برزت ظاهرة التحول من الإسلام إلى المسيحية على المستويين السياسي والإعلامي في ألمانيا بشكل خاص خلال موجة تدفق اللاجئين عام 2015، فهل يتعلق الأمر بموجة ظرفية أم بظاهرة أشمل وأوسع تتجاوز أبعادها حدود ألمانيا؟
تزايد عدد المسلمين بألمانيا منذ منتصف القرن العشرين
يعتبر الإسلام ثاني أكثر الديانات انتشارا في ألمانيا بعد المسيحية، انتشار رسخته الهجرة من بلدان الشرق الأوسط والبلقان وشمال إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين. كما زاد عدد المسلمين بعد موجة اللاجئين التي عرفتها ألمانيا عام 2015. ويشكل السنّة أغلبية مسلمي البلاد (انظر البيان التوضيحي أسفله). أما نسبة المسلمين من غير السنّة (كالعلويين والشيعة) فهي أعلى بكثير من المتوسط العالمي. ويقدر عدد المسلمين في ألمانيا بحوالي 4.7 مليون نسمة (بيانات 2015) وهو ما يعادل حوالي 5.5% من مجموع السكان. غير أن البيانات تتفاوت أحيانا حسب المصادر. ويشكل الأتراك غالبية مسلمي ألمانيا بسبب تواجد مكثف للعمال المهاجرين أو "العمال الضيوف" كما يطلق عليهم، الذين قدموا من تركيا في الستينيات والسبعينيات. أما المسلمون الآخرون فينحدرون من بلدان أخرى كألبانيا والبوسنة وكوسوفو والعراق وإيران والمغرب وأفغانستان ولبنان وباكستان وسوريا وتونس إضافة إلى الألمان المتحولين إلى الإسلام.
وغالبا ما تربط وسائل الإعلام اعتناق المواطنين من أصل ألماني للإسلام بسياقات قد تهدد الأمن العام، خصوصا أمام مخاطر التطرف الأصولي أو حالات النساء الألمانيات اللواتي يدخلن الإسلام تحت ضغط أزواجهن المسلمين. يذكر أن السلطات الأمنية الألمانية رصدت في أكثر من تقرير ميل بعض معتنقي الإسلام الجدد إلى التطرف. غير أنه لا توجد بيانات موثوقة حول عدد الألمان الذين تحولوا فعلا إلى الإسلام. وزاد قلق الرأي العام بهذا الشأن منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وسلسة الاعتداءات الإرهابية التي عرفتها ألمانيا بدوافع إسلاماوية خلال السنوات الماضية.
"الردة" عن الإسلام ـ حرية شخصية أم خيانة للأمة
خصصت صحيفة "تاغسبوست" الألمانية في عددها ليوم (31 أغسطس / آب 2020) مقالا مطولا بشأن مبادرة فرنسية تحمل اسم "مهمة إسميري" تأسست في يونيو/ حزيران الماضي بهدف تقديم الدعم للمتحولين من الإسلام إلى المسيحية والذين يتعرضون للاضطهاد. ونقلت الصحيفة تفاصيل حوار مع المدير الإداري للمهمة مارك فروماجر كان أجراه مع مجلة "لا نيف" الكاثوليكية. التحول عن الدين وتركه لدين آخر (وهو ما يصطلح عليه في الإسلام بالردة)، لا يقتصر على الإسلام لوحده وإنما يهم جميع الأديان. كما أن القائمين على المؤسسات الدينية في كل المجتمعات لا ينظرون بعين الرضا لمن يتخلى عن دينه.
فهل يحق للإنسان ترك الدين الذي ولد فيه، إما نحو الإلحاد أو اعتناق أي دين آخر؟ مجرد طرح السؤال قد يسبب أزمة في بعض المجتمعات، لأنه يسلط الضوء على قضية جوهرية حول ما إذا كان الإيمان قناعة فردية أم مهمة تشرف عليها الدولة. فالفصل بين الدولة والكنيسة، يجعل مسألة الإيمان من عدمه في الدول الغربية يدخل ضمن حريات الفرد المطلقة التي يحميها القانون. فيما يبدو الأمر مختلفا في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، حيث يعتبر المعتقد الديني للأفراد شأنا عاما، خصوصا وأن الإسلام دين الدولة الرسمي في معظم تلك البلدان ودعامة أساسية لأنظمة الحكم القائمة هناك. فمفهوم "الردة" يحيل دينيا وتاريخيا، إلى خطر "زعزعة عقيدة الأمة" وأسلوب حياتها. وبذلك يكون "المواطن الصالح" مواطنا متمسكا بدينه، وكل مرتد يعتبر "خائنا".
رغم غياب أرقام موثوقة ودقيقة، فهناك مصادر متعددة تؤكد زيادة عدد المسلمين الذين تحولوا للمسيحية في خضم موجة اللجوء التي عرفتها ألمانيا في عام 2015. ولا تقوم الكنيسة البروتستانتية ولا الكاثوليكية بجمع أو نشر هذه الأرقام. كما أن المكتب الألماني لشؤون الهجرة واللجوء لا يملك ولا يخزن أي بيانات إحصائية حول طالبي اللجوء الذين يتحولون إلى المسيحية.
"إذاعة بافاريا" نشرت تقريرا على موقعها في (الأول من يناير/ كانون الثاني 2020) استندت فيه إلى حوار مع القس الإنجيلي غوتفريد مارتينز من برلين، أكد فيه أن الوضع تغير رأسا على عقب، إذ أن التحول إلى المسيحية لم يعد كافيا للحصول على حق اللجوء. وسبق لمارتينز أن أكد في حوار مع صحيفة "برلينر تسايتونغ" أن الأمر كان مختلفا تماما قبل عامين، حيث كان المتحولون الجدد إلى المسيحية الذين أشرف عليهم يحصلون على اللجوء بنسبة 100٪. وذكرت "إذاعة بافاريا" أن مارتينز كتب على الموقع الإلكتروني للجمعية الدولية لحقوق الإنسان أن المكتب الألماني لشؤون الهجرة واللجوء يرفض الآن جميع طلبات اللجوء تقريبًا من المسيحيين الجدد، ويشك في صدقيتهم. ورغم أن المكتب لا يشك مبدئيا في الوثائق الكنسية التي يقدمها اللاجئون، إلا أنه يقوم بالتدقيق في جدية اللاجئ المتحول إلى المسيحية ومدى عمق إيمانه بدينه الجديد، إضافة إلى ردود فعل محيطه العائلي في بلده الأصلي.
ترك الإسلام إلى المسيحية ـ هل هو ظاهرة عالمية؟
وذكرت "تاغسبوست" أن ظاهرة تحول المسلمين إلى المسيحية ظاهرة عالمية وقالت إن "هذا يثير الدهشة أحيانًا". وأوضحت الصحيفة أنه حتى في الشرق الأوسط، المنطقة التي يُعتقد عادةً أن الإسلام يكتسحها، هناك أعداد هائلة من المتحولين إلى المسيحية، قدرت أعدادهم بأكثر من 800.000 في إيران، على سبيل المثال لا الحصر، لكنهم موجودون أيضًا في بلدان ذات الأغلبية المسلمة، "خاصة في الجزائر بين صفوف سكان منطقة القبائل، ولكن أيضا في إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، حيث يقدر عدد الذين تركوا الإسلام بست ملايين شخص. أما في فرنسا فتقدر نسبة تعميد البالغين في الكنيسة الكاثوليكية من مسلمين سابقين بـ 10٪، وهناك ضعف هذا العدد بين الإنجيليين تقول الصحيفة. وقدرّت دراسة للباحث والمبشر المسيحي "دوان ميلر" من جامعة إدنبرة أن عدد المسيحيين ذوي الأصول المسلمة تزايد بين سنوات 1960-2014 ليصل إلى حوالي 8.4 مليون نسمة، وهناك دراسات أخرى تؤكد أن أعدادهم ربما تجاوزت عشرة ملايين نسمة. ويجمع الباحثون في هذا الموضوع أنه من الصعب تجميع معلومات حول "المرتدين" عن الإسلام في الدول ذات الأغلبية المسلمة بسبب التداعيات الاجتماعية والقانونيَّة المرتبطة بهذا الموضوع.
وبهذا الشأن أكد كريستيان ترول خبير الشؤون الإسلامية في موقع "فاتيكان نيوز" (29 أغسطس / آب 2020) أن "الإسلام التقليدي يواجه ما يمكن اعتباره أعظم مرحلة من الاضطرابات في تاريخه". وأوضح ترول أنه "يتعين على الإسلام الانفتاح على العالم الحديث، كما فعلت الديانة المسيحية في الماضي". واستطرد أن هذه العملية ستكون مؤلمة وستواجه مقاومة وردود فعل انعزالية. وأكد ترول أن "هناك عددًا لا بأس به من علماء الدين والمفكرين المسلمين الذين يسعون لإعادة تفسير الإسلام ويدعون إلى فصل الدين عن الدولة والبحث عن طرق للتوفيق بين تعاليم الدين وحقوق الإنسان ومبادئ التعددية والتسامح الديني". يذكر أن كريستيان ترول (82 عاما) درس لسنوات عديدة في بلدان الشرق الأوسط، وكان أستاذًا في جامعة برمنغهام وفي المعهد البابوي الشرقي في روما. كما عمل في المجلس البابوي للحوار بين الأديان ومستشارًا لمؤتمر الأساقفة الألمان.
حسن زنين
دى دبليو الالمانية