رؤيا ورؤيا - مقالات
أحدث المقالات

رؤيا ورؤيا

رؤيا ورؤيا

بابكر فيصل:

 

منذ دخول الحضارة الإسلامية طور الغيبوبة في القرن الثالث عشر الميلادي، ظلت محاولات البعث والإحياء المتقطعة تحقق اختراقات محدودة وتعجز عن بلوغ نقطة التحول المطلوب لإنجاز مهمة النهوض الحضاري التي طال غيابها بسبب الصراع المستمر بين "العقل والنقل" وأيهما سيقود قطار التغيير الهادف للحاق بركب الأمم المتقدمة.

وإذ ترتبط عملية التحول الفكري للأفراد بسياقات اجتماعية وسياسية عميقة، فإن الروايات الإسلامية التاريخية تجنح في أحيان كثيرة لإلحاق أبعاد متعالية لأسباب تلك التحولات وذلك بوضعها في إطار من الأسطرة التي تتسم بقدسية أو ماورائية فارقة يُعتقد أنها تعضد مصداقيتها وتؤكد شرعية المواقف المرتبطة بها.

في هذا الإطار أتناول في السطور التالية حادثتين متعاليتين "رؤى منامية" أوردتهما الروايات التاريخية وكان لهما أثرا كبيرا في إحداث تحولات جذرية في مسار الفكر والتطور الحضاري، بحيث ارتبطت الأولى منهما بالصعود الكبير الذي شهدته الحضارة الإسلامية بينما لعبت الثانية دورا حاسما في الانحدار الذي أدى لتدهور وأفول تلك الحضارة.

ليس الغرض من تناول تلك الرؤى المنامية في هذه السطور تأكيدها أو نفيها، بل محاولة النظر في الكيفية التي تسعى من خلالها المرويات لتفسير التحولات الفردية والمجتمعية بعيدا عن أسبابها الاجتماعية والسياسية والتاريخية.

بلغت الحضارة الإسلامية أوجها في القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، حيث أثمرت في العلم والفلسفة مذاهب ونظريات لها طابعها الخاص الذي يدعو لتفسير الحياة والوجود تفسيرا يستند إلى التوحيد الإلهي، ولا شك أنه لم يتأت لهذه الحضارة أن تبدع ما أبدعته إلا بعد قرون شغلت فيها بالنقل والاطلاع على تراث الأمم القديمة التي سبقتها خصوصا اليونان، الذين شكلت فلسفتهم الرافد الرئيسي الذي نهلت منه حضارة الإسلام.

كان الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور أول من اعتنى بالعلوم ولكن الخليفة العباسي السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد كان أكبر من دعم الحركة العلمية، حيث أنشأ "بيت الحكمة" وأمر بترجمة الكتب في مختلف الفنون والعلوم، وكان يُعطي وزن ما يُترجم ذهبا مما أدى إلى توافد العلماء والمترجمين ورواج صناعة العلم والأدب والفنون والنقل والترجمة.

ذكر ابن النديم في كتابه "الفهرست" السبب الذي دفع المأمون للاهتمام بالفلسفة والعلوم والإعلاء من شأن العقل في مقابل النقل قائلا:

"إن أحد الأسباب في كثرة كتب الفلسفة وغيرها في البلاد الإسلامية أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مُشربا بالحمرة، واسع الجبهة مقرون الحاجب، أجلخ الرأس أسهل العينين حسن الشمائل جالسا على سريره، قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة فقلت من أنت؟ قال: أرسطاطاليس، فسررت به وقلت أيها الحكيم أأسألك، قال: سل، قلت ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل، قلت ثم ماذا: قال ما حسن في الشرع، قلت ثم ماذا: قال ما حسن عند الجمهور، قلت ثم ماذا؟ قال ثم لا ثم".

الرؤيا المنامية التي أوردها ابن النديم فتحت المجال لخلق جو علمي زاهر في بغداد وبرز العلماء في شتى أنحاء الدولة العباسية، كما ظهر فلاسفة مسلمين كبار أمثال، يعقوب الكندي، الذي خلّف آثارا علمية في الفلسفة والفلك والرياضيات والطب وعلم الحيوان والجغرافيا والموسيقى والتشفير وعلوم كثيرة غيرها، ومضت القرون الإسلامية حُبلى بالعلماء والفلاسفة الذين لم يكتفوا بنقل علوم اليونان، بل شرحوها وطوروها وأنتجوا مفاهيم ومعارف جديدة.

ومثلما كانت رؤيا الخليفة المأمون سببا في ازدهار الحضارة الإسلامية بإعلاء شأن العقل، فإن رؤيا أخرى للفقيه، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، مثلت ركنا أساسيا من أركان التدهور الذي أصاب تلك الحضارة حتى وصلت حالة الجمود والموت السريري.

نشأ الأشعري في رعاية شيخ المعتزلة أبي علي الجبائي، وظل معتنقا لمذهب الاعتزال مدافعا عنه بالمناظرة والمناقشة حتى بلغ سن الأربعين حيث كان يشار إليه بأنه رأس المعتزلة، ثم حدث له تحول فكري شكل علامة فارقة في الحياة الإسلامية الاعتقادية.

يروي الإمام تاج الدين السبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" قصة التحول العقيدي الذي وقع للأشعري، حيث غاب الأخير عن الناس في بيته خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال:

"معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المرة، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت الله تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به، ودفع الكتب التي ألفها على مذاهب أهل السنة إلى الناس".

وحكى عن مبدأ رجوعه أنه كان نائما في شهر رمضان، فرأى النبي (ص) فقال له: يا علي أنصر المذاهب المروية عني، فإنها الحق. فلما استيقظ دخل عليه أمر عظيم، ولم يزل مفكرا مهموما من ذلك وكانت هذه الرؤيا في العشر الأول، فلما كان العشر الأوسط، رأى النبي (ص) في المنام ثانيا فقال: ما فعلت فيما أمرتك به؟

فقال: يا رسول الله، وما عسى أن أفعل وقد خرجت للمذاهب المروية عنك محامل صحيحة؟! فقال لي: انصر المذاهب المروية عني فإنها الحق.. فاستيقظ وهو شديد الأسف والحزن، وأجمع على ترك الكلام، واتباع الحديث وملازمة تلاوة القرآن.

فلما كانت ليلة سبع وعشرين، وكان من عادته سهر تلك الليلة أخذه من النعاس ما لم يتمالك معه السهر، فنام وهو يتأسف على ترك القيام فيها فرأى النبي (ص) ثالثا، فقال له: ما صنعت فيما أمرتك به؟ فقال: تركت الكلام يا رسول الله، ولزمت كتاب الله وسنتك.

فقال له: أنا ما أمرتك بترك الكلام، إنما أمرتك بنصرة المذاهب المروية عني، فإنها الحق. قال: قلت يا رسول الله، كيف أدع مذهبا تصورت مسائله، وعرفت دلائله منذ ثلاثين سنة، لرؤيا؟

قال: فقال لي: لولا أني أعلم أن الله يمدك بمدد من عنده، لما قمت عنك حتى أبين لك وجوهها، فجدّ في ذلك، فإن الله سيمدك بمدد من عنده فاستيقظ وقال: ما بعد الحق إلا الضلال، وأخذ في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك. وكان يفتح عليه من المباحث والبراهين لما لم يسمعه من شيخ قط، ولا اعترضه به خصم، ولا رآه في كتاب.

أطلق الأشعري بعد تلك الرؤيا نظرية في العقيدة هيمنت على العقل المسلم وأعلت من شأن النقل وبلورت طريقة في التفكير تقوم على الاستدلال بالخبر وتعتبر النص أصلا لكل معرفة، ولم يقتصر أثرها السلبي في تعطيل دور العقل على قضايا العقيدة أو الأمور الفقهية بل امتدت إسقاطاته لتشمل كافة النواحي المعرفية والعلمية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية.

قد كرَّست الأشعرية على الصعيد السياسي الاستبداد واستمرار الظلم، وذلك عبر إنكارها لحرية إرادة الإنسان وفاعليته، ودعوتها إلى الصبر على الحاكم ولو كان ظالما مستبدا. كما أنها عملت على تقويض العلم بنفيها لمبدأ السببية في ظواهر الطبيعة، وهو المبدأ الذي يمثل ركنا أساسيا من أركان العلم.

لا شك أن العالم الإسلامي اليوم في حاجة ماسة لاستعادة دور العقل في ريادة عملية التغيير بعد أن ساد النقل لقرون طويلة أدت لحالة الجمود الحضاري التي أقعدت بالمسلمين وجعلتهم يقبعون في مؤخرة ركب الأمم بعد أن بلغوا شأوا كبيرا في التطور كانت ذروته في القرن الرابع الهجري.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*