أوروبا هي القارة الوحيدة التي من البداية حملت لقب القارة المسيحية في العالم. ونضيف أنها القارة الوحيدة في التاريخ التي نشرت الثقافة المسيحية في وسطها، وحملت الراية المسيحية إلى أكثر القارات الأخرى بإرسالها على مدار العصور أكبر أعداد وأفواج من المبشرين لنشر هذه الديانة. وهنا نتساءل قبل كل شيء، كيف وصلت المسيحية إلى هذه القارة، ولماذا دام السلام فيها أكثر مما في القارات الأخرى؟
في محاضرة لي أمام جمهور غفير في إحدى الرعايا الألمانية بعنوان: "الديانة المسيحية ودورها في بناء السلام"، جاءني سؤال: لماذا أنتم في حرب دائمة مع بعضكم في الشرق وخاصة مع إسرائيل؟ سؤال محق، لكنني كنت قد تطرقت قبل هذا السؤال لدور الدين في إحلال السلام في العالم إجمالا، وهنا بين ألمانيا وفرنسا خاصة، بعد العداوة الكبيرة والحرب العالمية الثانية الطاحنة التي دارت بينهما. فما مضت سنتان على انتهاء الحرب حتى التقى رؤساء الدولتين، آنذاك ديجول في فرنسا وأيديناور في ألمانيا، كلاهما مسيحيان متأصّلان، تصافحا بحرارة ثم ما انتهت مدةُ هذه الزيارة بتبادُل الآراء حتى فُتحت أبواب السجون وأرسل كلٌّ منهما مساجينه العديدين إلى بلدهم وعائلاتهم، كأن شيئًا ما كان. كيف تم ذلك؟ ولماذا لم تحدث منذ تلك الفترة أية مناوشة عسكرية بينهما بل قد عمّ السلام والرفاهية والتقدم المشترك، كما بين الإخوان، فما هي وصفة السلام هذه التي قد تُفيد دول الشرق، التي لا تعرف ما هو السلام بل كأنه كلمة غير معروفة في قاموس لغاته ودياناته؟
جوابي على السؤال أعلاه كان أبسط مما توقعت. قلت للسائل: ما هي ديانة الدولتين؟ قال المسيحية. قلت له: هذا هو السبب. المسيحية تعلّم وتطالب بالسلام حتى بين الأعداء، إذ من تعليمها: احبوا أعداءكم. باركوا ولا تلعنوا. صلوا لأجل مبغضيكم. لا مكان فيها للكلمات: العين بالعين والسن بالسن، والإنتقام لمشكلة الشرف، مثل الديانات عندنا في الشرق، سواء اليهودية أو الإسلامية. من هنا الحروب الدائمة بين أتباع هاتين الديانتين، إذ لا تسامح فيهما إلاّ بعد أخذ الإنتقام. أظن أنني أقنعت السائل بجوابي هذا، إذ اكتفى بهز الرأس لا بالإحتجاج.
والآن السؤال: كيف وصلت المسيحية إلى أوروبا؟ إن الجواب على هذا السؤال له أيضًا إثباته: إن أقدم وثائق كتابية تؤكد لنا وصول الديانة المسيحية إلى أطراف أوروبا الجنوب شرقية أولاً، هي رسائل بولس، الذي سمّى نفسه رسول الشعوب غير اليهودية (روم 11. 13). كذلك رسائله إلى غلاطية وتسالونيكي وكورنتي وفيليبي مليئة بالتلميحات لتبشيره بالإنجيل للشعوب غير اليهودية. كل هذه الرسائل كتبها بولس بين السنين 50-56 بعد المسيح. فما عدا روما، كان بولس قَبْل أن يكتب هذه الرسائل قد وصل إلى تلك المدن مع رجال ونساء مؤمنين وبشروا بالمدعو يسوع الناصري الممسوح، وهكذا وضعوا الأساس في شرق وغرب الممالك الرومانية الواسعة لخلق وتأسيس مناطق مسيحية فيها من يهود وغير يهود، من رجال ونساء، من أحرار وغير أحرار، ربطهم الإيمان الواحد ببعضهم البعض.
أما في روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية، فكانت هذه الديانة الجديدة قد وصلت إليها قبل تبشير بولس وانتشرت فيها بين اليهود وغير اليهود، بين الأهليين والغرباء. أما عن يد من وصلت هذه الديانة إلى قلب روما فغير معروف، رغم وجود رسالة بولس المهمة إلى أهل روما، فهي رسالة متأخرة نسبيًا. وإن كانت من أهم رسائل بولس بمحتواها اللاهوتي، إلا أنها جاءت بعد كل تلك الرسائل تاريخيًا، بعدما كان بولس قد استقر فيها نهائيًا، كتبها وهو في السجن قبل وفاته. المهم أنه منذ البداية لم تلعب الوطنية أي الجنسية بعد قبول الإيمان أي دور، بين يهودي أو غير يهودي، بين رجل أو امرأة، لأنه منذ البداية، كما يذكر بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: "كلّكم الّذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعكم واحد في المسيح" (غلاط 28:2). من هذا النص نفهم أن هذه الديانة لا تفرّق بل هي تجمع، إذ تلعب فيها الديمقراطية والمساواة دورها الأساسي. فلا مكان فيها لرفض أيٍّ كان بسبب جنسه او لونه او مستواه. نعم لا رفض بل القبول الواعي بانضمام كل القادمين إليها وفتح الباب والمجال لكل من يطلب الإيمان بيسوع واعتباره أخاً بالدين.
هذا وفي هذه الديانة شيء يبقى سبب فرح، وهو أن المؤمن ينسى جذوره الأصلية وهي التمييز بين المسيحي اليهودي وغير اليهودي. وهذا يعني الإقبال بل القبول بديانة جديدة، من ينتسب إليها لا يعرف لا وعودًا بمجيء مسيحها، كما في العهد القديم، كان ينتظره، فأتى وآمن به. ولا هو كان مُطَّلِعا على طقوس دينية تمارست قبله ومعه تجددت، بل فجأة اقتناع راسخ من هذا التعليم الجديد الذي يبعث على الفرح والثقة بالإنتماء إليه، كما يصف بولس ذلك في رسالته إلى أهل روما: "إن كانت الباكورة مقدسة قكذلك العجين. وإن كان الأصل مقدّسا فكذلك الأغصان" (روم. 11 :18).
فلا تفضيل هناك بين المنتمين إلى هذه الديانة، كما الحال في السياسة، بل كلهم سواسية، إن عملوا بوصية بولس: "امتحنوا كل شيء وتمسّكوا بالحسن" (1 كور. 5: 21)
هذا جائز ليس فقط في مجال الدين، كما نفهمه من قول بولس، بل أيضًا في مجال السياسة، فلا يجوز اعتبار سياسي أفضل من الآخر بسبب العرق أو المنشأ. إذ المسيحيون مدعوّون بسبب انتمائهم الديني أن يؤثروا على المسائل الإجتماعية والسياسية وأن يقفوا صفًا واحدًا للدفاع عن الحق والمساواة، خاصة حيث يشاهدون أن الحقوق مهضومة أو معدومة. فالكتب الدينية سواء التوراة أو الإنجيل تؤكد أن الإنسان وكل مخلوق هو على صورة الله ومثاله: "خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم" (تكو. 27:1(.
إن الإقتناع بهذه القاعدة الإيمانية التي لا تُنكَر، أجبرت القانون العلماني الأوروبي أن يبني عليها بنود دستوره للحقوق البشرية. وللعلم جاء هذا القانون البدائي تحت ظروف غير ملائمة للدين، أعني بعد الحرب العالمية الأولى. أما بعد الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها ليس فقط آلاف الآلاف من اليهود بل أيضًا ملايين لا تحصى من كل الجنسيات التي اشتركت في هذه الحرب الطاحنة، فقد تم تنقيح هذا القانون والإضافة عليه فقرات أساسها الإيمان وتطويبات المسيح التي قال عنها ستالين مؤسس الشيوعية: لو صدرت مني لقدرت أن أحكم فيها العالم بأكمله.
في هذا الوقت جاءت فكرة توحيد أوروبا لئلا تحدث حروب ثانية على أرضها، خاصة وأن أوروبا كانت تفتخر بأنها مسيحية، لا تعرف أية ديانة أخرى، فعلى كل المسيحيين أن يقفوا صفًا واحدًا ضد نشوب أي حرب جديدة عليها. هذا وإن برلمان أوروبا لا يتعب من حماية هذا المبدأ، أعني وقوف المسيحيين في وجه إعلان أي حرب جديدة بين المسيحيين، فيبقى السلام على متناول اليد في أوروبا الجديدة كما كان دوره في أوروبا القديمة.
مما لا شك فيه أن بولس ومساعدوه، خاصة الرجال، دون أن ينسى أن يَذكر بعض النساء، مثل "مريم التي تعبت لأجلنا كثيرًا" (روم 6:16) أو "أختنا فوبي التي هي خادمة الكنيسة في كخريا، وبرسكيلا التي مع زوجها أكويلا، اللذين أسكنا بولس في بيتهما في كورنتس وبشرا معه، وآخيرا وليس آخرا الكسندرينا أبولوس التي هي من أصل يهودي ولكنها كانت تشهد بحقيقة يسوع المسيح" (روم 1 ، 3:16 وأعمال: 28: 2 و26). ثم الذين جاؤا إما من أصل يهودي أو غير يهودي وتنصروا، ورافقوه في رحلاته التبشيرية، كلهم ساعدوا على وضع خميرة الإيمان والمسيحية في أوروبا التي كانت من أهم القِيم التي بنت عليها هذه القارة تاريخها المجيد.
للأسف أن المسيحيين اليوم في أوروبا ما عادوا يتحلون بالرّوح المسيحية التي غرسها بولس فيها. فما يسعنا إلا أن نضم صوتنا إلى صوت البابا فرنسيس في خطابه المشهور أمام منبر البرلمان الأوروبي يوم 25 نوفمبر 2014 منددًا به على ما آلت إليه أوروبا، فهي ما عادت تهتم بجذورها الدينية بل أصبحت قارة مادية محضة، تعتمد بالدرجة الأولى على قوة اقتصادها خاصة على بيع الأسلحة إلى الدول الفقيرة لتبتزّ أموالها التي هي بحاجة لها لإطعام مواطنيها.
الإيمان هو أساس السلام وحاميه. فمن لا يترحم اليوم على فقدان أوروبا شرفها وفخرها وقوتها، بعد ما كانت القارة الوحيدة التي حملت لقب المسيحية لعصور طويلة، ولكنها قد فرّطت اليوم بهذه الصفة التاريخية وما عادت تعتمد في قوانينها ومعاملاتها على تعاليم الدين ووصاياه، الذي دخل إليها على يد بولس وتلاميذه! نقول نعم للأسف.