إسماعيل أيت أحماد:
ليست لدي أية مشاكل مع العلمانية" و"أطالب الحزب الذي أنتمي إليه (العدالة والتنمية الإسلامي) بإبعاد الدين عن الحريات الفردية". هذه الجملة أتت في سياق تصريح النائبة المغربية آمنة ماء العينين حول الحريات الفردية، وأثارت ردود فعل متباينة.
البرلمانية التي نشطت في حركة التوحيد والإصلاح الإسلامية، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، وباسم الأخير ترشحت لولايتين متتاليتين، أعلنت تحوّلها للدفاع عن الحريات الفردية، بعدما كانت سابقاً من صقور حزبها في مهاجمة الجمعيات الحقوقية التي تتبنى خطاباً حداثياً.
آمنة ماء العينين
أدلت ماء العينين بتصريحات كثيرة ومتطابقة في نفس الموضوع، وآخرها خلال استضافتها في برنامج "بدون لغة خشب" الذي يعدّه الصحافي رضوان الرمضان ويقدّمه على إذاعة "ميد رادي"، وشاهد المتابعون التسجيل المرئي للحلقة على موقع يوتيوب، وفيه أكدت على مواقفها وقناعتها بضرورة مناصرة الحريات الفردية والدفاع عنها.
بنت ماء العينين دعائم كلامها على حجج من حقل الفلسفة وعلم الاجتماع بدلاً من الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. أرادت أن تؤكد أنها قطعت مع مسارها في الحركة الإسلامية التي انتسبت إليها منذ كانت تلميذة في المرحلة الثانوية، وعبّرت عن ذلك صراحة بقولها: "فكرة الحجاب في الماضي انطلاقاً من تجربتي، كانت متضخمة في فكر الحركة الإسلامية من الناحية السيميولوجية"، وأضافت: "هذا المسار، أنا نفسي راجعته لأن الحجاب أو غطاء الرأس في هذه اللحظة بالنسبة لي، لم يعد يكثف دلالياً هذه العلاقة بالقيم والحمولة الأخلاقية التي كان يحملها في ذلك الوقت".
تزامنت تصريحات النائبة المذكورة مع جدل حول الحريات الفردية في المغرب. فقد أصدر المجلس الوطني لحقوق الإنسان مذكرة تضمنت توصيات إلى البرلمان، طالب فيها بـ"رفع التجريم عن جميع العلاقات الجنسية الرضائية وتجريم الاغتصاب الزوجي حيث ينتفي عنصر الرضا"، إضافة إلى "حرية المعتقد" و"الحق في التوقيف الإرادي للحمل (الإجهاض)".
ولقيت هذه المذكرة وتصريحات ماء العينين ردود فعل متباينة في صفوف الإسلاميين.
خطاب حداثي عن الحريات الفردية
تشارك ماء العينين في ندوات للدفاع عن الحريات الفردية والترافع من أجل إقرارها في التشريع، بل صارت تتهم الأحزاب اليسارية التي تصف نفسها بأنها حداثية بالعجز عن الدفاع عن الحريات الفردية "لأنها لم تكن حاضرة أكثر على مستوى النقاش ولم تقدم مقترحات قوانين في البرلمان".
وخاطبت حزبها قائلة: "أدعو حزب العدالة والتنمية في نقاشه حول الحريات الفردية، إلى أن يتخلص من الأمور التي تعيق هذا النقاش بدعوى أنه ليس من الأولويات" مضيفة: "موقفي واضح، يجب أن ترفع الدولة يدها بشكل مطلق عبر آلية التشريع عن الحياة الخاصة للناس في الفضاءات المغلقة قطعياً".
في هذا الإطار، يتبى محمد عبد الوهاب رفيقي الملقّب بأبي حفص، الباحث في الدراسات الإسلامية، قضايا الحريات الفردية بعد مراجعة أفكاره. كان رفيقي من أبرز شيوخ التيار السلفي المتشددين، وسبق أن حكم عليه بـ30 سنة سجناً في قضية الأحداث الإرهابية التي ضربت مدينة الدار البيضاء سنة 2003، ثم أُفرج عنه بعفو ملكي سنة 2011، وقام لاحقاً بمراجعات فكرية عميقة، فقررت رابطة علماء المغرب إقالته سنة 2017 بعد تصريحاته المطالبة بالمساواة في الإرث.
محمد عبد الوهاب رفيقي
يقول رفيقي لرصيف22: "ما فتئت أطالب بإخراج الدين من موضوع الحريات الفردية، إلا أنه نظراً لتجذر الدين في المجتمع، نضطر إلى مناقشة الأمر داخل المنظومة الدينية وبأدوات دينية لإقناع الآخرين بأن الدين فعلاً محايد في الموضوع".
وعن هل توافق خطابه مع خطاب ماء العينين هو مؤشر على بداية تشكل تيار إسلامي بخطاب حداثي، أوضح رفيقي أنه لا يمكن الحديث عن تيار موحد، فلكل من الشخصيات ظروفها الخاصة، وأنه لا يحب الانتساب إلى أي تيار إسلامي.
ولفت إلى انتقاده بشدة فكر الإسلام السياسي وأداء حركاته بينما تتحدث ماء العينين من داخل حركة إسلامية تمثل إحدى واجهات الإسلام السياسي في المجتمع المغربي، وبالتالي فالمسارات والسياقات تختلف، حتى ولو حصل اتفاق حول نتيجة معينة.
ويرى رفيقي أنه "لا بد من تشجيع هذه الأصوات داخل حركات الإسلام السياسي ودعمها للدفاع عن القضايا الحداثية، ولأنها تدفع الإسلاميين إلى النقاش وربما لاحقاً تغيير نظرتهم حول هذه القضايا، كما سبق أن غيروا مواقفهم في قضايا أخرى".
في المقابل، تصف الباحثة في الاجتهاد المعاصر وفقه النوازل رحمة معتز دعوات ماء العينين ورفيقي بأنها "غير واقعية لأن فئة واسعة من المجتمع المغربي تعاني من الأمية ولم تستوعب مفهوم الحريات الفردية ومن شأن تشريعها والتطبيع معها أن يخلق فوضى ويتسبب في مشاكل إضافية للمجتمع".
وتضيف لرصيف22 أن "المطالبة بإبعاد الدين عن نقاش الحريات الفردية غير ممكن، لأن الدولة تتوفر على مؤسسات من اختصاصها الشأن الديني والفتوى، مثل المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، كما أن الملك يُعتبر أمير المؤمنين حسب نص الدستور، وبالتالي لا يمكن حسم موضوع الحريات الفردية دون إشراك هذه المؤسسات".
وتُرجع الباحثة التحولات في مواقف بعض الإسلاميين إلى عوامل نفسية مرتبطة بطبيعة بعض الشخصيات التي انخرطت في الحركة الإسلامية في وقت مبكر دون اقتناع أو باندفاع عاطفي، ثم مرّت لاحقاً بصدمات نفسية أو تغيّر في المكانة الاجتماعية والانبهار بالوضعية الجديدة التي تمنحهم امتيازات.
اتهامات بالانحلال واستهداف الشريعة
لقيت تصريحات ماء العينين ورفيقي ومذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ردود فعل قوية وقاسية من طرف بعض رجال الدين والشيوخ المحافظين.
وفي هذا الإطار، كتب الشيخ الحسن الكتاني، ذو التوجه السلفي، على فيسبوك منشورات اتهم فيها ماء العينين بـ"الارتماء في أحضان أعداء الدين". وبعدما تناقلت وسائل الإعلام مواقفه وتفسيرها بأنها "تكفير"، نفى أن يكون قد قصد ذلك.
الشيخ الحسن الكتاني
وقال: "نحن نتحدث عن موضوع شرعي وليس توصيفاً لفلان أو فلانة، وإنما قلت إن ما قالته النائبة البرلمانية المنتسبة لحزب ذي مرجعية إسلامية يخالف ما نعرفه عن هذا الحزب، وقلت إن هذا الذي تدعو إليه يُخالف قواعد الشريعة الإسلامية وهذا واقع".
وأضاف الكتاني: "مع هذا، فأنا لم أحكم على شخص معيّن بتاتاً وليست هذه مهمتي، نحن نبيّن أن ما يدعو إليه هؤلاء خطأ من حيث الشريعة الإسلامية ودين الأمة لأننا مؤهلون لذلك بدراستنا وبعلمنا".
من جهة أخرى، نشر أحمد الريسوني، الفقيه المقاصدي، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، خلفاً للشيخ يوسف القرضاوي، مقالاً بعنوان: "أنا مع الحريات الفردية"، تحدث فيه عن تصوره للحريات الفردية التي يكفلها الإسلام، منتقداً بشدة وبقسوة المطالبات بالحريات الفردية في ما يتعلق بالإجهاض والحرية الجنسية الرضائية بين الراشدين.
أحمد الريسوني
ولقي كلامه الذي أتى بعد الجدل الواسع الذي أثاره اعتقال ابنة أخيه هاجر الريسوني، بتهمة الإجهاض غير القانوني، انتقادات قوية بسبب وصفه المدافعات عن الحريات الفردية بأوصاف قاسية اعتبرها البعض لا تليق بمكانته.
غير أن الريسوني وفي مقابلة مع جريدة أخبار اليوم المغربية، تشبث بموقفه ورفض الاعتذار واعتبر أن كلامه "موزون عقلاً وشرعاً وليس فيه شيء منفلت"، وأوضح أنه لم يطلق هذا الوصف على أصحاب مطالب أو أفكار "وإنما أطلقه على نساء جئن أو جيء بهن إلى الشوارع العامة على الملأ وأمام الكاميرات، فأعلنّ واعترفن أنهن زانيات وأنهن إجهاضيات، وتحدين بذلك الشرع والمجتمع والقانون والمؤسسات القضائية".
موقف براغماتي لإسلاميي الحكومة
في سياق هذا الجدل، أعلن رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني رفضه للتوصيات التي تضمنتها المذكرة التي وجهها المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
وأكد في كلمته أمام اللجنة الوطنية لحزبه بتاريخ الثاني من نوفمبر أن الحزب متشبث بثوابت المغاربة وبالمرجعية الإسلامية وسيبقى مدافعاً عنها.
وذكّر العثماني بالتوافق الذي انبثق عن عمل لجنة ثلاثية ضمت وزارات الأوقاف والصحة والعدل بإشراف الملك محمد السادس، وشدد على أنه "من الصعب العودة إلى الوراء والبحث عن توافق جديد حول موضوع محسوم".
وأضاف: "مع الأسف، هناك مَن يريد إعادة عقارب الساعة إلى الصفر... والحال أن المقترحات المتوافق حولها قد تم تضمينها في مشروع القانون الجنائي".
ودعا العثماني مناصري الحريات الفردية "إلى مناقشة أمور مفيدة لصالح المواطنين والوطن بدل أن تعيد الخلطة من جديد وتفكك ما تم التوافق حوله"، مضيفاً بنبرة حازمة: "لن نسمح بذلك ولن نكون طرفاً فيه".
كما أعلن وزير الدولة وحقوق الإنسان الذي ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية مصطفى الرميد أن "العلاقات الرضائية والإجهاض والمثلية وما إلى ذلك، أقول لكم بكل وضوح (وبنبرة حازمة): هذا بلد إسلامي بمقتضى الدستور وبمقتضى الواقع وعلى رأسه أمير المؤمنين".
واستدل الرميد بما ورد في خطاب الملك محمد السادس أثناء تقديمه مدونة الأسرة في 10 أكتوبر 2003 حين قال: "لا يمكنني بصفتي أميراً للمؤمنين أن أحل ما حرم الله أو أحرم ما أحله.
الحريات الفردية وسؤال الأولويات
حول موقف العثماني من الحريات الفردية، تشير الباحثة رحمة معتز إلى أنه تلقى تكويناً فقهياً، وأنه رجل دعوة أكثر مما هو شخصية سياسية، و"أي تصريح يدلي به سيكون مقيّداً بمجموعة من الضوابط والقيود وبرغبته في الموازنة في إرضاء مختف الأطراف دون التخلي عن مرجعيته الإسلامية". ونفس الأمر ينطبق على مصطفى الرميد برأيها.
من جانب آخر، يلفت حسن بناجح، عضو الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان الإسلامية، إلى "أن الجماعة تنظر إلى المشهد السياسي والحقوقي المغربي وفق الأولويات".
حسن بناجح
وقال لرصيف22: "أولويتنا هي بناء المؤسسات وفق الإرادة الشعبية واستقلالية القضاء ثم تحصين فضاء الحريات لمناقشة كل المواضيع التي تهم المؤسسات التي تحسم كل النقاشات المجتمعية المشروعة... وأية نقاشات أو معارك أخرى نعتبرها إلهاء عن المعركة الأساسية ولا تزيد الاستبداد إلا قوة".
ورفض بناجح التعليق على تصريحات ماء العينين ورفيقي، واعتبر أن كل طرف حر في اختيار أولوياته، منتقداً ما وصفه بـ"السكوت عن اقتحام السلطات للفضاءات الخاصة واستهداف الحريات الفردية والتجمعات العامة وتشميع البيوت مقابل تسليط الأضواء على قضايا جانبية مما يخدم الاستبداد".
رصيف 22