في وحدة عسكرية واحدة. ويشرح محمد عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" أنه مع توسع حركة الغزو في عهد عمر بن الخطاب، بدأت عملية تجنيد شاملة للقبائل العربية للقتال ضد الفرس والروم، فأدى ذلك إلى الحاجة لتنظيم عملية التجنيد والقتال وتوزيع الغنائم. فتم إحياء التقسيمات على أساس القبيلة والعشائر، وصولاً إلى التقسيمات الأعلى من قيسية ويمنية وغيرها. فقد كانت القبيلة تقاتل كوحدة واحدة، وتسكن حياً محدداً، وتم توزيع القبيلة الواحدة على أماكن متعددة، فكان نصف القبيلة ينضم إلى أبناء عمومته في العراق أو الشام، ما عزز من فكرة الروابط الكبرى التي تجمع أكثر من قبيلة. وهيمنت قبائل ربيعة القيسية على العراق، فيما هيمنت قبائل كلب اليمنية على الشام، وفي مصر هيمنت اليمنية.

القبلية والصراعات في عهدي عثمان وعلي

يتتبع الجابري دور هذا التقسيم في مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ويقول إن الثوار تكونوا من عرب الجنوب، ومن ربيعة وهي بطن من القيسية لكنها تنافس المضرية، أبناء عمومتها، وذلك بسبب هيمنة مضر التي منها قريش وثقيف وهوازن على السلطة والثروة. أما في الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فقد ضم كل جيش من جيشيهما قبائل من القيسية واليمنية، وكان علي بن أبي طالب قد أمر كل قبيلة بأن تحارب أبناء عمومتها في جيش معاوية، وأدت هذه السياسة إلى ضعف همة جيشه وتقاعس عناصره عن قتل إخوانهم، ما دفعه إلى القبول بفكرة التحكيم للخلاص من مأزق قتال القبيلة الواحدة لنفسها، وفق الجابري. كما حدث تنافس حول ممثل علي في التحكيم. فقد رشحت اليمنية أبا موسى الأشعري لأنه منها فيما كان عمرو بن العاص ممثل معاوية من مضر القيسية. وحين اعترضت قبائل ربيعة ومضر ورشحت عبد الله بن عباس لحكمته، رفضت اليمنية واحتجت بأنها لن تخضع لحكم يقوم به اثنان من قيس، وكاد أن ينشب قتال داخل معسكر علي بسبب هذا الخلاف. ويخلص الجابري إلى أن أهم سبب لهزيمة علي، وتفكك جيشه، هو عدم قدرته على إدارة التناقضات القبلية التي اتسم بها جيشه، مقابل الاستقرار الذي ميّز جيش معاوية الذي تكوّن من قبيلة كلب اليمنية، وقبائل قيسية منها ثقيف.

الأمويون يلعبون على وتر العصبية القبلية

يقول أستاذ التاريخ في جامعة القدس محي الدين عرار لرصيف22 إن الخلفاء الأمويين أخذوا يعملون على توسيع مساحة الخلاف بين العنصرين اللذين كانا عصب دولتهم ومصدر قوتهم، فنراهم يفضلون القيسية حيناً، واليمنية حيناً آخر. ويلفت حسن حافظ إلى أن معاوية استغل الصراع بين القيسية واليمنية لخلق عملية توازن لمصلحته، وكذا سار على نهجه خلفاؤه. وتعرضت دولة بني أمية لأزمة شديدة مع خروج عبد الله بن الزبير عليها، ودعمته القبائل الحجازية المكونة من القيسية. ومع موت يزيد بن معاوية تولى ابنه معاوية الثاني الحكم إلا أنه تخلى عن المنصب عام 683، وترك الأمر شورى لبني أمية، فحدث اضطراب كبير داخل البيت الأموي، واستغلت القيسية في الشام الاضطراب، وأعلنت ولاءها لابن الزبير. ويوضح حافظ أن اليمنية نالت الحظوة لدى الأمويين في البداية، فأدى ذلك إلى شعور القيسية بالخطر، فقاد الضحاك بن قيس جيش من القيسية بعد تنحي معاوية الثاني، وذهب لقتال مروان بن الحكم الذي بايعه بنو أمية بالخلافة، ووقعت معركة مرج راهط عام 64هـ، وانتهت بهزيمة ساحقة للقيسية، فعلت مكانة اليمنية التي حمت الأمويين.

ويتابع حافظ أن سياسة اللعب على الحبلين الأموية عادت إلى الظهور سريعاً، فعندما تولى عبد الملك بن مروان الحكم أعلى من شأن القيسية، وتابعه الوليد في ذلك، ولكن حين تولاه سليمان بن عبد الملك أعاد اليمنية إلى الصدارة. وفي آخر أيام الدولة الأموية، كانت الاشتباكات القبلية منتشرة بين القيسية واليمنية، حتى أن مروان بن محمد آخر خليفة أموي والمتعصب للقيسية نقل عاصمته من دمشق خوفاً من اليمنية، وفق عرار.

الصراع بين القيسية واليمنية في الأندلس

يروي حافظ أن الصراع بين القيسية واليمنية، القائم على تلاعب خلفاء بني أمية بالطرفين، سيتكرر في كل الأقاليم الإسلامية في خراسان وكرمان والكوفة والبصرة ومصر والمغرب والأندلس. ويشير عرار إلى أن الأندلس كانت الصورة المشوهة لنظام الأمويين هذا، إذ تجلّت فيها كل تناقضاته ومختلف مشاكله. وتبدلت الهيمنة على الولايات الإسلامية في المغرب والأندلس بين القيسية واليمنية، وإنْ كانت الغلبة العامة فيها القيسية. وبرز من زعماء اليمنية الوالي أبو الخطار الكلبي الذي عزله تحالف قيسي عام 127هـ، وكان كل والي يتعصب لحزبه على حساب الطرف الآخر. ويرى عرار أن الحزب القيسي كان أكثر جنوحاً إلى التطرف من الحزب اليمني الذي كان لديه إدراك لمفهوم الدولة والعلاقات السياسية، تأثراً بالإرث الحضاري لليمن. إحدى أهم المعارك التي وقعت بين الطرفين في الأندلس هي معركة شقندة عام 130هـ (747م). ووقعت في ولاية يوسف عبد الرحمن الفهري القيسي، وفيها اجتمعت اليمنية بقيادة أبي الخطار الكلبي ويحيى بن الحريث مقابل القيسية بقيادة الصميل بن حاتم والوالي الفهري، ودارت موقعة بينهما في شقندة قرب قرطبة، انتهت بهزيمة اليمنية، وفق عرار. وحين قدم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استعان باليمنية لمحاربة الوالي الفهري، وتمكن بمساعدتهم من إقامة إمارته الأموية، إلا أنه استمر في استخدام اللعب على توازن القوى بين الحزبين، وفق حسن حافظ. ويتابع حافظ أن النزاعات القيسية اليمنية أدت إلى إضعاف شأن العرب في الأندلس. فمع قلة عدد المسلمين وسط الغالبية المسيحية، حدث استدعاء لقبائل البربر لمعادلة قوة المسيحيين، وهو ما منح ميزة عددية للبربر على حساب العرب، ثم تفوق البربر بشكل تام، لتطوى صفحة القيسية واليمنية مع ملوك الطوائف، الذين كانوا من البربر.

تضاؤل دور العرب في العصر العباسي

تحالفت اليمنية بشكل صريح وواضح مع العباسيين في ثورتهم على الأمويين، لأن القيسية كانت نوعاً ما قد حسمت الصراع لصالحها مع نهاية العصر الأموي، يقول حافظ. ويضيف أن الدولة العباسية اعتمدت على الفرس والترك والديلم، فقد كانت القبائل العربية مستهلكة في صراعاتها، ما أدى إلى تهميش دور العرب، وبالتالي خفوت حدة الصراعات بينهم، وعودة كثير منهم إلى الصحراء العربية. ويخلص حافظ إلى أن الصراع بين القيسية واليمنية في مجمله أدى إلى إضعاف شوكة العرب، وعجل بنهايتهم كجماعة صانعة للتاريخ.

موقعة عين دارا عام 1711 في لبنان

بقيت آثار التعصب بين الحزبين بين العشائر العربية التي استوطنت فلسطين ولبنان. ورغم تعدد الانتماءات الدينية والطائفية إلا أن تقسيم قيس ويمن كان له تأثير في عملية الحشد العسكري بين الأطراف المتنافسة على الحكم في الإدارات اللبنانية والفلسطينية.   واستغلت السلطنة العثمانية هذا التنافس لصالحها لإضعاف الحزبين وضمان السيطرة في لبنان والشام، وذلك باستغلال التنافس بين أسرة علم الدين اليمنية وأسرة الشهابيين القيسية. ويوضح أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية جمال واكيم لرصيف22 أن الصراع بين القيسية واليمنية في جبل لبنان الشمالي كان يدور حول ملكية الأراضي والسلطة، وأنه انتهى بمعركة عين دارا عام 1711، وهي موقعة بين الدروز القيسية والدروز اليمنية، إذ لم يكن الانتماء الطائفي هو السائد في لبنان إلا بحلول عام 1861، وقبل ذلك كان التعصب القيسي اليمني يعلو على الانتماء الطائفي. ووقعت المعركة بين الحزب اليمني بقيادة عائلات هرموش وعلم الدين، والحزب القيسي بقيادة عائلات جنبلاط وأرسلان، بدعم من حاكم بعلبك حسين حرفوش، وانتهت المعركة بهزيمة الدروز اليمنية وانتقالهم إلى جبل الدروز في سوريا، وسيطرة القيسية التي ساهمت في تشكيل معالم لبنان الحديث.

عصبية قيس ويمن في فلسطين العثمانية

يذكر محي الدين عرار أن الصراع تحت راية قيس ويمن وُجد في فلسطين العثمانية في فترة حكم المشايخ، وكانت الأطراف المتصارعة تحشد الفلاحين والمقاتلين تحت رايات العصبية القبلية، وكانت كل عصبية حزبية تضم مسلمين ومسيحيين. ويضيف أن التنافس حول السلطة في نابلس كان بين آل عبد الهادي القيسيين، وآل طوقان اليمنيين. وفي القدس استغل حكامها التعصب للحزبين لإقامة التحالفات، فانتسب آل الخالدي للقيسيين، بينما اعتبر آل الحسني أنفسهم يمنيين. ويتابع عرار أن آخر صفحة من صفحات العصبية كانت الحروب التي قامت بين آل طوقان وآل عبد الهادي في منتصف القرن التاسع عشر، وانتهت بانتصار آل عبد الهادي في موقعة خروبة. إلا أن الحكومة العثمانية ارتأت أن تضع حداً لهذا الصراع لتثبت وجودها وحكمها، فأرسلت جندها إلى جبل نابلس وهاجمت "عرابة"، معقل أسرة عبد الهادي، ودمرتها وألحقت بهم خسائر عظيمة سنة 1859، لتضع بذلك حداً للتنافس بين القيسية واليمنية، وتحكم فلسطين من خلال تنظيم إداري يتبعها مباشرة، بحسب عرار.

القيسية واليمنية في الفلكلور الشعبي الفلسطيني

مع فقدان حزبية قيس ويمن أهميتها السياسية وشبه العسكرية في فلسطين، هبط الصراع إلى مستوى الذاكرة الشعبية، وبرز مثلاً من خلال ألوان الملابس، فقد كان علم القيسية أحمر، وعلم اليمنية أبيض. ويذكر عرار مواقف حديثة في إطار هذا الصراع الثقافي. فمثلاً حين كانت قيسية تتزوج من يمني من قرية أخرى، كانت تُلفّ في قريتها بثوب ظاهره أحمر، وتُساق على جمل، وحالما تدخل حدود قريتها الجديدة، كان العريس الذي ينتظرها، يترك لأهله أن يقوموا بخلع ثوبها باستعمال القوة ظاهرياً، ثم قلبه على الوجه الآخر حتى يبدو اللون الأبيض الذي بداخله، أو كان يعطيها ثوباً أبيض. وكانت النساء اليمنيات يعمدن في الخصومة بين الحزبين في البيرة إلى ضرب ديك أحمر على مرأى من النساء القيسيات، فتقوم الأخيرات بإمساك ديك أبيض، ويضربنه بدورهن، في رمزية تحيل إلى التحقير والإهانة المتبادلين. ويقول عرار إن هذا التنافس على مستوى الفلكلور انتهى بحدوث الصراع العربي الإسرائيلي، وربما ما بقى منه عادات غير مرتبطة بجذورها العدائية. ويذكر أنه في عام 1961، في حفل زفاف في قرية قراوة بني زيد، أقدم العريس على وضع شال أحمر على ثوب العروس، اتباعاً لتقليد شعار القيسية الأحمر، إلا أن أهل القرية أكدوا لعرار أن هذه العادة لم تعد محملة بـ"ضغائن الماضي".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*