محمد يسري:
من الملاحظات التي لا سبيل لإنكارها أو التغاضي عنها، ذلك القدر الهائل من الاستهجان والرفض المجتمعي الموجه لبعض الشخصيات التي أعلنت عن إلحادها أو "خروجها من الدين"، في الفترة الأخيرة.
الحقيقة أن ذلك القدر من الانتباه والاهتمام تجاه التحولات الاعتقادية، يثير سؤالاً هاماً عن سبب الاهتمام المجتمعي بظاهرة "الإلحاد"، وعن رفض المجتمع لتلك الظاهرة، خاصة أنّ الاعتقاد الراسخ والشائع، من المنظور الديني، يُقر بحرية الاختيار، وذلك بحسب الآية الكريمة "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فمن أين إذاً يأتي كل هذا العداء لفكرة الإلحاد؟
الرؤية الدينية: ما هو رأي الإسلام في "الإلحاد"؟
بداية يجب أن نشير إلى أنّ مفهوم الإلحاد نفسه يقوم على منظومة أساسها الدين والتدين. بمعنى آخر، هي نظرة لـ"غياب" المعتقد، فإذاً هي نوع من التقييم لأشخاص ومجموعات من وجهة نظر تعتبر الدين أساساً، وليست نظرة إلى المجتمع والمعتقد من وجهة نظر الأشخاص الذين يعلنون استقلالهم عن الأديان التي يتبناها المجتمع.
في النص القرآني، الذي يعتبر المرجعية الأعلى للتشريع الإسلامي، نجد الكثير من الآيات التي يُفهم منها أن العلاقة الاعتقادية التعبدية بين العبد وربه، هي محض اختيار شخصي، حيث اعتاد النص القرآني منح الحق الكامل في حرية الاعتقاد، بحيث يصبح كل فرد مخيّراً في اختياره لطريق الإيمان أو لطريق الكفر.
في سورة "الكافرون"، وهي من بين السور التي نزلت في وقت مبكر من الدعوة الإسلامية، أثناء وجود الرسول في مكة، يتم عرض الكفر كدين مواز للدين الإسلامي، ويظهر من آيات السورة، حقّ الكافرين بالإسلام في البقاء على معتقداتهم القديمة بشرط عدم التعرض لمعتقدات الجماعة الإسلامية الوليدة.
بعد الهجرة إلى المدينة كذلك، ظلت حرية المعتقد الديني من بين المبادئ القرآنية الأصيلة، ومن أشهر الأدلة على ذلك، الآية 256 من سورة البقرة: "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".
ورغم أن كتب أسباب النزول قد تضافرت مع بعضها البعض على أن تلك الآية قد وجهت لبعض من الأنصار الذين حاولوا إكراه أبنائهم على اعتناق الإسلام، إلا أن معظم المفسرين قد اتفقوا على سريان حكمها على امتداد الزمان، وأن العبرة منها تتماشى مع عموم اللفظ لا خصوص السبب، ومن هنا فقد علق عليها ابن كثير في تفسيره:
"أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً..."٠
وعلى الرغم من الدلالة المركزية لتلك الآية في الخطاب القرآني، وانسجامها مع الاعتبارات الإنسانية، إلا أنه سرعان ما تم تحييدها والتغاضي عن القيم التي تنطوي عليها من خلال الادعاء بتعرضها للنسخ والتعديل والتقييد، فعلى سبيل المثال يذكر في تفسير تلك الآية:
"وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل".
من الملاحظ أن تراجع القيمة المركزية للحرية والحق في الاختيار وتحديد المصير، ترافق مع ضعف التركيز على الفرد، وإعادة النظر له في سياق جماعي، وقد ظهر أثر ذلك التغير في المدونات الحديثية، التي تضمنت العديد من الروايات والأحاديث التي تماشت مع ذلك السياق التأويلي التبريري الداعي لتطبيق عقوبة الردة، باعتبارها وسيلة للحفاظ على الرباط الجماعي، حتى لو همشت من المكانة الفردية للإنسان. ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري:
"من بدَّلَ دينَهُ فاقتُلوهُ"، وأيضاً ما ورد في صحيح مسلم "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزان، والنَّفُسُ بالنَّفْسِ والتاركُ لدِينِهِ المفارِقُ للجماعةِ".
في الحقيقة، التأكيد على ضرورة إقامة حد الردة على المسلم الذي يترك الإسلام قد جرى في سياق تاريخي أيديولجي يختلف كثيراً عن السياق الديني الإسلامي العقائدي.
فالمجتمع الإسلامي الصغير الذي سرعان ما تضخم بعد وفاة الرسول، ليتحول إلى كيان إمبراطوري، كان يحتاج إلى أيديولوجية تمنحه القدرة على التعبئة البشرية والمادية، وتحافظ له في الوقت ذاته على الزخم المعنوي الذي تميز به الرعيل الأول من المسلمين، ومن هنا كانت عقوبة الردة، في واقع الأمر، عقوبة سياسية مجتمعية أكثر من كونها حداً دينياً تشريعياً.
الكثير من العلماء المسلمين، نظروا للمسألة من تلك الزاوية، حيث نجدهم قد ربطوا تطبيق الحد على المرتد باقدامه على القيام بأفعال يُخشى منها على الإضرار بالإسلام أوالمعاداة له.
ومن هؤلاء العلماء ابن القيم الجوزية، الذي ذكر في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين":
"فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس.. وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل.. فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن فى بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم".
مما يزيد من قوة ومعقولية تلك النظرة التي تنظر لحد الردة في سياقه التاريخي الأيديولوجي لا الديني، أن الاستقراء التاريخي لحوادث الردة التي وقعت في عهد الرسول، يؤيد علاقة العقوبة بمسلك المرتد، وليس بفكرة الردة في حد ذاتها.
فعلى سبيل المثال، ارتد كل من عبد الله بن أبي السرح وعبد الله بن خطل، وقام الإثنان بإعلان عدائهما للإسلام، وعملا على النيل من الرسول وهجائه، وعندما تمكّن الرسول منهما بعد فتح مكة، أمر بقتل الثاني في الوقت نفسه الذي عفا فيه عن الأول بعدما تقبل فيه شفاعة عثمان بن عفان، وذلك حسبما يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"..
لماذا لا يتقبل المنظور الديني الذي تبنته المجتمعات العربية فكرة التسامح مع الإلحاد؟
إذا كان الاتجاه الديني الغالب يرفض إكراه أي شخص على اعتناق دين معين، ويتسامح إلى حد بعيد مع فكرة الإلحاد وعدم الاعتراف بالإله، فمن أين إذاً اخُتلقت تلك النظرة المجتمعية العدائية تجاه الإلحاد؟سلطة الدولة وأمن المجتمع
إن العثور على إجابة شافية، لفهم الدوافع والمبررات الموضوعية التي تفسّر إقبال مجتمع ما، في لحظة معينة من تاريخه، على المجاهرة برفض الإلحاد ومناصبته العداء بكل ذلك القدر من التحفز والشراسة، يتعلق بحالة الإحساس الجمعي بالأمان والسلم المجتمعي، وبغياب القدرة على التفاعل السياسي المنضبط الفعال.
مما تجدر ملاحظته في معظم الحالات، أنّ رفض المجتمع للإلحاد يعود لأسباب سياسية واضحة، فالمجتمعات التي تعاني من الدكتاتورية والتسلط والفساد وغياب التشاركية السياسية، تعاني بالتبعية من آثار غياب التطبيق الفعال للمنظومة القانونية، بمعنى أن القانون يبقى فيها مجرد حبر على ورق في أغلب الأحيان، بحيث لا تبقى لنصوصه قدرة على الردع المجتمعي، ولا على حفظ حالة السلام الداخلي بين أفراد المجتمع وبعضهم البعض، كما أن تلك النصوص غير المُفعلة تصير مع الوقت عاجزة عن تنظيم الصلاحيات والمسؤوليات لكل فرد من أفراد المجتمع.
هنا يظهر التديّن - وليس الدين- كبديل مواز للقانون، فهو يتمتع بقدرة تنظيمية هائلة، وبالإضافة إلى ذلك فأنه يستمد سلطته من مصدر متعال لا سبيل للتطاول عليه ولا اتهامه بالعجز، هذا بالإضافة إلى أن الصيغة الشائعة من التدين تنطوي في داخلها على العديد من القيم التشاركية والتكافلية الهامة، وتساهم في الترقي الروحي والأخلاقي من خلال الدعوة لقيم القناعة ومكارم الأخلاق وانتظار المثوبة في الحياة الآخرة.
في هذه المجتمعات، على وجه الخصوص، تحل المنظومة التدينية محل مثيلتها القانونية المهترئة وغير المُفعلة، فتنتقل سلطة التطبيق والتنفيذ من يد السلطة التنفيذية السياسية غير العابئة إلا بالحفاظ على سطوتها، إلى يد المجتمع ذاته، ويصبح الضامن الوحيد لتحقيق نوع من أنواع الأمن المجتمعي، هو الوازع الديني فحسب.
من هنا فأن المجاهرة بترك الدين أو الإلحاد، يصبح موضوعاً اجتماعياً/ سياسياً بامتياز، فالمجتمع المتعلق بأستار المنظومة التدينية، يخشى على نفسه من هذا الفرد الآبق الناكص عن العقد الاجتماعي الأكثر قوة وفاعلية
ولما كان العقل الجمعي للمجتمع يرفض أن يحاسب هذا الفرد الملحد وفق القوانين المجتمعية، لكونها عاجزة عن معاقبته، فأنه ومن هنا، يقوم بصبغ اتهاماته بصبغة دينية شمولية، تستند إلى النصوص الحديثية والفقهية، تلك التي تم انتاجها في فترات تاريخية مشابهة لهذه الفترة.
فيجد هذا الملحد نفسه في مواجهة عاصفة مجتمعية عاتية لا تبقي ولا تذر، ويتناسى أغلبية المعترضين أن المسألة شخصية بالأساس، وأنه لا داعي على الإطلاق لإقحام ذواتهم في علاقة اعتقادية ثنائية بين الفرد والآلهة.