الدولة المدنية بين "بائع الخمر" وبين "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر" - مقالات
أحدث المقالات

الدولة المدنية بين "بائع الخمر" وبين "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر"

الدولة المدنية بين "بائع الخمر" وبين "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر"

حسن عباس

لم يبتلع الإسلاميون بعد فكرة أن مسلمين يعيشون في دولة مدنية. قد لا يصرّون على وضع حالة عسر الهضم التي يعانون منها على رأس جدول أعمالهم، ولكن كثيرين من محازبيهم ومناصريهم يعبّرون عنها في مناسبات مختلفة، أحياناً تكون محدودة ومعزولة.

هذا هو حال زكريا جبارة مثلاً. هو شاب شيعي يدرس العلوم الدينية في حوزة دينية ويعمل خطيباً لمنبر حسيني في قرية البازورية في جنوب لبنان، بروفايل أغراه بأن ينظر إلى نفسه كرجل دين آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر.

جبارة هذا يمتعض من أمور كثيرة يراها حوله. يمكن القول إنه يمتعض من كل منتجات الحداثة التي تتيح تعزيز التواصل بين الناس على غير النمط الذي يظنّه مثالياً. ينتقد "الهاتف الملعون" ويتحدث عن "خطورة استخدام الماسنجر والواتساب" وهي وسائل تواصل تفتح الباب أمام "الشيطان اليقظ الذي يتربص بنا"، وينتج عنها "الزنا" و"الخيانات الزوجية".

ولكن امتعاضه الذي وصل إلى حالة الغضب كان من محلّ يبيع المشروبات الكحولية في بلدته، وهي بالمناسبة بلدة أمين عام حزب الله حسن نصر الله أيضاً، وعبّر عنه بتسجيل صوتي ثم بفيديو وبمجموعة منشورات على حسابه على فيسبوك.

بين اللسان واليد

خطاب الشاب جبارة يراوح بين حدين: أحدهما يصدر عن تخيّله أنه يعيش في نظام إسلامي ويمتلئ بمفردات التهديد والوعيد بالرجم والقتل وإسالة الدماء، والآخر يصدر عن استيقاظه على حقيقة أنه يعيش في دولة قوانينها مدنية.

هما الحدان اللذان يصنعان ازدواجية شخصية الإسلامي وهما الحدان اللذان تلعب عليهما خطابات أحزاب الإسلام السياسي فنراها تخرج علينا بخطاب يقبل بالمدنية حين تشعر بالضعف ثم تفاجئنا بخطاب "شرعي" حين تشعر بالقوة، وهكذا دواليك، وهو أمر سيستمر إلى أن تزول أو تحكم فتنتهي الازدواجية المبنية على صراع بين الواقع والمأمول.

هكذا نرى جبارة "الحالم" الذي يدعو إلى تغيير "المنكر" بيده مهدداً صاحب محلّ بيع المشروبات الكحولية والمتضامنين معه بلغة تحضر فيها تعابير "دم يُسال" و"يُقتَل بالشرع"، ونرى جبارة "الواقعي" الذي يتحدث عن النصح والموعظة الحسنة والإجراءات القانونية بل قد ينتهي إلى القول بحرية الاختيار وبأن "على كل إنسان أن يحاول حفظ نفسه من الذنوب والمعاصي ويعمل على نفسه".

وهكذا نرى جبارة الذي يهدد مرّة بأنه "إذا لم ينفع الكلام، عندها نستخدم القوة"، ويتذكّر مرة أخرى أن "استخدام القوة في منع المنكر هو فعل إسلامي بامتياز ولكن مع تحقق شروطه"، ونرى جبارة الذي يتذكّر حيناً أن هناك قانوناً وإجراءات قانونية لمنع أمر ما، ويتخيّل حيناً آخر أنه يمتشق سيفاً في ساحة معركة فيصرخ: "هل من ناصر ينصرنا؟ هل من ذاب عن شرع الله؟".

السياق هو الذي يحدد أي وجه من وجهي خطاب الإسلام السياسي يظهر، وهما وجهان قد يحضران في نفس الخطاب، لأن الإسلامي يعيش في كل لحظة هذه الازدواجية.

في مواجهة "مشركي قريش"

"إنّي في بلدة البازورية أواجه أبا جهل وجميع مشركي قريش... وحيداً فريداً... واأسفاه لوحدتي... واأسفاه لغربتي". هكذا تخيّل جبارة نفسه في أحد منشوراته على فيسبوك، سائحاً في الزمن إلى عهد الرسول و"أوائل المؤمنين" وماشياً بينهم.

ولكن فجأة، يتخيّل أنه انتقل إلى مرحلة تمتين الدعوة الإسلامية ويسير بين جموع العائدين من المدينة إلى مكة لـ"فتحها" بقوله: "ثلاثة أرباع أهل البازورية معي".

أيضاً هنا، جبارة ليس حالة فريدة بل هو تجسيد لعقلية الإسلام السياسي الذي تارةً يستل آية قرآنية من السور المدنية ليعبّر عن ليونته وطوراً يستل أخرى مناقضة لها من السور المكية ليعبّر عن شدّته وقسوته.

"ارحلوا يا كفرة"

بين حدّي المتخيَّل والواقعي، يتوق الإسلامي إلى مجتمع لا اختلاف فيه وكله نُسخ متشابهة عن صورة المؤمن المتوهَّم. "مَن لا يقبل بشرعنا وديننا ليذهب ويعيش في بلد غير بلدنا"، قال جبارة في الفيديو الذي نشره.

مجتمع "مشركي قريش"، أي غير الإسلاميين، مقطوع الأمل منه بنظر جبارة وأمثاله من رجال دين وإسلاميين. هو مجتمع يعيش آخر درجات "التدهور الفكري والأخلاقي". إنه "مجتمع رديء".

فقَدَ هؤلاء الأمل بإصلاح المجتمع الحالي ويحلمون بنضوج ثمار نشاطهم في المستقبل. فهذا جبارة يعلن أن البيئة الحالية "فسدت"، واضعاً أمله في الأجيال القادمة وواضعاً مطالباته وتهديداته في سياق العمل على خلق "بيئة سليمة خالية من الخمر" لها.

بين "الأخلاقي" والسياسي

جبارة ليس حالة معزولة. ليس مبشراً قرّر الانتقال إلى منطقة معزولة تعيش فيها قبيلة "بدائية" لم تصلها الرسالات الدينية. هو ينشط في إطار اجتماعي عرف الإسلام منذ قرون وعاش في القرن الماضي على وقع الصدامات بين الأفكار الدينية والمدنية ومختلف الإيديولوجيات.

ودعوته أيضاً ليست معزولة. إنها تأتي في سياق خَبِرته منطقة جنوب لبنان ذات الأغلبية الشيعية، ومن حلقاته منع حزب الله الإتجار بالكحول في كل القرى الشيعية التي انسحبت منها إسرائيل عام 2000 وفرضه، عبر "الأهالي"، إغلاق بعض متاجر المشروبات الكحولية في مدينة النبطية وقريتي كفررمان وحولا، ومن حلقاته القديمة تفجير محلات كحول على خط الساحل الجنوبي، بعضها أسفر عن مقتل أشخاص.

هو عمل هادئ لا يأخذ شكل مطالبة مركزية بمنع بيع الكحول في "بلاد الشيعة" ولكنه يتخذ شكل مطالبات محلية على مستوى القرى يقودها "الأهالي" وتقود الأخيرين من خلف الستار "كوادر" حزبية.

في هذا السياق أتى إعلان جبارة أن "الإخوان في حزب الله أعلنوا عن استعدادهم (للعمل على تسكير المحلّ) ولكنهم لا يستطيعون التدخّل لوحدهم". فالحزب المذكور في خطواته الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر يفضّل البقاء خلف واجهة "الأهالي"، كي لا يُتّهم بأنه عاد إلى إيديولوجيا بناء جمهورية إسلامية في لبنان.

جبارة هدّد وحرّض وصاحب المتجر المرخّص له ببيع الكحول رفع دعوى ضده أمام القضاء، ولكن حتى الآن لم يُلقَ القبض على "الشيخ" الذي وثّق خرقه للقوانين اللبنانية بالصوت والصورة.

إما نعيش في دولة أو تحت رحمة الجماعات، إما في ظل القوانين المدنية التي أقرّها مجلس النواب أو في ظلّ فتاوى طلاب الحوزات الدينية. فمَن ينتصر؟

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث