مقال لبيتر بيرغن، محلل شؤون الأمن القومي في شبكة CNN، ونائب رئيس مؤسسة "أمريكا الجديدة" وأستاذ ممارسة في جامعة أريزونا الأمريكية، ومؤلف كتاب "الولايات المتحدة الجهادية: تقرير عن إرهابيي أمريكا محليين المنشأ."
(CNN)-- عمر عبدالرحمن، رجل الدين المصري الذي ألهم مخططي الهجمات الإرهابية في نيويورك مطلع العقد التاسع من القرن الماضي، قضى نحبه في سجن أمريكي السبت، لكن عبدالرحمن أيضا هو أحد أبرز الزعماء الروحيين لمخططي هجمات 11 سبتمبر.
عبدالرحمن كان صاحب فتوى شهيرة ربما تكون كفيلة بشرح سبب مقتل ثلاثة آلاف أمريكي في ذلك اليوم. الفتوى تقول: "من الشيخ الأسير عمر عبدالرحمن إلى المسلمين في كل مكان: دمروا بلدان الأمريكيين واليهود والصليبيين.. دمروا اقتصادهم. أحرقوا شركاتهم وأعمالهم. أغرقوا سفنهم وأسقطوا طائراتهم. أقتلوهم في البر والبحر والجو."
الفتوى كتبها عبدالرحمن من سجنه الذي دخله لتمضية عقوبة بدأت عام 1996 بسبب مؤامرة لتنفيذ أعمال إرهابية في نيويورك، وقد كشف عنها تنظيم القاعدة في مؤتمر صحفي نادر عقدته قيادة القاعدة في أفغانستان بمايو/أيار 1998. وقال التنظيم آنذاك إن عبدالرحمن اعتبر الفتوى "وصيته الأخيرة" وأنه طالب أتباعه بـ"الثأر له من الأمريكيين كي لا يذهب دمه هدرا."
ما أفتى به عبدالرحمن غاب عن أذهان الكثيرين في السنوات اللاحقة، ولكن رأيه في الحقيقة كان مؤثرا جدا، فهي المرة الأولى التي يحدد فيها رجل دين على صلة بالقاعدة رأيه في طبيعة الهجمات التي يُفترض أن تُشن على أمريكا، فما قاله عن إسقاط طائراتهم وضرب شركاتهم واقتصادهم ظهر جليا عام 2000 عندما استهدف انتحاري بمركبه المدمرة الأمركية "كول" قبالة سواحل اليمن، ليتبعه بعد ذلك بعام هجوم 11 سبتمبر.
النفوذ الديني لصاحب الفتوى
لفهم أهمية الفتوى لا بد من معرفة السلطة الدينية التي يمتلكها صاحبها ونفوذه في تنظيم القاعدة. فالتنظيم الذي قاده أسامة بن لادن مع نائبه أيمن الظواهري آنذاك كان يفتقد لشخصيات تمتلك وزنا على المستوى الفقهي مثل عبدالرحمن، الحامل لشهادة في الفقه من الجامع الأزهر، والذي سبق له أن مارس دور المرشد الروحي لاثنتين من الحركات الجهادية المصرية التي بات عناصرها في وقت لاحق ضمن الصف الأول من قادة تنظيم القاعدة.
التنظيم حاول خلال السنوات الماضية التأكيد على أهمية عبدالرحمن، ففي تسجيل فيديو يمتد لساعتين عرضه التنظيم عام 2001 يمكن سماع صوت بن لادن وهو يتحدث عارضا صورة لعبدالرحمن قائلا: "الشيخ رهينة في سجن أمريكي وقد سمعنا أنه مريض وأن الأمريكيين يعاملونه بشكل سيء." وفي تسجيل آخر يتعهد بن لادن ببذل قصارى جهده من أجل "تحرير الشيخ."
عقود من ترويج التطرف
رغم مظهره الديني المحافظ وكذلك النظارات السوداء التي كان يضعها بسبب فقدانه لبصره، ما كان يضفي عليه مسحة من الوداعة، إلا أن عبدالرحمن كان في الواقع أحد أبرز المنظرين لبعض من أعنف الهجمات الدموية التي شهدها العالم ابتداء من اغتيال الرئيس المصري، أنور السادات، عام 1981 وصولا إلى التخطيطات لهجمات سبتمبر.
وعندما بدأ نشاط الجماعة الإسلامية المصرية المسلحة في العقد السابع من القرن الماضي، كان عبدالرحمن أحد أبرز المنظرين للهجمات على المسيحيين من أجل سرقة أموالهم وقتلهم، وفقا لما يؤكده الباحث الفرنسي المتخصص بشؤون الجماعات المتشددة، جيل كيبيل.
وفي عام 1973، قام أيمن الظواهري، الذي كان يدرس الطب آنذاك، بتأسيس جماعة إسلامية أخرى هي "تنظيم الجهاد" التي تولى بدوره مهاجمة المقرات الحكومية والعسكرية المصرية. وفي عام 1981 وحدت الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد صفوفهما لتأسيس فصيل واحد بمهمة محددة وهي اغتيال السادات انتقاما لاتفاق السلام الذي وقعه مع إسرائيل، وقد جرت العملية بالفعل بعد مباركة عبدالرحمن لها انطلاقا من دوره كمرشد روحي للجماعتين.
وبعد محاكمته، لم يجد القضاء دليلا على توجيه عبدالرحمن لأوامر أدت إلى اغتيال السادات، مع أنه أدين بالترويج لفكرة "خلع الحكام المرتدين". وقد صرّح الشيخ في مقابلة لاحقة أنه قال أمام المحكمة بأن من لا يحكم بشرع الله فهو كافر مضيفا: "إذا طبقنا هذه القاعدة على السادات و(خليفته الرئيس الأسبق حسني) مبارك، فسنجد أنهما قد كفرا." وقد سعى عبدالرحمن بالفعل لتطبيق هذه النظرية، إذ خطط لاغتيال مبارك أثناء زيارته إلى نيويورك عام 1993.
الإرشاد الجهادي من داخل السجن
معظم الذين عملوا ضمن المجموعة التي خططت لهجوم مركز التجارة العالمي عام 1993 كانوا من المصلين في مسجد يلقي فيه الشيخ عبدالرحمن محاضراته. العقل المدبر للهجوم، رمزي يوسف، قال في المقابلة الوحيدة التي أجراها مع وسائل الأعلام، والتي كانت مع صحيفة "الحياة"، إنه يعرف الشيخ عبدالرحمن ويقدّره، مضيفا أن بين أهداف العملية "تقديم العون لأعضاء تنظيمي الجهاد والجماعة الإسلامية."
كما يشتبه أن أتباع الشيخ عبدالرحمن خططوا بعد ذلك لسلسلة من الهجمات الضخمة في نيويورك، بينها استهداف مقر الأمم المتحدة ونفق لينكولن ومقر FBI ، والتي لم تفشل إلا بسبب تسلل عنصر أمني أمريكي إلى صفوف الدائرة المحيطة بالشيخ، وقد تمكن العنصر الأمني من مناقشة ضرب مبنى الأمم المتحدة مع عبدالرحمن الذي اعترض بحجة أن ذلك "قد يضر المسلمين" داعيا العنصر الذي كان يوهمه بأنه من أنصاره إلى ضرب هدف للجيش الأمريكي عوضا عن ذلك.
أدت هذه القضية إلى إدانة عبدالرحمن وسجنه عام 1995، لكن ذلك لم يوقف نشاطات الجماعات التي تعتبره مرشدها الروحي، ففي مصر طعن أحد المتشددين الكاتب نجيب محفوظ، الفائز بجائزة نوبل. وقال المهاجم بعد ذلك إنه نفذ العملية بأمر من عبدالرحمن، وبعدها عام 1997، شهدت مصر مقتل 58 سائحا في الأقصر على يد مهاجمين وزعوا منشورات تطالب بالإفراج عن عبدالرحمن.
هذه الهجمات دفعت الجماعة الإسلامية إلى الدخول في اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحكومة المصرية، وقد وافق عبدالرحمن من زنزانته على الاتفاق قبل أن يعود فيرفضه بعد عام بحجة استمرار "تعذيب واعتقال" عدد من المسلحين المتشددين.
أول وآخر مؤتمر صحفي
المؤتمر الصحفي الذي عقده تنظيم القاعدة ليكون الأول والأخير له وجرى خلاله عرض صورة فتوى الشيخ عبدالرحمن كان فريدا من نوعه، ليس لكونه المؤتمر الأول والأخير لقيادة القاعدة فحسب، بل أيضا لما شهده من ظهور لنجلي الشيخ عبدالرحمن، محمد وأحمد، ودورهما المهم الذي اتضح في قيادة التنظيم.
بن لادن تحدث في ذلك المؤتمر عن "أخبار طيبة" سيسمعها الجميع عن تنظيمه خلال أسابيع، وفعلا تبع ذلك المؤتمر الهجوم المزدوج على سفارتين لأمريكا بشرق أفريقيا، ما أدى لمقتل أكثر من 200 شخص. نجلا الشيخ عبدالرحمن توليا بنفسيهما توزيع فتوى والدهما وأكدا لأحد الصحفيين هناك أنهما سيسيران على دربه، واتهما سلطات السجن بـ"قتله ببطء".
عودة الفتوى إلى الحياة
بعد أعوام على تلك الحادثة، عادت فتوى الشيخ عبدالرحمن إلى الحياة مجددا، ووردت أنباء عن تداولها على نطاق واسع في معسكر "خلدن" الأفغاني عام 1998. ذلك المعسكر شهد تخريج عدد من كبار المسؤولين في التنظيم بينهم الجزائري أحمد رسام، أحد أبرز صانعي القنابل لدى التنظيم، والذي كانت متفجراته الأداة الرئيسية في المحاولة الفاشلة لتفجير مطار لوس أنجلوس في ديسمبر/كانون الأول 1999.
رسام اعترف في محاكمته لاحقا أنه شاهد فتوى الشيخ عبدالرحمن خلال فترة تدريبه في المعسكر. رسام – كسائر القادة في تنظيم القاعدة – فهم الفتوى الصادر عن الشيخ على أنها غطاء شرعي يبرر له شن هجمات على أهداف أمريكية.
والواقع هو أن فتوى الشيخ عبد الرحمن بمهاجمة الاقتصاد والطيران الأمريكي هي أحد أهم العوامل التي تسببت في هجمات 11 سبتمبر. إذ أراد القادة المصريون لتنظيم "القاعدة" الانتقام من الولايات المتحدة لسجن و"سوء معاملة" مرشدهم الروحي. وفي نفس الوقت، وفر الشيخ عبد الرحمن ملاذاً روحياً لأتباعه لارتكاب الهجمات الإرهابية.
فتاوى الشيخ عبد الرحمن للقاعدة هي أقرب ما يعادل بياناً من قبل البابا. وباعتباره شخص حاصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، كان قادراً على إجازة تنفيذ هجمات ضد الطائرات والشركات الأمريكية من الناحية القانونية، وهو بالضبط نوع الهجمات التي وقعت في 11 سبتمبر.
من شبه المؤكد، أن وفاة عبد الرحمن في أحد السجون الأميركية، السبت الماضي، سيثير دعوات من الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة، الظواهري، لشن مزيد من الهجمات المعادية للولايات المتحدة.
عن سي إن إن عربي