محمد يسري
في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، دار صراع دامٍ بين الحميريين والأحباش في اليمن، كان في حقيقته حرباً بالوكالة بين القوتين العظمتين الفارسية والبيزنطية.
شهدت اليمن في تلك الفترة العديد من الحوادث الوحشية التي حجزت لنفسها مكاناً مهماً في الكتابات الدينية والوثائق التاريخية. وكانت مذبحة نجران واحدة من أهم تلك الحوادث على الإطلاق.
الرواية التقليدية في المصادر المسيحية
تأخذ حادثة قتل المسيحيين في نجران مكاناً مهماً في السرديات الروائية الدينية، سواء المسيحية أو الإسلامية.
في ما يتعلق بالمصادر التاريخية المسيحية، تعددت الإشارات إلى ما وقع من مذابح في نجران، وذلك في كتابات بعض رجال الكنيسة وبعض الحوليات التي اهتمت بسرد تفاصيل حياة المسيحيين في جزيرة العرب.
في كتاب الحميريين لمؤلفه السرياني مار شمعون الأرشمي، ورد ذكر كيفية قتل أهل نجران، والطرق المتعددة التي استخدمها ملك اليهود لتعذيبهم، وكان منها على سبيل المثال صب الزيت على أجساد الضحايا ثم إشعال النيران فيها، كما جرى توصيف الشجاعة الفائقة التي تميّز بها المضطهَدون، وكيف أنهم رفضوا تغيير معتقداتهم وتمسكوا بإيمانهم حتى النهاية.
وفي كتاب "الشهداء الحميريين" الذي ألّفه مؤلف مجهول، وردت بعض المعلومات عن قائد اليهود يوسف ذي نواس الذي تربى على اليهودية، ولقّنته أمه كره المسيحيين وضرورة العمل على قتلهم جميعاً.
يمدّنا الكتاب بتفاصيل متعددة عن حصار نجران، ودفاع أهلها عنها، وخديعة ذي نواس لهم بعد أن وعدهم بالعفو عنهم والحفاظ على حياتهم، ثم غدره بهم بعد استسلامهم، ويتحدث عن تفاصيل استشهاد المسيحيين الذين قُدّر عددهم بالعشرات، كما أسهب المؤلف في سرد التفاصيل المتعلقة بتعذيب زعيم نجران الحارث بن كعب.
ويذكر الأب سهيل قاشا، في كتابه "صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام"، أن مذبحة نجران شهدت مقتل عدد كبير من النساء اللواتي اخترن الاستشهاد بمحض إرادتهن، عندما دخلن إلى الكنيسة المشتعلة، ورمين بأجسادهن وسط نيران أوقدها الجنود الحميريون.
وشهدت المصادر المسيحية اختلافاً كبيراً في تحديد عدد قتلى تلك المذبحة. والرأي الأكثر ترجيحاً حول هذه النقطة هو ما ذهب إليه القمص تادرس يعقوب الملطي في كتابه "قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية"، إذ حدد عددهم بأربعة آلاف شخص، معتمداً في ذلك على التوفيق بين مجموعة من الوثائق السريانية.
المنظور الإسلامي للمذبحة
يتناول المنظور الإسلامي لمذبحة نجران الحادثة بطريقة مختلفة. فالقرآن لا يذكر أية تفاصيل عما وقع في نجران، ولا يذكر اسم الملك اليهودي المسؤول عن تلك المذبحة، بل يورد خبراً مقتضباً عنها في سورة البروج: {قُتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد{
هذه الآيات المقتضبة أفسحت مجالاً واسعاً لتناولها وشرحها ودراستها في كتب التفسير القرآني. فالطبري مثلاً يعرض سبع قصص تاريخية مختلفة لتفسير الأحداث التي أشارت إليها تلك الآيات، في مقدمتها قصة تزعم أن أصحاب الأخدود هم نصارى نجران الذين تم ذبحهم على يد الملك الحميري اليهودي يوسف ذي نواس، إذ قام هذا الملك بحفر حفر مستطيلة في الأرض وأشعل فيها النيران، ثم ألقى عدة آلاف من المسيحيين فيها.
اعتماداً على بعض الآثار الضعيفة والإسرائيليات المنتشرة، استطاع التفسير السابق أن يتصدر التفسيرات الأخرى، ومن ثم جرى التأكيد عليه في معظم المدونات التفسيرية الأخرى التي لحقت بتفسير الطبري، مثل تفاسير الزمخشري والطبرسي وابن كثير والألوسي.
ولكن رغم ذلك، بقي الجدل محيطاً بتفاصيل تلك الآيات، إلى حد دعا سيد قطب، في تفسيره المعروف "في ظلال القرآن"، إلى البعد عن كل القصص المأثورة وتنحيتها جانباً، وفهم الآيات في سياق الدفاع عن مسألة الإيمان ومواجهة الطاغوت والكفر، بغض النظر عن كل التفاصيل الدقيقة محل الخلاف بين المفسرين.
في النقوش الحميرية
من المثير أن العديد من النقوش الحجرية حُفظت لنا منذ عهد الحميريين، وأحدها اكتُشف في بئر حمى الواقعة شمال مدينة نجران الحالية، ودرسته بعثة سعودية فرنسية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ورد في هذا النقش أن الملك الحميري اليهودي يوسف أسار يثار، وهو نفسه الذي تسميه المصادر المسيحية والإسلامية بذي نواس، شنّ حملة عسكرية موسّعة في بلاد اليمن، وحقق انتصارات ضخمة على الأحباش في مدينة ظفار بريم، عاصمة الدولة الحميرية، ومدينة المخا، ونجران، ومساكن الأشاعرة، ووصل في غزوته تلك إلى باب المندب.
"ملك كل الشعوب"، وهو اللقب الذي أطلقته النقوش على الملك اليهودي، استطاع، بحسب النقوش نفسها، أن يقتل ما يقرب من 13 ألفاً من الأحباش، وأسر 11 ألف مقاتل، وغنم ما يقرب من العشرين ألف رأس من الإبل والبقر والضأن.
وتوضح النقوش أن يوسف استعان في تلك الغزوات بأحلافه من قبائل همدان ومذحج وكندة. وتؤرخ النقوش هذه الحملة العسكرية بالعام 633 بالتقويم الحميري، وهو ما يوافق 518 بالتقويم الميلادي.
ومن المثير أن النقش لم يشر من قريب أو بعيد إلى وقوع مذبحة في نجران، وإنما تم توصيف الأحداث على كونها معارك وحروب مفتوحة بين الحميريين والجنود الأحباش.
الدوافع الاقتصادية والسياسية وراء مذبحة نجران
إذا كانت المصادر الدينية المسيحية والإسلامية قد ركزت على تبيان دور العامل الديني في مذبحة نجران، فإن كتابات المؤرخين الذين عاصروا تلك الحادثة أشارت إلى أن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت الأهم والأكثر تأثيراً وفاعلية في وقوعها.
كانت شبه الجزيرة العربية واحدة من مناطق النزاع بين الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وحاولت كل من القوتين أن تصطنع لنفسها نفوذاً وسطوة من خلال التحالف مع بعض الجهات العربية، فتحالف البيزنطيون مع الغساسنة بينما تحالف الفرس مع ملوك الحيرة، بحسب ما يذكره الدكتور محمد فتحي الشاعر في كتابه "السياسة الشرقية للإمبراطورية البيزنطية في القرن السادس الميلادي".
كان الهدف الرئيسي من تطويق جزيرة العرب يكمن في محاولة السيطرة على طرق التجارة الرئيسة التي تمر فيها، وكان طريق الحرير أهمها وأكثرها خطورة وأعظمها نفعاً وفائدة.
في القرن السادس تحديداً، وهو القرن الذي يعتبره ستيفان رنسيمان في كتابه الحضارة البيزنطية "أعظم عهود تجارة الشرق"، كانت الصين بما تصدّره من منتجات حريرية، والهند بما تنتجه من توابل وأعشاب ومجوهرات، تمثلان معاً الوجهة الرئيسة للتجار الأوروبيين الباحثين عن المكاسب الضخمة، وذلك بحسب ما تذكره الدكتورة إسمت غنيم في كتابها "إمبراطورية جستنيان".
ولما كانت أغلبية محطات الطريق التجاري الذي يربط بين الصين وأوروبا تقع داخل حدود الدولة الفارسية، تحكّم الفرس بشكل كبير في الاقتصاد البيزنطي، ولذلك راح البيزنطيون يبحثون عن طريق بديل، ووجدوا ضالتهم في طريق الجنوب الأقصى، الذي يمرّ بجنوب بلاد فارس ويصل إلى اليمن ومنها إلى البحر الأحمر ومصر، وينتهي بالموانئ الأوروبية مروراً بالبحر المتوسط.
هذا الوضع القلق أجبر أباطرة القسطنطينية على استخدام كافة السبل للسيطرة على مضيق باب المندب، ما يعني بالتبعية اليمن والحبشة، وهما البلدان اللذان يقع المضيق الاستراتيجي بينهما.
المهمة الأسهل للبيزنطيين كانت في إيجاد علاقات ودية مع الأحباش، وكان السبب في ذلك تشابه الطرفين في اعتناق المسيحية. أما المهمة الأكثر صعوبة، فقد كانت متعلقة باليمنيين الذين يعتنقون أدياناً مختلفة، معظمها بعيد كل البعد عن المسيحية.
حاول البيزنطيون استخدام القوة الناعمة في سبيل تعبيد الطريق أمام تجارتهم، وهو الأمر الذي يظهر في ما يذكره المؤرخ البيزنطي بروكبيوس في كتابه تاريخ الحروب، حول أن البعثة التجارية البيزنطية الأولى التي ذهبت إلى اليمن سارعت بإقامة كنيسة هناك، وصارت تلك الكنيسة مقصداً للتجار اليونانيين والرومان الذين يمرّون باليمن.
كان من الطبيعي أن تثير حركة التبشير البيزنطية تلك ردود أفعال سياسية-دينية مناوئة لها، وهو ما نتج عنه اعتناق الدولة الحميرية المدعومة من الإمبراطورية الفارسية، للديانة اليهودية، بحسب ما يذكره إسرائيل ولفنسون في كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام".
كان الصراع إذن صراعاً اقتصادياً-سياسياً في المقام الأول، وإنْ تسربل بمسوح الدين والمعتقد، وهو الأمر الذي يظهر جلياً في بعض التفاصيل التي ذكرها المؤرخون المعاصرون لتلك الأحداث.
فبحسب ما يذكره ف. هايد في كتابه "تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى"، بدأت الحرب بعدما قام يوسف أسار بقتل عدد كبير من التجار اليونانيين الذين مروا في بلاده متجهين إلى مملكة أكسوم في الحبشة.
هذا التصرف أثار حفيظة الأحباش فأرسلوا بجيش عظيم استطاع أن يهزم الحميريين في بعض المعارك، ما اضطر يوسف للهرب.
ومرة أخرى يظهر التأثير التجاري في الحرب، عندما نعرف أن الملك المهزوم التجأ إلى أحد كبار التجار في الحيرة، بحسب ما تنقله الدكتورة عائشة سعيد أبو الجدايل في بحثها "ديانة شهداء نجران: قراءة جديدة للمصادر الأولية" عن بعض المصادر السريانية القديمة.
تتفق المصادر التاريخية على أن المساندة التي وجدها الملك الحميري من الفرس والقبائل اليمنية التي لا تتفق مصالحها التجارية مع الأحباش والبيزنطيين، مكّنته من استعادة قوته، ومن حشد الحشود ومهاجمة الأحباش وإخراجهم من المعاقل التي استولوا عليها في اليمن.
ويذكر إسرائيل ولفنسون في كتابه سابق الذكر، نقلاً عن المؤرخ اليوناني يوحنا من مدينة أفزوس، أن يوسف بعدما رجع إلى الحكم ظل مواظباً على اضطهاد وقتل التجار المسيحيين، حتى انقطع جميع التجار عن الدخول إلى اليمن، وأصيبت الأسواق بالكساد، ما أغضب الطبقة الأرستقراطية اليمنية التي كان قوامها الأساسي من تجارٍ تعطلت مصالحهم وتناقصت ثرواتهم، فثاروا في وجه الملك اليهودي وأعلنوا ولاءهم لملك أكسوم وإمبراطور بيزنطية.
معنى ذلك أن حركة الاضطهاد الحميري لم تكن موجّهة بالأساس للمسيحيين اليمنيين، بقدر ما كانت موجهة ضد التجار البيزنطيين على وجه الخصوص.
ويبقى السؤال المهم: لماذا استأثرت نجران وحدها دون غيرها من مدن اليمن بما وقع فيها من مذابح وحشية قامت بها الدولة الحميرية؟
كانت نجران مدينة تجارية من الطراز الأول. تذكر الدكتورة عائشة سعيد في بحثها المذكور سابقاً أنها كانت وسيطاً تجارياً بين جنوب الجزيرة العربية ودول البحر المتوسط، وأن الروايات المسيحية للمذبحة تشهد بشكل غير مباشر على الثراء الذي تمتع به سكانها، فمثلاً تذكر بعض الروايات أن نبلاء المدينة عرضوا على الملك الحميري كميات كبيرة من الذهب والفضة لإنقاذ أنفسهم.
ومن الشواهد على ثراء نجران ما ذكره ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان"، عندما تكلم عن كعبة نجران التي كانت واحدة من أشهر الهياكل الدينية في جزيرة العرب قبل الإسلام، والتي اعتادت بعض القبائل في اليمن والبحرين على الحج إليها، وهو ما قد يشير إلى جني أهل المدينة للكثير من الأرباح من وفود الحجيج المقبلة عليهم.
أيضاً، يذكر البلاذري في "فتوح البلدان" أن أهل نجران كانوا يتعاملون بالربا في عهد عمر بن الخطاب، وهو ما دفعه إلى تهجيرهم إلى العراق خوفاً من شيوع تلك المعاملة المالية المحرمة بين المسلمين، وهو ما يُفهم منه تعاظم ثروات النجرانيين على وجه الخصوص.
معنى كل ذلك أن الاضطهاد الذي مارسه الحميريون ضد نجران كان بسبب كونهم تجاراً لا لكونهم مسيحيين، والروايات والتفسيرات الدينية التي تناولت أخبار ذلك الاضطهاد حاولت أن تعظم من دور العامل الديني وأن تهمش العاملين السياسي والاقتصادي.