د. وجدى ثابت غبريال
كلية الحقوق - جامعة لاروشل- فرنسا
حلت أوروبا مشكلتها مع الغيبيات الدينية ليس بالعلم و العلمانية و العقلانية فحسب بل من خلال الجهد الفكري الذي قدمه لها فلاسفة القانون و ياتي على رأسهم الفرنسيان روسو و مونتسكيو. الاول من خلال جهده فى تأصيل الارادة العامة للامة كمصدر السلطات و الثانى من خلال مبدا الفصل بين السلطات
اي ان التنوير بدأ اولا بالفلسفة و بعدها بالقانون من خلال الاعلان الفرنسي لحقوق الانسان الذى يقدم فلسفة فردية واضحة المعالم عقلانية علمانية تستقي من الديباجة .
وصلت اوروبا الى صيغة التوازن الحالي بين سلطان الكنيسة على الحكم و على النظام السياسي و بين علمنة هذا الاخير فى نهاية صراع دام قرنين من الزمان و لازالت بعض ردود افعال و بقايا هذا الصراع نراها حتى اليوم .
الطليعة الحرة العلمانية الاوروبية ايدها البرجوازيون في الثورة الفرنسية في فرنسا و الفلاسفة الالمان في المانيا كان لهم دور كبير في التنوير لاسيما كانط و لكن من فرنسا بدأت ثم انتقلت شعلة التنوير في اوروبا من كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو (نشر سنة ١٧٦٢ )الذي أسس سلطة الحكم لاول مرة على فكرة ديمقراطية ( صحيح انها وهمية و فيها خيال و لكنها جديدة و تعد سبق فكري في وقتها) و هي فكرة "الارادة العامة للامة" فكانت هي الاساس الوحيد للحكم و للتشريع و ليس الارادة الالهية او القانون السماوي .
و على الرغم مما انطوت عليه تلك الثورة من مذابح و اخطاء فادحة بين ١٧٨٩ و ١٧٩٣ الا ان الشعب الفرنسي ايد البرجوازية في ثورتها على النبلاء و الارستقراطيين و بهذا تحرر من سلطان الدين و خضع لسلطان ما اسماه العقل او العقلانية.
هذا يعني اننا فى مصر غير مستعدين بعد لاي شكل من اشكال التنوير العلمانية الاوروبية و ان الدين بمفهومه الثقافي السائد في مصر هو مكون اساسي للثقافة المصرية و للكينونة و الشخصية المصرية
البعض ينادي بالتحرر من ظلامية الازهر و سلفية الحكم و سيطرة الافكار و التعاليم المتخلفة التى اخترقت العقلية المصرية و يتجاهل امرين :
اولا. ان الواقعة الدينية هي افراز طبيعي للمصري مسيحي او مسلم و مفهومه للدين احادي غالبا ينكر و يستنكر العقائد الاخرى و هذا ايضا جزء من لوجيسيل الانسان المصري فهو ليس نسبي الحكم في القيم و ليس تجريبي في منهجه الفكري كالاوروبي.
ثانيا . النظام الحاكم يستخدم الدين و هو حريص على بقائه و عدم اختفائه بكافة ظواهره من المجنمع تارة لضرب اعدائه او لاضعافهم او لدعم وجوده و رضاء الناس عنه . فالدين فى النظم المتخلفة مفعول به من النظام الامني الحاكم ليبقى و يستمر مستقراً ايا كان اسلوب الحكم و فضائح عدم الكفاءة و التردي و الفساد و التخلف
و اذا تناولنا الدين الرسمي للدولة سنلاحظ فوراً انه لا توجد طليعة اسلامية حقيقية مستنيرة تتحرر من سلطان الدين الاسلامي تماماً و هو الدين الحاكم فى مصر و لو وجدت فهي غير مستعدة للدخول فى حرب معه كما فعلت الطلائع الثورية المستنيرة فى فرنسا إبان الثورة الفرنسية
التنوير ثمنه غالٍ جدا على المصريين انه يقتضي بتر جزء اساسي من ثقافتهم الحالية و هذا فى عداد المستحيل ثم استبداله بثقافة الايمان و ليس بثقافة التدين الشكلية و هذا غير مفهوم ما لم يتحقق النضج الشخصي و الروحى اولا
- ما لم نقم بالفصل التام بين المعتقدات الدينية أو الروحية الخاصة و نعتبرها شاناً خاصاً و تبعاً محصورةً فقط فى هذا الاطار الخاص ، و بين القانون الوضعي السائد في المجتمع باسره فلا داعي ان نتكلم عن نور ولا تنوير و لا استنارة و سيظل الجميع يتارجح بين حكم سلفي تفوح منه المباخر و الخزعبلات و حكم امني يستخدم السلفيين و يعتبرهم وسيله و قطع شطرنج يحركها كما يشاء ليكون هو السيد الاوحد الماسك بزمام الامور
و لكن لا خير ايضاً فى التخلف البدائي لحكمٍ اخواني تفوح منه رائحة كبريت الشيطان ذاته بكل ما راينا فيه من شر مبين مصمم عليه. و لا خير يرجى من حكم يستخدم الخوف من هؤلاء لإيجاد شرعية له منكراً ابسط مبادئ الدولة الدستورية الحديثة
لا توجد انصاف حلول و اوروبا كانت حلولها جذريه و دفعت ثمناً باهظا لا اعتقد اننا نستطيع ان ندفعه الا من خلال اتضاع كامل كاتضاع القديسيين يضع كل واحد فينا موضع المراجعه و يضع المجتمع كله و السلطة الدينيه و السياسيه موضع المراجعه
لذا اعتقد ان الحال سيستمر على ماهو عليه و ان كلمات من يدعون الاخرين للاستنارة ستظل مظلمة حتى ينيرون انفسهم اولا و النور يمنح لمن يطلبه و لا يمنح الا لو افسحنا له مكانا فى قلوبنا و فى ضمائرنا و فى عقولنا
لا توجد انصاف حلول لانه لا يمكن ان تضع رقعة قديمة على ثوب جديد و الا سيدوم التعصب الاعمى الغبي مادمتم تبررونه و تتحالفون مع العنصريين الذين يضطهدونكم و تسلكون بذات التعصب مع اخرين بل و تحاربون باي ثمن كلمة الحق التى يعبر عنها بعض اقباط المهجر للدفاع عن حق و عن مبدأ بحرية و شرف لانهم لم يالفوا التخاذل و الصمت و الانحناء
اصول التخلف تلقى بعيدا و تجتث تماما فيما عدا ذلك الشعوب تضيع وقتها مع حكام ضعفاء او سذج بلهاء ساقطين تحت ضغوط المتخلفين الظلاميين او جبناء او غير اكفاء او حماة الشيطان ذاته و لاعبين فى صفوفه
المطلوب خلع قلب و عقل بائد و استبداله بزرع قلب و عقل جديد
هذه النتيجه - اذا شئناها- و فقط اذا اردنا الوصول اليها بحق- لا تتأتى الا من خلال المٍ عظيم من الافضل عدم التهرب منه و لا مقاومته، لنحتسي الكأس الى النهايه وحتى آخر جرعه . بعدها نضع الاقدام على الطريق الصحيح .
الطريق الطويل الذى سرناه فى الهطل و البلاهة و التخلف و بدائية العبودية علينا ان نعوده فى الالم و الدموع و الندم و الانسحاق من اجل التحرر و بعدها نضع اقدامنا على بداية الطريق الصحيح.
هذا هو المعنى الوحيد الذى يمكن ان نفهمه من عبارة " هل تستطيعون ان تصطبغوا بالصبغة التى اصطبغ بها انا "
لا يمكن ان تكونوا ابناء نور و فيكم ظلام ابداً
دى مافيهاش فصال ، لذا ينقيه لياتى بثمر اكثر و هكذا اوروبا اختارت ما اسمته بالتنوير و اخطأت خطأً فادحاً ليس فى اختيار التنوير ذاته و انما فى تكييف ما اختارته . لان ما اختارته فى النهاية لم يكن نورا يتيح لها البصر و البصيرة و انما نوراً يغشي البصر و يعمي العين
نحن لسنا فى هذه المرحله طبعاً ،نحن مثل الاعمى منذ ولادته لم نختر بعد و لم نسعى حتى خلفه و ننادي " يا ابن داود ارحمني" و لم نتضع بعد لنقول له بتسليم " أريد ان ابرأ"
حكامنا فى اوروبا و مصر و امريكا و مفكرينا لم يبلغوا تلك الحكمة بعد !
ما ينقصهم ليس ان يعرفوا ما هى العدالة و انما ان يقرروا و يتخذوا عملاً عادلاً بان "يعطوا كل احد ما يحق له و مايجب عليهم اعطائه من شئ مادي او معنوي " انه ابسط تعريف للعدالة عند توماس الاكويني عرفته اوروبا فى القرون الوسطى و ليس فى عصر التنوير الذي ادى الى المجتمعات الليبرالية الراسمالية التى خلقت من البؤساء و الديكتاتوريات بقدر ما خلقت الاديان و العقائد
"هناك طريق تبدو للانسان مستقيمة و عاقبتها طرق الموت".