سناء العاجي:
يروى أن في القرون الوسطى أبان الأنظمة الفيودالية (الإقطاعية) في معظم الدول الأوروبية، كانت هناك ممارسة تسمى بالفرنسية : le droit de cuissage، بمعنى: "الحق في الممارسة الجنسية". يتعلق الأمر بـ "حق" يملكه "السيد"، يكون له بموجبه الحق، في الليلة الأولى لزواج أحد تابعيه، في ممارسة الجنس مع العروس قبل الزوج نفسه... وهي إحدى أبرز العوامل التي بنى عليها ثوريو أوروبا فيما بعد مطالبهم للإطاحة بالأنظمة الفيودالية التي تكرس دونية البشر.
اليوم، ونحن نعيش بداية القرن الواحد العشرين، تبدو لنا مثل هذه الممارسات لا إنسانية؛ بل ونتساءل كيف قبل بها مواطنو تلك الفترة.
لكننا، ونحن نتساءل، ننسى أن نسائل ذواتنا عن قوانين لا إنسانية أخرى حكمت مجتمعاتنا في القرون السابقة، في نسق اجتماعي معين، وما نزال نصر على التعامل بها.
من بين هذه المفاهيم، هناك تقسيم الإرث.
لعل التقسيم الإسلامي للإرث كان مقبولا منذ خمسة عشر قرنا، لأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية كانت تسمح بذلك (وهذه مسألة فيها نقاش، حيث ينقل لنا التاريخ أن عددا من النساء ساءلن النبي في حينه عن هذا الحيف في حقهن، مما يعني أن التساؤلات حول المساواة في الإرث طرحت منذ عهد النبي نفسه). لكن، لنفترض جدلا أنه كان مقبولا آنذاك في كُلّيته، لكنه بالتأكيد، في ظروفنا الحالية، غير مقبول بتاتا.
لنترك جانبا كل النقاش حول التحولات الاجتماعية والاقتصادية، على أهميته، ولنأخذ تفصيلا صغيرا لكنها مهما، يتعلق بنظام التعصيب الذي لم تنزل فيه آية قرآنية، بل هو من إنتاج فقهاء السنة بشكل حصري (الشيعة، بالمناسبة، لا يعملون به).
والتعصيب، لمن لا يعرفه، هو المبدأ الذي يجعل الإخوة وأبناء الإخوة والأعمام وأبناء الأعمام يرثون في الشخص بعد وفاته، إن لم ينجب إلا بناتا.
ما المنطق الذي يجعلنا اليوم نقبل بهذه الممارسة؟ بل ما المنطق الذي يجعل جنس الأبناء يحدد تقسيم التركة وإمكانية دخول أطراف أخرى فيه؟ أليس في هذا الأمر جزء من مسببات النظرة الدونية للمرأة، ما دام الذكر فقط من "يحمي" تركة الأب؟
قد يكون هذا المنطق مفهوما في سياقات اجتماعية كان فيها العم ينفق على ابنة أخيه اليتيمة بعد وفاة والدها. لكن، في زمننا الحالي، يعرف كل منا عشرات القصص عن حالات لا يشكل فيها نظام التعصيب إلا ترجمة للطمع والجشع المادي للأعمام وأبناء الأعمام. ملايين النساء وجدن أنفسهن يفاوضن أعماما وأبناء عم لم يروهم في حياتهم إلا نادرا، لمجرد أن فقهاءَ قرونٍ خلت، قرروا أن لهم نصيبا في الإرث، بما أن الأب أنجب إناثا ولم ينجب ذكورا. وضعية مجحفة وعبثية ولا إنسانية... تماما كما هو مجحف وعبثي ولا إنساني "الحق في الممارسة الجنسية" للسيد قبل خادمه... لكننا قادرون على السخرية من عبث الآخر المتخلف، حتى حين يصحح مظاهر تخلفه، وغير قادرين بتاتا على مراجعة أشكال التخلف والظلم في ممارساتنا وقوانيننا.
هؤلاء الرافضون لمبدأ المساواة في الإرث بحجة وجود نص قرآني، ما قولهم في موضوع التعصيب حيث لا نص قرآني يعطل التغيير اليوم، بل مجرد اجتهادات فقهية؟ ما قولهم في الوصية التي يحث عليها النص القرآني بل ويقدمها على أي تقسيم ممكن، حيث تكررت عبارة "بعد وصية يوصي بها أو دين" أكثر من مرة ضمن آيات الإرث؟
لكن هذه الآية بقيت معطلة بأحاديث ضعيفة واجتهادات فقهية. اجتهادات يستعملها نفس أولئك الذين يعتبرون أن لا اجتهاد مع وجود النص... ها نحن إذن أمام نص صريح يقول أكثر من مرة "بعد وصية يوصي بها أو دين"، فلماذا نجتهد في الوصية مع وجود النص، ثم نعود في مواضع أخرى لنقول إن "لا اجتهاد مع وجود النص"؟ لماذا "نخترع" نظام التعصيب ونصر عليه، رغم غياب النص؟
أم أن الأمر في النهاية، هو حماية للمصالح الاقتصادية للذكور أكثر منه حماية للنص القرآني؟