بعد أن كان تجديد الخطاب الديني الذي تصاعدت وتيرته في القرن التاسع عشر، مع حركة الإصلاح الديني وروادها أمثال الطهطاوي وعبده والأفغاني، مرتبطاً بتحقيق النهضة، وكان التحدي الذي جابَهَ الإسلام يكمُن بالأساس في "تخلف" الأمة الإسلامية، أصبح المسلمون اليوم لا يُجابهون التخلف وحده بل والتطرّف والإرهاب أيضاً.
ما قدمه خطاب النهضة ورواده في ما يتعلق بتجديد الخطاب الديني لم يكن موضوعاً للحسم، بدليل استمرار حضور شعار التجديد إلى الآن، بل لعلنا نشهد ردة حقيقة عن ما قدمه هذا الخطاب في السابق.
ولبيان بعض أسباب وتداعيات تعثّر وعرقلة خطاب النهضة في تحقيق التجديد المنشود للخطاب الديني، أو بالأحرى محاولة إنتاج خطاب ديني جديد، سنأخذ نموذج كيفية تعامله مع قضايا المرأة المسلمة على وجه الخصوص.
الصدام الحضاري والوقوع في أسر الآخر الأوروبي
كان التحدي الأوروبي الذي فرضته الأوضاع العالمية على العالم الإسلامي، في مجال الثقافة والفكر، يتمثّل بالأساس، بحسب نصر حامد أبو زيد في كتابه "الخطاب والتأويل"، في عنصر الدين، إذ اتُّهم الإسلام بأنه السبب الرئيسي والجوهري في تخلف العالم الإسلامي. وضمن هذا السياق الصدامي، ومع إدراك تأخر العالم الإسلامي، وقع خطاب التجديد الديني في أسر الآخر الأوروبي، سواء عبر تبني خطابه وتقليده، أو عبر رفضه والعمل على تقويضه.
فعندما تحدث قاسم أمين، في كتابه "تحرير المرأة"، عن وضعية المرأة العربية المسلمة، موضحاً مدى دونيتها وتدهور أحوالها قياساً ومقارنة بالمرأة الغربية (الباريسية بوجه خاص) وما حظيت به من تعليم ورقي، أشار إلى "أن الجهل وإهمال التربية هو المانع أمام المرأة المصرية من أن تشتغل مثل الغربية بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة".
وانطلاقاً من هذا المثال على وجه التحديد، والذي راح يثير إشكالية الصدام بين التعاليم الأوروبية التي يجب على المجتمع العربي والإسلامي تبنيها لمواجهة التخلف والتأسيس للإصلاح، لا سيما إصلاح حال المرأة، وبين النسق القيمي والأخلاقي للمجتمعات المسلمة ذات المرجعية الدينية، قامت الحركة السلفية، خلافاً للإصلاحيين، تدعو إلى أن الشريعة الإسلامية هي أساس الإصلاح، مؤكدةً أن مرد التخلف هو ابتعاد المسلمين عن دينهم وتنكّرهم لقيمه.
من هنا، قال رشيد رضا في مقال نشره في مجلة "المنار" إن "الدين لا بد وأن يكون هو أساس تربية البنات"، فبه يتم تهذيب الأخلاق، وهو "المصدر لمحاسن الأخلاق".
تعرّض قاسم أمين، إثر كتابه المعني "بتحرير المرأة"، للهجوم بسبب اتباعه النموذج الغربي في قضايا المرأة، فما كان منه سوى اللجوء إلى حصن التراث الديني منتقياً منه ما يدافع به عن ذاته وعن أفكاره. هكذا، نراه يستند إلى روايات دينية تاريخية وآراء فقهية تقليدية، غير مدرك أن حصن "التراث الديني" الذي راح يحتمي به لا يتضمن كليةً ما يتفق مع دعاويه، بل فيه ما يدحضها بشدة.
ومن هنا، بحسب ما أقر أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة علي مبروك، في "كتابه ثورات العرب... خطاب التأسيس"، "تتولد مفارقة السعي إلى مقاربة الحداثة بحسب قراءة تجد ما يؤسس نظامها الأعمق في نظام القياس التراثي، وهي المفارقة الكاشفة عن المأزق المهيمن على فضاء الخطاب العربي الحديث بأسره، وأعني به مأزق المجاورة بين ما ينتمى إلى أنظمة ثقافية ومعرفية متباينة، بل وحتى متناقضة"، سواء كانت هذه الأنظمة حداثية أوروبية أو تراثية دينية.
انعدام الوعي بالواقع المأمول إصلاحه
لعل هذا التناحر بين الدلالات المتجاورة-المتعارضة للتراثي/ الحداثي قد تجلّى وبقوة في خطاب رائد التنوير الأكبر الشيخ محمد عبده. فقد مضى عبده في سياق السجال المزدوج، رداً على الخطاب السلفي من جهة، وفي محاولة لمواجهة التحدي الأوروبي من جهة أخرى، يحاول التوفيق بين الدلالات التي راحت تفرضها الحداثة وبين نظيراتها المؤسَسة من قِبل التراث، غير مدرك لمدى اختلاف سياقات إنتاج هذه الدلالات التاريخية والمعرفية، واخلافها عن سياق الواقع المصري بالضرورة.
هذا التوجّه يُحيل إلى "انعدام الوعي" الذي لعله يمثل البنية المؤسِسة للخطاب العربي الحديث وربما المعاصر بالشروط المحددة لبناء الواقع المصري، وينتهي "انعدام الوعي" بهذا الخطاب إلى أن يفرض على الواقع ما لا ينتمي اليه بالأساس، سواء تمثل هذا الفرض في الحداثة الغربية أو في القيم التراثية.
وعبر الغياب الكامل لوعي سياق الواقع المأمول إصلاحه، مضى الشيخ في ما يخص قضايا المرأة يردّ تدني وضعها لا إلى الإسلام متمثلاً بالتحديد في النصوص الدينية، بل إلى فهم المسلمين للإسلام، متمثلاً في النصوص التراثية، والفقهية منها بالذات، غير منتبه ربما إلى أن النصوص الدينية ذاتها ذات سياق تشريعي مختلف كليةً عن سياق المجتمع الحديث المراد النهوض به.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن النصوص التراثية التي أقر الشيخ بضرورة التمييز بينها وبين نظيراتها الدينية، ستكون وللغرابة كامنة في خطابه ومحرّكة له.
فبالرغم من إقراره في البداية إحالة تدني وضع المرأة إلى الفقهاء بالأساس، من خلال مقارنته بين تعريفهم لعقد النكاح على أنه "عقد يملك به الرجل بضع المرأة، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئاً آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية"، وبين تعريف القرآن له على أنه مودة ورحمة بحسب قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)، إلا أنه عندما تناول مجمل القضايا الاجتماعية كتعددية الزوجات، والمواريث، والقوامة، إلخ، نراه يقف عند نفس التعامل الذي حددته النصوص التراثية القديمة.
ففي ما يخص تعدد الزوجات على سبيل المثال، أقر بأن الشريعة الإسلامية علّقت إباحة التعدد على شرط التحقق من العدل بينهن. وبالرغم من تمسكه بسبب تشريع الآية المعنية بحكم تعدد الزوجات موضحاً أن ذلك كان مرتبطاً بوضعية اليتامى (النساء منهم حصراً)، إلا أنه تمسك بالتفسير الظاهري للآية مؤكداً أنّ "الشريعة المحمدية قد أباحت للرجل الاقتران بأربع من النسوة، إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة".
ولم يتجاوز عبده ذلك إلى تحديد مَن هم المخاطَبين الفعليين بالآية، وهو ما تحققه شرطية قوله تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ"، وذلك على النحو الذى أقره فخر الدين الرازي في تفسيره للآيه، ما يشير إلى ارتباط الإقساط في التيامى بتعدد نكاح النساء، وبالتالي فالمقصود بالخطاب هنا هم حصراً "أولياء اليتامى".
وعلى الرغم من تأكيد عبده أن "تعدد الزوجات كان من العوائد القديمة التي كانت مألوفة عند ظهور الإسلام، ومنتشرة في جميع الأنحاء، يوم كانت المرأة نوعاً خاصاً معتبرة في مرتبة بين الإنسان والحيوان"، ما يُشير إلى بيان مدى تفاعل القرآن مع الواقع الذي تنزَّل فيه وحواره معه بشكل يترتب عليه فرض مرحلية وشرطية الحكم الخاص بالتعدد لارتباطه بواقع التشريع، إلا أنه انحاز إلى أقوال الفقهاء القدامى خاصةً في حصر العدل بين الزوجات "في البيتوتة والملبوس والمأكول والصحبة، لا في المجامعة والحب، بنحو ما أقروه في تأويل قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}.
ومن آراء الفقهاء القدامى ما قاله ابن تيمية في فتاويه حينما سُئل "عن رجل متزوج بامرأتين، وإحداهما يحبها، ويكسوها، ويعطيها، ويجتمع بها أكثر من صاحبتها"، إذ أجاب بأنه يجب العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين وعلى الرجل أن يعدل في القسم، فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً بات عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يفضل إحداهما في القسم، لكن إذا كان يحبها أكثر، ويطؤها أكثر، فهذا لا حرج عليه فيه، وفيه أنزل الله تعالى: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" أي: في الحب والجماع.
ولكن يبدو أن النفي التي أقرت به الآية الكريمة، باستخدام أداة النفي "لن" على وجه التحديد، يدل على النفي القاطع على استطاعة العدل بمفهومه الشامل، لا سيما وأن القرآن أباح التعددية وفقاً لشروط مرتبطة بسياقها الاجتماعي، فأولاً ربط التعددية بالإقساط فى اليتامى، فنزلت الآية مخاطبة أولياء اليتامى وحدهم دون عموم المسلمين، ثم جعل شرط العدل شرطاً أساسياً لهذا التعدد، ثم نفى استطاعة العدل نفياً قاطعاً مما ينفي بالتبعية التعدد، وبالتالي فإن الاقتصار على الزوجة الواحدة من المقاصد الكلية التي يرمي إليها القرآن لتحقيق ما يؤسس له من علاقة قائمة على المودة والرحمة.
ولعل هذا ما لم يستطع أن يتداركه الشيخ عبده، إلى حد لم يقدر معه على إقرار تاريخية الحكم الخاص بالتعدد.
وتتجلَّى هيمنة الخطاب التراثي على خطاب عبده حينما يعرض لمسألة القوامة والتفضيل فى تفسيره لقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء..} (النساء: 34). يقطع عبده بأن الرجل أفضل من المرأة بالمعيار الفطري، علاوة على الكسبي، لأنه أقوى وأكمل في الخلقة، وما يتبعها بالضرورة من قوة العقل وصحة النظر في مبادئ الأمور وغايتها، ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية.
الخلاصة أن خطاب التجديد الديني ظل يدور مع نقيضه داخل دائرة مفرغة تتسم بالسجال تارة وبالعنف تارات، ولم يتجاوز ذلك إلى تأسيس أفق معرفي جديد، وعلى نحو نقدي بالذات، في التعامل مع النصوص الدينية، أفق يتيح ربما إنتاج خطاب ديني جديد.
رصيف 22