محمد المحمود:
يقول المفكر الأميركي الكبير، صموئيل هنتنغتون، "في العالم المعاصر، الدين هو قوة رئيسية، وربما القوة الرئيسية التي تُحرّك وتُعبئ الشعوب" (صدام الحضارات، ص 144). صحيح أن هنتنغتون قال هذا في سياق التأكيد على الهوية الدينية للحضارات، وصولا إلى حتمية الصراع/ الصدام بين الحضارات، ولكن هذا التوظيف الذرائعي لا ينفي رسوخ هذه الحقيقة في الواقع، هذه الحقيقة التي أكّدها ـ كما أكّدها غيره ـ بكثير من الشواهد الوقائعية التي إن استطعنا مجادلته في بعضها؛ فلن نستطيع إلا الإقرار له في أغلبها؛ على شيءٍ من الاختلاف في حدود التوصيف والـتأويل.
أيضا، يُحاول المفكر الفرنسي/ مارسيل غوشيه ـ من خلال تحليله للظاهرة الدينية في المجتمعات البدائية ـ أن يعيد أصل الدولة (وبالتالي، أصل السياسة عموما) إلى جذر الدين، الذي بدأ ـ كما يقول ـ على شكل "دَيْن المعنى"، أي دَيْن البشر للعالم الآخر وللكائنات العلوية وللقوى الفائقة. وهذه الفكرة (= دَيْن المعنى) تُتِيح ـ حسب غوشيه ـ إدراك طبيعة السلطة وماهية الاجتماع، من خلال ثلاثة مبادئ: مبدأ "الخارجية"، ومبدأ "المغايرة"، ومبدأ "الانفصال"، إذ هذه المبادئ هي التي تُشكّل أسس الواقعة الدينية، بقدر ما هي التي ما تُشكّل "شرط إمكان السلطة/ الدولة"(في أصل العنف والدولة، بيار كلاستر ومارسيل غوشيه، ص154).
إذن، ثمة ارتباط أصيل وحيوي بين الجذر السياسي والجذر الديني. وهو ارتباط ليس مبتوت الصلة عن كل التطورات اللاحقة، بما فيها تطور التصور العلماني للعلاقة بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال السياسة، أو بين الديني والمدني عموما. والسبب في استمرارية هذا التواصل/ الاتصال، وحيويته رغم خفوته أحيانا، يرجع إلى كون هذا الاتصال لم ينشأ عن إرادة واعية، كما لم ينشأ عن إضافة لاحقة على طبيعة الاجتماع الإنساني، بل نشأ مُحَايِثاً له، ومُتَفاعِلا معه، من أدنى مستويات هذا الاجتماع (الأدنى: الفردي ـ الفردي؛ بخياراته الروحانية)، وإلى أعلاها: السياسة في تجلياتها الصريحة التي تُدِير عناصر السلطة/ القوة (الناعمة والخشنة) داخل المجتمع وخارجه، على سبيل الإخضاع القسري أو التطويع الثقافي (ومنه التطويع الديني).
أعرف أن هناك من يقول بإمكانية "مجتمع بلا دين"، وأن ابن خلدون رأى أن حياة البشر قد توجد بلا شرع. لكن، كل هذا يقع في دائرة الاحتمال النظري، بينما الواقعة الاجتماعية لازمت (وفي رأي دوركايم: أنتجت بالضرورة) الظاهرة الدينية، وتفاعلت ـ جدليا ـ معها؛ لإيجاد المُفَارِق الذي يُمْكِنه أن يحكم الواقعَ الاجتماعي بقوة البُنَى الرّمزية، التي تتحوّل ـ في مسار تطوري ـ إلى بُنَى واقعية، قد تقطع مع أصلها الرمزي، وقد تُبْقِي على قليلٍ أو كثيرٍ من صُور التفاعل والاتصال.
لهذا، مهما تعلمنت المجتمعات، ومهما كتبت خططَ التشريع السياسي على المستويين: التنظيمي/ المؤسساتي والإداري، فإن الفاعل البشري ليس كائنا محايدا بالكامل، ليس مُفرّغا من أي محتوى ثقافي/ رمزي، ولا من أي تحيّز وجداني. فالبشر ـ حتى في أكثر المؤسسات تَعَلْمنا ـ يحضرون بخلفياتهم الثقافية والأخلاقية، وبطبائع أعراقهم أيضا، فيما هم يُحَاوِلون المُوَاءَمة بين كل ذلك وبين القوانين التنظيمية/ المؤسساتية التي تُحَدِّد في النهاية مستوى الاختراق الممكن للمبدأ العلماني, المبدأ ذي الطابع الحيادي، النسبي؛ بطبيعة الحال.
يعني هذا أن "العلمانية" مُمْكنة، وغير مُمْكنة؛ في آن. العلمانية، من حيث هي فصل الدين عن الدولة (ومسألة أن الفصل الذي هو فصل رجال الدين عن الدولة؛ قضية شائكة، وخاصة في الإسلام؛ لعدم وجود حد فاصل واضح بين: رجل الدين ورجل الدنيا)، غير ممكنة على سبيل الفصل التام، وغير متعذّرة على سبيل تقنين وترشيد التواصل، و ترسيم الحدود بين المجالات.
الحالمون بالوصل؛ هم كالحالمين بالفصل؛ في تجاوزهم منطق الواقع إلى منطق الأحلام. بل في تصوري أن الحالمين بالفصل التام أقل معقولية من الحالمين بالوصل التام. ودعاة الفصل الطوباوي هم أكثر إضرارا بالعلمانية ذاتها من أولئك الذين يُهاجِمونها ويُشَيْطِنُونها، بل ويُكَفّرونها في سياق الخطاب الجماهيري؛ لأن هؤلاء الحالمين بالفصل التام، ينقلونها ـ في النهاية ـ من دائرة الممكن إلى دائرة المستحيل، ومن سياق أن تحظى بمشروعية ثقافية عمومية، إلى سياق تمثّلها كأداة مشبوهة يُرَاد لها تجريف أشد الهويات خصوصية وأشدها علاقة بعمليات إنتاج المعنى.
لقد تشوهت العلمانية في العالم العربي على يد المناضلين في سبيلها ابتداء. يقول المفكر اللبناني/ وجيه كوثراني: "ما ينبغي الالتفات إليه من زاوية أخرى هو أن صورة العلمانية التي قدّمها العديد من الكتاب القوميين كانت معادية فعلا للإسلام. هذه الصورة حملها خطابٌ عقدي ونضالي يكاد يحلّ محلَّ العقيدة الدينية، كَمُسَلَّمة قَبْليّة، أو كاقتناع ميثولوجي. وبالمقابل كان الخطاب الإسلامي غالبا ما يسترجع هذه الصورة وينطلق منها في سجاله مع القومية العلمانية. فكأن خطابي الطرفين غذّيا بعضهما، فاستثمر الواحد الآخرَ لتبرير صراعه في حركة تناقض ثنائية لا تنتهي"(الذاكرة والتاريخ، ص190).
ومع أن المفكر المغربي/ عبد الإله بلقزيز يؤكد أن "مقولة الدولة الدينية لا تتمتع في تجربة الإسلام: إسلام الأصول، وإسلام ما بعد الخلافة الراشدة، بأي شكل من أشكال الشرعية"، لأن "الفارق عظيم بين الدولة الدينية ـ على مثال ما كان في أوروبا العصر الوسيط ـ وبين دولة لا تجد من سبيل إلى إقرار شرعيتها إلا باستخدام الدين"؛ إلا أنه يُقرّر "أن شعار العلمنة لا يبرر شرعيته ـ لدى المنادين به ـ إلا افتراض أصحابه أن نظام الدولة محكوم بنظام الدين أو مرجعيّته؛ وهذا مما نخالفهم الرأي فيه" (الإسلام والسياسة، ص48و50و51).
ما ينفيه بلقزيز من علاقة الديني بالمدني في الإسلام على امتداد عصوره، هو نمط مُحدّد من العلاقة (= تجربة تاريخية في أوروبا العصر الوسيط)، لا ذات العلاقة من حيث المبدأ، ولا نِسْبيتها، بدليل أنه يعود بعد صفحتين من هذا؛ ليستغرب من استغراب العلمانيين العرب لاستثمار المُقدّس في السياسة، أي لاستعمال الديني في الحقل السياسي، لأن الديني ـ كما يؤكد ـ لم ينفصل ـ في سائر التجارب التاريخية ـ عن السياسي. (الإسلام والسياسة، ص53).
كل هذا يعني أن الدين حاضر في السياسة دائما، ولكن الاختلاف يقع في مستوى حضوره، وفي طبيعة هذا الحضور؛ توصيفا لما وقع، وتنظيرا لما يجب أن يقع.
ثمة إجماع أو شبه إجماع على هذا الحضور؛ كحالة سياسة؛ قبل أن تكون حالة دينية. لكن، قد يكون الحضور مباشرا وصريحا، ومُتَمَفصلا في الأنظمة والقوانين. وقد يكون حضورا مباشرا؛ ولكنه غير صرْيح، أي كمبادئ عامة تنتظم الأنظمة والقوانين. وقد يكون حضورا غير مباشر وغير صريح؛ كمرجعية ثقافية/ حضارية تُحَدّد الخطوط العامة للخيارات الحاسمة المتعلقة بتدبير الشأن العام. والتحوّل العلماني في الدول الإسلامية يجب ـ في تصوري ـ أن يكون مُوَزّعا على هذه المستويات؛ على ألا تكون "طبيعة الحضور الديني" تستلزم ـ بالضرورة ـ إقرارَ نوع من التمييز القانوني بين المواطنين.
هنا، نصل إلى مأزق إشكالي بين النظري والتطبيقي، أي: كيف يمكن السماح بمستويات من الحضور الديني في المدني، حتى على مستوى التقنين/ التشريع؛ دون أن تفقد هذه القوانين حيادها الموضوعي/ المدني ذي الطابع العلماني؟
لا مخرج من هذا المأزق إلا بالتأكيد على ضرورة التطور/ الإصلاح في الدين نفسه. فالدين (وهو مُتنوّع ومتعدّد مذهبيا، ومختلف فيه وعليه) الذي سيكون ـ شئنا أم أبينا ـ هو الخلفية الثقافية للمؤسسات المدنية، والذي سيحضر على نحو صريح أو مضمر في مجمل الخيارات الحاسمة، لا بد أن يدخل طورّ "الصلاح الديني الحقيقي"؛ ليكون ـ مع احتفاظه بهويته ـ ابن عصره. وشرط راهنيته/ شرط أن يكون ابن عصره، يقتضي أن يقطع ـ بحدود الممكن الإصلاحي ـ مع التحقّقات التاريخية التي شكلته وتشكّل بها، منذ ظهور الإسلام وإلى اليوم. فإذا كان الإسلام إبان ظهوره يتضافر فيه الديني مع السياسي في تفاعل جدلي خِصْب يستحيل معه ادعاء الفصل، فإن التأسيس للمدني، أو استعادة الديني اليوم، لا يعني ضرورة البقاء في حدود ذلك التضافر/ التفاعل الذي شكّل البدايات أو تشكّل بها، بل يعني إمكانية الخروج بصيغة أن الإسلام "ليس دينا ودولة"؛ حتى وإن كان قد بدأ "دينا ودولة"؛ لا بإلغاء هذه العلاقة من أساسها، ولكن بتكييفها وفق شرط الراهن الثقافي القائم على تحديد وتقنين المجالات ذات الطابع العمومي.