خالد بن الشريف:
توصف الترجمة عادة على أنها سفينة تنقل الكنوز من منطقة إلى أُخرى، فبها تُكتشف ثقافات الحضارات الأخرى، وبها يستفاد من علوم وفنون الدول الأخرى، وبدونها لا يمكن التعرف على الآخر معرفة حقيقية.
وفي ظل عصر الانفجار المعرفي اليوم، فإن أهمية الترجمة تصبح مركزية للحاق بركب الحضارة البشرية، وهو ما يحتاجه العالم العربي بشدة في ظل سياق الانحطاط الذي يتخبط فيه.
تاريخ الترجمة في الثقافة العربية
تعود أولى أصول حركة الترجمة في العالم العربي إلى القرن التاسع ميلادي، وبالتحديد مع «العصر الذهبي» لبغداد، في عهد الخليفة المأمون، الذي بنى أكبر معهد للترجمة في ذلك العصر، سماه «بيت الحكمة». كان ذلك أول اشتباك ثقافي بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى.
ارتكزت حركة الترجمة في تلك الفترة، على نقل الفلسفة اليونانية والعلوم الهندية والأدب الفارسي إلى اللغة العربية، من خلال السريانيين والذين يتقنون لغات الإغريق والفرس من غير العرب المتواجدين داخل كنف الدولة العباسية.
وكان لبيت الحكمة دور محوري في الإشعاع الحضاري لبغداد خلال ذلك العصر، والذي امتد ليصل الأندلس، فبرزت مجموعة من المدارس والاتجاهات الفكرية في الثقافة الإسلامية المتأثرة بالثقافة اليونانية، كالمعتزلة والصوفية، مثلما ظهر ثلة من الفلاسفة والمفكرين، الذين ساهموا في تنوير الثقافة العربية في عصرهم من خلال ترجماتهم، بدءًا من الجاحظ وابن المقفع والكندي مرورًا إلى الفارابي والرازي وانتهاء بابن رشد وبن سينا. كان لهؤلاء الفضل في حفظ الإرث اليوناني من الاندثار، قبل أن ينتقل إلى أوروبا مع عصر الأنوار.
غير أن هذا الإشعاع الحضاري لم يستمر طويلًا، فما لبثت أن سقطت بغداد على يد المغول عام 1252، لتنتهي حقبة العصر الذهبي لحركة الترجمة العربية.
وطوال تسعة قرون لم يحدث أي اتصال بين العرب والغرب حتى القرن الثامن عشر الميلادي، مع قدوم حملة نابليون بونابارت العسكرية إلى مصر. وعلى الرغم من أنها لم تستمر سوى ثلاث سنوات، إلا أن العرب فطنوا آنذاك لحجم الهوة بينهم وبين الغرب فكريًا وعسكريًا، فبادر الحكام المحليون إلى البحث عن المعرفة في أوروبا، فأنشأ محمد علي، حاكم مصر في القرن التاسع عشر، مدرسة الترجمة، إلا أن المعارف المترجمة كانت حينها منحصرة عند النخبة من أبناء عائلات المال والجاه والحكم.
لكن مع موجة الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية في القرن العشرين، وجلبهم المطبعة والصحف للمنطقة، ستنهض حركة الترجمة من جديد، ويتم ترجمة مجموعة من روائع الفكر الأوروبي، من أعمال لافونتين، كورناي، فيكتور هوغو، لامارتين، موسيه، فينيي، بودلير، شكسبير، ميلتون، كيتس، بتلر، شيلي وكيبلينغ، على سبيل المثال.
واقع الترجمات العربية اليوم
بعد الحرب العالمية الثانية، استمرت حركة الترجمة العربية، مستفيدة من وسائل الاتصال والنظام العولمي الجديد، وشهدت تحسنًا تصاعديًا بالمقارنة بما كانت عليه من قبل، غير أنها تبقى ضعيفة للغاية بالنظر إلى سياق هذا العصر.
في دراسة صادمة أنجزتها اليونسكو حول الحصيلة الكلية للترجمة العربية، تفيد بأن ما ترجم إلى اللغة العربية، منذ عصر المأمون سنة 813 إلى اليوم، لم يتجاوز العشرة آلاف كتاب، وهو عدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة فقط. وما تترجمه الدول العربية مجتمعة في السنة الواحدة لا يعادل خمس ما تترجمه اليونان وحدها في العام.
ويبلغ متوسط ما يترجمه العالم العربي على مدى خمس سنوات هو 4,4 كتاب مترجم لكل مليون مواطن عربي، بينما متوسط الترجمة في هنغاريا يصل إلى 519 كتاب مترجم لكل مليون مواطن هنغاري في نفس الفترة.
تؤكد هذه الوضعية التي تعيشها الترجمة العربية دراسة إحصائية أخرى أعدها فريق من الباحثين، بتكليف من «اتحاد المترجمين العرب»، حول الكتب المترجمة في دور النشر ومراكز الترجمة العاملة في بيروت، خلال الفترة ما بين 2000 و 2009، والتي توصلت إلى أن مجموع الكتب المترجمة إلى اللغة العربية لم يتعد الثلاثة آلاف طوال عشر سنوات، في حين تترجم إسبانيا عشرة آلاف كتاب في السنة الواحدة، وهو العدد المترجم للعربية منذ بداية تاريخها.
وبطريقة أخرى، إذا ما أردنا معرفة حجم الخصاص الهائل الذي تعاني منه الخزانة العربية، فإن مجمل الكتب العربية المترجمة خلال عشر سنوات لا يعادل نسبة %1 من الكتب الصادرة سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وللقارئ أن يتصور حجم المعارف والكتب الغائبة عن إدراك القارئ العربي.
مشكلات حركة الترجمة العربية
يقول عضو جمعية الترجمة باتحاد الكتاب العرب، جمال دورمش، إن واقع الترجمة في العالم العربي «مؤلم جدًا يتسم بالفوضى والعشوائية ومتخلف مرتبط بتأخر الأمة الثقافي والحضاري»، وهو واقع يبين بأن حركة الترجمة العربية لا تعاني فقط كميًا وإنما نوعيًا أيضًا.
على سبيل المثال، جل الكتب المترجمة للغة العربية لا تدخل في باب العلوم، وإنما يحظى الأدب بالقسط الأوفر، نظرا للهاجس التجاري الذي يقض مضجع دور النشر.
كما أن حوالي %90 من الكتب المترجمة تقتصر على نقل ما كتب بالإنجليزية والفرنسية، في إغفال تام للغات الأخرى، ولا سيما منها اللغات الحية مثل الإسبانية والألمانية واليابانية، مما يحرم القارئ العربي من التعرف على أفكار وعلوم من إنتاج دول غير ناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية.
من جهة أخرى، لم تصل حركة الترجمة العربية إلى مستوى الاحترافية بعد، إذ غالبًا ما تكون نتاج مجهودات فردية، وقليلة هي المؤسسات العربية المتخصصة في الترجمة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى ظهور ترجمات بينها وبين النص الأصلي هوة شاسعة، وأخرى يتوغل فيها البعد الأيديولوجي بشكل ظاهر، وذلك لعدم نضج أعراف تقليدية وقواعد ثابتة تنظم حقل الترجمة في العالم العربي.
بالإضافة إلى ذلك، لا تنفتح الترجمة العربية بما فيه الكفاية على اتجاهات الفكر الغربي المتنوعة، مثلما تتفادى معالجة نوعية بعينها من الإنتاجات، المرتبطة بالدين والسياسة، نظرا لنقص الحريات بالعالم العربي. وطالما تتدخل الدولة في اختيار نوعية الكتب المترجمة الممكن نشرها، فإن هناك الكثير من المعارف والأفكار ستبقى غائبة عن وعي الجمهور العربي.
من جانب آخر أيضا، لا توجد هناك ترجمات عكسية، أي ما يترجم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، إذ تبقى الكتب المترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى ضئيلة.
وبالرغم من الكمية المحدودة من الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، فإنها لا تجد لها جمهورًا واسعًا من القراء، باعتبار أن هناك شبه غياب لثقافة القراءة بالعالم العربي، ناهيك عن أن نصف مواطنيه أميين، مما ينعكس في النهاية على الإنتاج الثقافي بصفة عامة، والترجمة العربية بشكل خاص.
أسباب تخلف حركة الترجمة العربية
لا يمكن فصل التأخر الكبير لحركة الترجمة العربية عن السياق العام، الذي يعيشه العالم العربي، وما يشهده من تخلف على جميع الأصعدة.
ولعل أبرز الأسباب المسؤولة عن تخلف نشاط الترجمة في العالم العربي، كما يراها العديد من الباحثين، هو افتقاد لمشروع تنموي واضح وشامل، يتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي غياب الإرادة السياسية لدى الدول العربية في تنمية وعي شعوبها، والارتقاء بهم إلى الوعي الإنساني الذي راكمته البشرية.
يساهم العامل الاقتصادي أيضا في تعطيل عجلة الترجمة العربية، إذ يتسبب نقص التمويل في إجهاض العديد من مشاريع الترجمة، مما يقلل الإنتاج المترجم باللغة العربية. ويرجع ذلك إلى عدم ثقة الدولة والنخب المالية في الاستثمار بمراكز الترجمة، كمشاريع منتجة.
وبما أن عملية الترجمة هي جزء من الإنتاج الثقافي، فبالتأكيد، يتعلق الأمر كذلك بضعف الوعي الثقافي لدى البلدان العربية، وما يعني من ضعف في ثقافة القراءة ورداء في أنظمة التعليم، وتشوهات نفسية وفكرية ناتجة عن التربية، الشيء الذي يقود في النهاية إلى تشكيل بيئة كارهة للفكر الجديد، وغير مشجعة على الإبداع والإنتاج والاستهلاك الثقافي.
نقلا عن ساسة بوست