عبد الله كمال
يُعتبر الأمازيغ في الجزائر وفي منطقة شمال أفريقيا عمومًا مثار تساؤلاتٍ بالنسبة لشعوب المشرق العربيّ الذين لا يعرفون عنهم الكثير، إذ إنّ هنالك الكثير من الأفكار المُسبقة والتصوّرات الخاطئة التي ترسم صورة غير دقيقة عنهم. فهناك اعتقادٌ منتشر بأنّ الأمازيغ مسيحيّو الدين في غالبيّتهم، أو أنّهم «أقليّة» موجودة في الجزائر في محافظة واحدة أو محافظتين.
بدايةً لا يمكن حصر الأمازيغ في منطقة جغرافيّة محدّدة في الجزائر أو في ولاية (محافظة) واحدة، فهم ينتشرون في جميع ربوع الجزائر من شرقها إلى غربها بنسبٍ متفاوتة، كما توجد تنوّعات داخل المجتمع الأمازيغيّ نفسه، إذ ينقسم إلى: القبائل، ويتمركزون بشكلٍ كبير في المحافظات الشماليّة الوسطيّة (تيزي وزو، وبجاية، وبويرة) والشاويّة الذين يتركّزون في شرق البلاد (سطيف، وسوق أهراس، وباتنة وقالمة، وخنشلة وولايات أخرى) والشناوة (تيبازة) والشلوح (تلمسان) والطوارق في الصحراء الجزائريّة، بالإضافة إلى بني ميزاب في ولاية غرداية.
كل هؤلاء يشكّلون ما يصطلح عليه بالأمازيغ، ويتّسمون بتنوّع اللهجات والعادات والثقافات، لكن المحافظات التي يسلّط عليها الضوء غالبًا عند الحديث عن الأمازيغ في الجزائر هي منطقة القبائل (تيزي وزو وبجاية) لما شهدته من نشاط سياسي وثقافيّ في قضايا الثقافة الأمازيغية، بالإضافة إلى بعض الحركات الانفصاليّة التي تنشط هناك.
لكن ما موقف هذه المنطقة من الإسلام؟ وهل صحيح أن غالبيّة سكّانها مسيحيّون؟ هل يوجد في تيزي وزو مثلًا مسجدٌ أو مدرسة قرآنيّة؟
كأيّة مدينة جزائريّة أخرى، عندما تدخل منطقة القبائل فتوقّع وجود المساجد والزوايا قرب كلّ حيّ أو تجمّع سكنيّ؛ إذ يوجد بالمنطقة أكثر من 800 مسجد، و20 زاوية، ومئات المدارس القرآنيّة. بالإضافة إلى ذلك فإن للمنطقة تاريخًا عريقًا مع الطُرُق الصوفيّة وزواياها التي تنتشر في جبال المنطقة وقُراها، أين يتعلّم الطلّاب القرآن الكريم وأحكامه، وتسيّر الكثير منها بتبرّعات السكّان دون أيّ إعانات حكوميّة، كما أنّ المنطقة كانت منذ الفتح الاسلاميّ قبل 14 قرنًا منارة علميّة في مختلف الفنون الدينيّة، خصوصًا في مدينة بجاية.
علماء أمازيغ.. علّموا العربيّة للعرب!
على مرّ قرونٍ طويلة بعد الفتح الاسلاميّ لشمال أفريقيا، أنجبت منطقة القبائل عدّة علماء وفقهاء تخصّصوا في الفقه الإسلاميّ واللغة العربيّة وباقي العلوم الدينيّة، أبرز هؤلاء هو ابن المعطي الزواويّ من قرية زواوة التابعة لولاية تيزي وزو حاليًّا؛ مؤلّف «ألفية ابن المعطي» التي يتدارسها المتخصّصون في النحو العربيّ في كل أنحاء العالم، وقد سبق «ابن المعطي» بكتابه ألفيَّة ابن مالك الشهيرة.
كما أخرجت المنطقة فقهاء مشهورين أمثال أبي الفضل المشداليّ الذي تخصّص في الفقه المالكيّ، وشيوخًا متصوّفين مثل:أبي مدين شعيب الذي عاش في بجاية، إحدى مراكز العلم في المغرب آنذاك، والذي شارك رفقة متطوّعين من نفس المنطقة في معركة حطّين الشهيرة تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي في حربه ضد الجيوش الصليبيّة من أجل تحرير مدينة القدس، وبفضل شجاعة الشيخ واستبسال أتباعه في الحرب؛ أوقف صلاح الدين الأيّوبي منطقة كاملة في مدينة القدس تُعرف اليوم بـ«حارة المغاربة.«
بالإضافة إلى ذلك فقد لعب أبناء المنطقة دورًا بارزًا في الحركة الاصلاحيّة أثناء الاستعمار الفرنسيّ، والتي اجتمع رموزها في جمعية العلماء المسلمين مع مؤسّسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إذ حملت على عاتقها مهمّة الحفاظ على اللغة العربيّة والقيم الإسلاميّة للشعب الجزائري في مواجهة الفرنسة والحملات التبشيريّة التي جاء بها الاستعمار الفرنسيّ، وقد كان من بين أبرز رموز هذه الحركة الإصلاحيّة أبو يعلى الزواوي، ويحيى حمّودي، وغيرهما من علماء المنطقة.
التنصير.. تهويلٌ تكذّبه الأرقام
قبل سنواتٍ قليلة، كان التنصير في منطقة القبائل هو الموضوع المفضّل للعديد من الصحف ووسائل الإعلام؛ إذ تمّ تناوله بشكلٍ مكثّف، وتنوّعت التغطيات بين التهويل من حجم الظاهرة ونشر الشائعات والأخبار الكاذبة عن الموضوع. أحد أشهر الشائعات المنتشرة، كانت تقول: «إنّ الكنائس في منطقة القبائل ستدفع لك آلاف الدينارات مقابل تغيير دينك وترك الإسلام من أجل الدخول إلى المسيحيّة، وقد عمّت إلى حدٍّ ما الفكرة القائلة بأنّ هذه الكنائس تستغلّ فقر الشباب وبطالتهم من أجل التبشير بالدين المسيحيّ في تلك المنطقة.«
لا ينحصر وجود الكنائس في منطقة القبائل وحدها، فهي موجودة في عدّة ولايات، من بينها العاصمة الجزائر، بالإضافة إلى المدن الكبرى كوهران وعنّابة وقسنطينة وغيرها، كما توجد أيضًا كنائس سريّة غير مرخّصة تتعامل معها الحكومة بشيءٍ من الليونة، وقد تمّ بناء أغلب الكنائس في عهد الاستعمار الفرنسيّ وبقيت بعد الاستقلال. وقد قدّر تقرير لوزارة الخارجيّة الأمريكيّة عدد المسيحيّين في البلاد في تقرير له سنة 2015 بين 30 ألفًا و70 ألف، يتوزّعون في مختلف ربوع البلاد.
وتشير عدّة أبحاث تاريخيّة إلى أنّ فترة الاستعمار الفرنسيّ قد شهدت تركيزًا خاصًا في جهود التبشير في منطقة القبائل؛ وذلك من أجل عزلها عن محيطها العربيّ الاسلاميّ وتأجيج الفرقة بين القبائل الأمازيغية وغيرهم من جيرانهم العرب، بغية تسهيل مهمّة الاستعمار من أجل التحكّم في مكوّنات المجتمع الجزائريّ وبسط سيطرته عليه.
كما أنّ بعض المبشّرين المستعمرين كانوا يحلمون بـ«عودة» الأمازيغ إلى المسيحيّة التي كانت منتشرة في العهد الروماني حين احتلّت روما منطقة شمال أفريقيا، وبالتالي فإن مهمّتهم هي إرجاع هؤلاء الشعوب إلى دينهم «الأصليّ»، لكنّ هذه المحاولات لم تُجدِ نفعًا؛ إذ إنّ هذه المنطقة كانت من أشدّ المناطق اضطرابًا طوال الفترة الاستعماريّة التي امتدّت 132 عامًا، فلم تهدأ الانتفاضات والثورات في هذه المنطقة التي حمل رجالها ونساؤها السلاح ضد قوّات الاستعمار، وتحصّنوا بجبال المنطقة الشاهقة، وقادوا عدّة ثورات ضد الفرنسيين، يُذكر منها انتفاضة لالة فاطمة نسومر والشريف بوبغلة، وانتفاضة الشيخ الحدّاد، فرفضوا بشكل قطعيّ فكرة التنصير أو الانقياد تحت إمرة الفرنسيين.
الأكل في رمضان.. موعد صراعٍ سنويّ
في أيّام رمضان 1434 الهجري، الموافق ليوليو (تمّوز) 2013، وقفت مجموعة مكوّنة من 300 شخص تجمّعوا في إحدى ساحات مدينة تيزي وزّو، في ما يشبه الاعتصام السلميّ، لكن بدلًا عن أن يهتفوا بمطالب معيّنة، أخرج كلّ منهم شطيرة، وبدأوا في تناولها جهرًا أمام أعين الناس.
وقد تباينت ردود الأفعال بعد هذه الحادثة بين من اعتبرها حركة استفزازيّة غير مسؤولة، تستهدف إثارة مشاعر مجتمع مسلم الذي يحظى فيه شهر رمضان بمكانة خاصّة في ضميره الجماضعي بالنسبة للصائمين والمفطرين على حدّ سواء، بينما كان الرأي الآخر يتحدّث عمّا أسموه حقًّا إنسانيًّا أصيلًا: الحقّ في الأكل. لكن بعيدًا عن الصراع والآراء المختلفة حول هذه الحادثة التي تكرّرت أكثر من مرّة، فإنّ هذه الحوادث التي تتكرّر من حين لآخر تعبّر عن وجود مكوّنات ثقافية فكريّة مُخالفة للتيّار السائد في المجتمع الجزائري، وبالخصوص في المنطقة المعروفة بـ«منطقة القبائل» كما أنّها لا تخشى الإعلان عن نفسها ومواجهة المجتمع بمعتقداتها حتى لو كانت صادمة.
مظاهرات مُفطري رمضان لم تمرّ مرور الكرام على المجتمع المحليّ في تيزي وزّو؛ إذ استفزّت ردود أفعال قويّة من المجتمع المحليّ تمثّلت في مشاركة آلاف من مواطني المنطقة في إفطار جماعيّ حاشد بعد تأدية صلاة المغرب في نفس الساحة التي أفطر فيها أولئك الأشخاص قبلها بيوم، وقد نقلت كاميرات الصحافة تفاصيل الإفطار الذي حضره الرجال والنساء والأطفال، في رسالة شجب وتنديد بتصرّف الفئة التي رأوا أنها «انتهكت حرمة الشهر الفضيل»، وقد ارتفعت الأصوات بعدّة شعارات وهتافات أكّدت على أنّ منطقة القبائل تعتبر الإسلام مكوّنًا أصيلًا في ثقافتها.
«أسّا، آزكّا، الإسلام يلّا يلّا» شعارات باللغة الأمازيغيّة تعني «اليوم، وغدًا، الإسلام هنا» ارتفعت في الساحة التي شهدت قبلها بساعات تجمّعًا لأفراد من نفس المنطقة، لكن بأفكار وشعارات مختلفة تمامًا عن تلك التي ارتفعت في هذه السهرة الرمضانيّة.
الحركات الانفصاليّة والاسلام.. موقف متوتّر
تعرف منطقة القبائل نشاطًا من قبل حركات تدعو إلى الانفصال والحكم الذاتي، أبرز هذه الحركات وأكثرها شعبيّة هي «الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبائل» المعروفة اختصارًا بـ«الماك»، والتي يتزعّمها فرحات مهنّي. ورغم أنّ الحركة تدّعي أنّها تحمل قيمًا علمانيّة لا تتدخّل في الدين وتعتبره مسألة شخصيّة؛ إلا أنّ المُتابع لتصريحات مسؤوليها ونشاطات الكثير من أتباعها لا يستطيع تجاهل النَفَس الصداميّ مع القيم الإسلاميّة ومظاهرها التي تتّسم به منطقة ذات أغلبيّة مسلمة كمنطقة القبائل والجزائر عمومًا، فقد صرّح بذلك أحد كبار القياديين في الحركة الانفصاليّة قبل مدّة بقوله: «علينا أن نصطاد جميع السلفيّين من قُرانا، أدعو النساء القبائليات اللواتي ترتدين الحجاب، إلى رميه في القُمامة».
الموقف من الإسلام والرأي حول طبيعة علاقته بالمجتمع القبائليّ يتباين عند بعض المجموعات المعارضة في هذه المنطقة، وينتشر هذا التوتّر في العلاقة أكثر عند غُلاة شباب الحركة الانفصاليّة التي ترى مجموعة منهم أنّ الإسلام دخل منطقة شمال أفريقيا من خلال احتلال العرب هذه المنطقة، كما أنّ القمع المُمارس ضد الثقافة الأمازيغيّة في فترة السبعينات أثناء فترة حكم الرئيس بومدين، التي اتّسمت بالتضييق على الحريّات وغياب الديموقراطيّة، غذّى هذا الشعور بالمظلوميّة، وأجّج ردّة الفعل العدائيّة تجاه سياسة التعريب التي انتهجها النظام الجزائري الحاصل على استقلاله منذ سنواتٍ معدودة؛ ففي تلك المرحلة التاريخيّة كان يُمنع تسمية المواليد الجدد بأسماء أمازيغيّة، وقد كان يجري التضييق على الجمعيات والأحزاب، بما فيها تلك التي تُعنى بالثقافة الأمازيغيّة.
ورُغم أنّ القمع وتدخّل ومحاولة أجهزة الدولة في احتكار النشاط المجتمعي من حركات وجمعيّات ونقابات، إلا أن الكثير من الناشطين في منطقة القبائل رأوا أنّ القمع الذي يتعرّضون له بشكل خاص يهدف إلى محو لغتهم وثقافتهم وإحلال ثقافة «أجنبيّة» محلّها، وبالتالي كانت هنالك ردود أفعال متطرّفة من فئات محدودة تقوم بتشويه لافتات الطريق المكتوبة بالعربيّة والقيام بحركات استفزازيّة كتنظيم وقفة للإفطار في نهار رمضان.
يبقى المشهد في منطقة القبائل شديد التعقيد، بسبب ماضٍ قريب محمّل بالقمع السياسيّ الذي عاشت تحت وطأته البلاد، وقد نالت هذه المنطقة حصّتها منه، وبين إرث تاريخيّ إسلاميّ عريق، تذكّرك به الزوايا القرآنيّة المنتشرة في كل القرى والمداشر، والمساجد العامرة في أنحاء المنطقة، والأذان الذي ينطلق من كل النواحي خمس مرّاتٍ في اليوم.
المصادر