كلب الخليفة المقتول - مقالات
أحدث المقالات

كلب الخليفة المقتول

كلب الخليفة المقتول

د.محمد فياض:

 

كيف جعل البغدادى كلمة الجهاد ملازمة لكل ما هو دموي وإرهابي؟ لماذا صار مصطلح الخلافة والجهاد من المصطلحات الساقطة؟ هل انتهى الولع بالخلافة بمقتل أبي بكر البغدادي؟ كيف تشرع النصوص لجهاد لا يدافع عن الأوطان؟

في أواخر شهر أكتوبر 2019، أُزيح الستار عن أحد أبرز المشاهد دلالةً فى تاريخ الإسلام السياسي، فقد استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في البيت الأبيض، الكلب الذي شارك في عملية قتل الخليفة الداعشي أبي بكر البغدادي، ذلك الخليفة الذى بايعته الجماعات الإرهابية كخليفة للمسلمين، وبما أنه خليفة يحكم خلافة إذن فلديه كل الصلاحيات للقتل والسلب والتدمير. حاول البغدادي وجماعته إحياء هذا المصطلح الساقط، مصطلح لا يرتوي ولا ينمو إلا بدماء الأبرياء، فكان مصيره جزاءً وفاقًا، فانتهت حياته مذعورًا هاربًا، وكان الكلب المذكور أحد أبطال هذه العملية، ليُسطر في التاريخ أن نهاية هذا الخليفة المزعوم كانت على يد كلب.

وعلينا في هذا الصدد أن نتذكر بعضًا من الكلمات الأثيرة لأبي بكر البغدادي أمير المتطرفين، في التسجيل الصوتي الأخير المُذاع له قبل مقتله، وقبل أن يعرف أن مجرد كلب سيكون له دور كبير في تصفيته، لنتنسم بعضًا من سماحته وروحه المتسامحة ومشروعه الذي يعبر عنه حيث قال التالى: «تفجيرات عيد القيامة في سريلانكا كانت رد الدولة الإسلامية على خسائرها في الباغوز آخر معاقلها في سوريا»، كما قال: «إن التنظيم يخوض (معركة استنزاف ومطاولة)، وسيثأر لقتلاه وأسراه»، داعيًا المتشددين النشطين في غرب إفريقيا إلى تكثيف الهجمات ضد «فرنسا الصليبية وأحلافها».. «معركتنا اليوم هي معركة استنزاف ومطاولة للعدو، وعليهم أن يعلموا أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وأن الله عز وجل أمرنا بالجهاد ولم يأمرنا بالنصر، فنسأل الله عز وجل لنا ولإخواننا الثبات والسداد والتوفيق والهداية والرشاد»، وهنَّأ المتطرفين في ليبيا على الهجوم المميت الذي وقع في وقت سابق على مدينة الفقهاء الصحراوية في جنوب البلاد، والمتشددين في بوركينا فاسو ومالي على مبايعتهم للدولة الإسلامية. كما دعا الله إلى حمايتهم وحماية أبى الوليد الصحراوى، زعيم التنظيم فى الصحراء الكبرى، قائلًا: «نبارك لإخوانكم فى ليبيا ثباتهم وغزوتهم المباركة ودخولهم إلى بلدة الفقهاء رغم انحيازهم عنها فجازاهم الله خيرًا. اثبتوا لأعدائهم، إنهم قادرون على أن يملكوا زمام المبادرة وهم يعلمون أن معركتهم اليوم مع أعدائهم هي معركة استنزاف، فنوصيهم جميعًا بأن يطاولوا أعداءهم ويستنفذوهم في جميع مقدراتهم البشرية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية، وفي كل شىء». 

على أية حال، قُتل أبو بكر البغدادي الذى سطر تاريخًا من الدم والقتل والخراب، تحت مظلة مصطلحات ساقطة، مثل الخلافة والجهاد. كائنات من الزومبى كانت غارقة فى نوستالجيا العصور الوسطى، فأرادت اجترارها بأحداثها وشخوصها وأسمائهم وملابسهم، رافضين الحداثة والوطنية، غارقين في ظلام القتل والتفخيخ والتكفير وإقصاء الآخر، وهو ما أطلق عليه البعض «عقدة تجميد التاريخ»، فهم يستغرق في أحداث معينة من الماضى ويُجمد حيالها، حتى كأن عجلة التاريخ قد توقفت حركتها عند أعتابها، فعندما تتبنى جماعة ما موقفًا أيديولوجيًّا من التاريخ فهى غالبًا ما تتخذ هذا الموقف تحت وطأة ظرف كثَّف لديها الشعور بحدث تاريخى معين، وهو ما سماه البعض (أدلجة التاريخ)، أى تحويل الحديث التاريخي إلى قيمة ومعنى (أكثر منه واقعة تاريخية).

قُتل أبو بكر البغدادي الذى كان قلبه يتراقص على ذكر كلمة الجهاد، فالجهاد الذي كان هدفه الأسمى نشر الدين الإسلامي بمبدأ خلوا بيني وبين الناس، أي قتال السلطة الحاجزة بين الإسلام والشعوب وبمنطق البلاغ المبين، لم يلبث إلا أن فقد هدفه الحقيقي، وكلما تطورت حركة التاريخ كان مصطلح الجهاد يتطور هو الآخر حتى انتهى به الأمر كصفة متلازمة لكل ما هو بغيض ودموي وإرهابي، وصولًا إلى «داعش»، وما بين البلاغ المبين و«داعش» جرت دماء كثيرة، دماء تسبب فيها هذا المصطلح نتيجة سوء فهمه وضحالة تأويله وصولًا إلى إفلاسه.

قُتل أبو بكر البغدادي الذي اعتقد نفسه زعيم الفرقة الناجية، وهو أحد أبرز الأحاديث المفخخة التي ساعدت على تشويه مصطلح الجهاد وإرساء مبدأ الإقصاء والنفور من الآخر، فكان نصه «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة وهي الجماعة»، وفي الحقيقة فلقد شكل هذا الحديث أزمة حقيقية أرست مبدأ الدين المتعالي والقتال ضد الآخر المسلم بسيف الفرقة الناجية.

وتاريخيًّا فقد تم استدعاء حديث الفرقة الناجية مرارًا وتحديدًا في ما يتعلق بالاقتتال بين الفرق الإسلامية بعضها مع بعض، والذى شكلت عناصره الأساسية السُّنة والشيعة، فقد اندرج هو الآخر تحت بند الجهاد، وتحديدًا قتال الفرق المارقة، وهكذا تعرضت الخلافة العباسية فى بغداد إلى عملية استنزاف مستمر بفعل الاقتتال الداخلى بين السُّنة والشيعة، ولم تستطع قوات الأمن فى كثير من الأحوال ضبط الأوضاع، ويعبر أحد الباحثين عن ذلك قائلًا: «إن ذلك الصراع كان عامل تمزق وضعف قاست منه الأمة الإسلامية كثيرًا، فقد حدث من جراء ذلك شيوع حالة الدعة والخمول وانكسار الشوكة واللا مبالاة وتركز الصراع على وجهات النظر الضيقة، فأهمل الجهاد الحقيقى لصالح الجهاد الوهمي، بل كانت أخبار الغزوات الصليبية فى العالم الإسلامي تقابل بحالة لا مبالاة وعدم اكتراث، وهي باب الجهاد الأساسي الذى تم التغافل عنه لصالح جهاد وهمي».. وليس أبلغ من تعبير جورجي زيدان عندما قال: «لما انتشبت الحروب... انشغل الناس عن تجارتهم وزراعتهم وتوقف العمال، وغَلَت الأسعار، وتعطلت الزراعة لضياع الأمن فقلت الجباية واحتاج العمال والقواد إلى الأموال فظلموا الناس في تحصيلها منهم، فزاد الخراب من هادم للعمران كالظلم، فإنه يغل الأيدي ويقعد الناس عن السعي، فينشغل به الزراع عن زراعته والتاجر عن تجارته والصانع عن صناعته، ووبال ذلك عائد على الدولة، إذ لا قوام لها إلا بالرعية...»، وعندما جاء وقت الجهاد والدفاع عن الدولة لم تصمد الدولة العباسية عدة ساعات أمام الغزو المغولي الذي اجتاح بغداد، وقتل الخليفة العباسى، ودمَّر مظاهر الحضارة والمدنية، ساعتها لم يصدح نداء (حي على الجهاد) الذى طالما صدح للاقتتال الداخلى ولم يتبقَّ منه شىء للدفاع عن الوطن، والمحصلة الأساسية أننا لم نعد أمام جهاد حقيقى ولا حتى قدرة دفاعية.

وعلى مستوى التراث، فإن لدينا عديدًا من النصوص التي شرعت لنمط جديد من أنماط الجهاد بعيد تمام البعد عن الدفاع عن الأوطان، وكان ابن تيمية بطبيعة الحال هو المنظر الأهم لهذه الآراء، وهو الجهاد وإقصاء الآخر غير المسلم، فعُدت كتابات ابن تيمية مرجعية أصيلة للتكفير والقتل، مرجعية قاتلة بامتياز اعتبرت أساسًا فكريًّا لحركات الجهاد الإسلامي القاتلة، حتى إن أحد أكثر الكتابات تطرفًا وهو كتاب «الجهاد الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، يعتمد فيه اعتمادًا كليًّا على كتابات وفتاوى ابن تيمية، وغيره من الأطروحات والأفكار المتطرفة التى تجد فى استحضار روح وفكر ابن تيمية معينًا متجددًا للتطرف والإرهاب، ولم يتوقف إلهام ابن تيمية عند هذا الحد بل تعداه إلى سيد قطب، وكأننا أمام فكر (الرائد) ابن تيمية المتوفى في القرن الثامن الهجرى، و(المجدد) سيد قطب فى نسخته المعاصرة، والذي استلهم بامتياز شخصيته، فهو الذى اعتمد فى كتاباته على آراء ابن تيمية في الحاكمية والتكفير وجاهلية المجتمع، ودار الحرب ودار السلام، وفتاوى التكفير والقتل والإقصاء، بل إننا مثلًا نجد أن محمد عبد السلام فرج وكتابه «الجهاد الفريضة الغائبة» فى سياقه الأعظم نقولات واقتباسات عن ابن تيمية، فضلًا عن ضربته القاصمة للمصطلح، حيث نادى بعدم الاهتمام بقتال الخارج بل ضرورة قتال المجاهدين لمجتمعاتهم، حتى يتحقق مبدأ إقامة الدولة الإسلامية والانتصار على المجتمعات الكافرة، ومن ثَمَّ النظر إلى قتال الخارج وأن العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد.

وفي إطار فكر الخلافة، فلا مجال للحديث عن الوطن وحدوده المقدسة، والتي من المفترض أنها تمثل الهدف الرئيسي للجهاد، إلا أن الجماعات الإسلامية لا تضعها ضمن بنود جهادها الإسلامي المشوه، فعلى سبيل المثال ففكر جماعة الإخوان المسلمين لا يعترف أصلًا بوجود مثل هذه الحدود، بل إنها عند سيد قطب حفنة من تراب عفن، حتى إن حسن البنا نفسه قد قال بشأنها «أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية...»، ويستمر قائلًا: «... ودعاة الوطنية لا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، تجلى ذلك بامتياز في مقولة مهدي عاكف (طظ فى مصر واللي فى مصر)».

أما فى ما يتعلق بالحلم الأكبر وهو ميراث النبي، صلى الله عليه وسلم، في الخلافة، تصارعت هذه الجماعات في مَن يرث محمد، فهاهو حسن البنا يقول: «والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم...»، ويستمر قائلًا: «.. إن الإمام أو الخليفة هو واسطة العقد ومهوى الأفئدة وظل الله فى الأرض»، في حديث يتشابه كثيرًا مع الفكر الشيعي الذى يقر بأن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه على الأمة، بل يجب عليهم تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر.

وفي الأخير، فإن الهوس بالخلافة لن ينتهي بمقتل أبي بكر البغدادي، فزومبي الجماعات الإسلامية غارقون في العشق الممنوع للخلافة، يحلمون بالرايات السود ترفرف على أسوار عواصم العالم الإسلامي، ليظهر الخليفة ويملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا، ويبايعه أبو حنظلة البغدادي، وأبو قحطبة الدمشقي، والقعقاع الخراسانى، وبعد أن يُبايعه جمهور الإرهابيين أثابهم الله، يرتقي المنبر بعباءته السوداء، ولحيته الطويلة، ليحثّ المسلمين على الجهاد، ويتابع تحركات حركات الفتوحات الإسلامية في مرحلة ما بعد العولمة، ثم ينهي حكمه المقدس مفزوعًا مقتولًا على يد كلب.. ولكنه بمقام ألف خليفة داعشي.

المقال

 

 

 

 

 

 

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*