خالد الشايع
لم يكن المستشار القانوني عبدالرحمن اللاحم يتوقع أن يكون حكم قاضي محكمة الاستئناف في القضية التي رفعها ضد داعية معروف وصفه بـ"محامي الزنادقة" وأهان عمله، صادماً لهذه الدرجة.
فقد رأى القاضي أن التشهير باللاحم هو من قبيل "الذم المقبول"، لكونه ترافع في قضايا سابقة لمصلحة متهمين وصفوا بأنهم ضد الدين والعادات والتقاليد.
ونقض القاضي حكم المحكمة الجزائية الذي يأمر بمعاقبة الداعية بالسجن لمدة سنة ودفع غرامة مقدارها خمسمئة ألف ريال، وفق نظام الجرائم المعلوماتية.
أقر المدعى عليه بأنه نعت اللاحم بهذا الوصف، إلا أنه قال في دفاعه إنه كان "على سبيل التحذير من الأشخاص المنحرفين عقيدياً ولهم خطر على الأمة، وهو جائز شرعاً، بل هو مستحب". وقد وافقه قاضي الاستئناف على ذلك، ورأى عدم إدانته.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن الداعية قام برفع دعوى ضد اللاحم، مطالباً بسحب ترخيص عمله لاستعانته على الباطل.
مثل هذه الأحكام، دفعت كثيرًا من الحقوقيين للتحذير من أنها ستفتح باب التطاول على الآخرين والتشهير بهم دون وجه حق، بحجة "محاربة الشر" والذم المقبول.
حكم غريب لكنه ليس وحيد
الحكم غريب، لكنه لم يكن الوحيد الذي أثار غضب الشارع القانوني السعودي. فبعد يومين من صدوره، قررت محكمة الاستئناف في منطقة عسير نقض حكم كان يعاقب داعية آخر بالسجن لمدة 45 يوماً والجلد بعد أن أُدين بشتم وتكفير الممثل ناصر القصبي في إحدى خطب الجمعة.
كانت حجة القاضي هذه المرة أن الداعية مشهود له بالصلاح والاستقامة، وجاء في حيثيات الحكم المثير للجدل: "الجزاء الصادر بحق المدعى عليه في غير محله؛ لكون المدعي ممَّن اشتهر بالاستهزاء بالدين والمنتسبين إليه كالقضاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والصالحين ولتشبهه بالنساء".
ازدادت الأحكام التي تثير حيرة القانونيين، فقبل أيام حكم قاض في جدة بسجن مواطن خمس سنوات لأنه اغتصب ابنته وابنه القاصرين لعدة سنوات، وهو حكم أعتبره كثيرون مخففاً للغاية، ولا يناسب الجرم.
وقد أثار حكم بالإعدام منذ عامين على الشاعر الفلسطيني أشرف فياض بعد كتابته قصيدة يعتقد القاضي أنها تمثل ردة عن الإسلام، انتقادات واسعة. وعلى الرغم من رد المحكمة العليا للحكم وتخفيفه ليصل إلى ثمانية أعوام، إلا أن الجدل حوله بقي قائماً.
قانون غير مدون ومزاجية القاضي
يحاول بعض الحقوقيين الدفاع عن تلك الأحكام ومنهم المُحكم القضائي يحيى الشهراني الذي أكد في تصريحات عبر وسائل إعلان مختلفة أنه لا يجوز الإساءة إلى القضاء السعودي أو اتهامه بعدم الحيادية.
وهو ما أكدته وزارة العدل، وتوعدت على لسان المتحدث الرسمي باسمها، منصور القفاري، عبر حسابه الرسمي على موقع تويتر، بملاحقة: "كل من يشكك في عدالة السعودية".
لكن المشكلة برأي حقوقيين كثر هي أن السعودية التي تعتمد الشريعة الإسلامية في نظامها القضائي لا يوجد فيها قانون مدوّن. بل تعتمد على الحدود الشرعية في الأمور الواضحة، كالقتل أو الزنا أو السرق. فيما يسقط كل ما عدا ذلك في خانة الأحكام التعزيرية، حيث يقدر القاضي العقوبة المناسبة للجرم، والتي قد تبدأ بالتوبيخ وتنتهي بالإعدام.
"للأسف مرجع هذا كله إلى غياب قوانين مدونة، وإلى ارتجال القاضي وقناعته الشخصية"، يقول المستشار القانوني أحمد الراشد، واصفاً بعض الأحكام التي ظهرت مؤخراً بأنها غير منطقية ولا مقبولة، لأن فيها تزكية للمدعى عليه.
وأضاف: "غياب هذه المدونة تجعلنا كمحامين ندخل قاعة المحكمة ولا نعلم ماذا سيقول القاضي، فالحكم سيكون مطاطياً لدرجة كبيرة، لأن غالبية الأحكام تدخل تحت باب الأحكام التعزيرية، التي لم يحددها الشرع، وتخضع لاجتهاد القاضي دون قواعد محددة".
وقال الراشد إن خلفيات الأحكام لا تستند لأصول قضائية أو قواعد شرعية فتنتج عن ذلك أحكام ارتجالية.
"مثل أن يقول القاضي في صك الحكم "أقيلوا أهل العثرات، عثراتهم"، هذا ليس حكماً شرعياً، فما حدث من الداعية في قضية ناصر القصبي مثلاً ليس عثرة، بل تجنياً وجريمة ضد شخص آخر... فلو كان شتم قاضياً آخر لتم سجنه لسنوات".
مساحة بين التوبيخ والإعدام، والحكم يقرره القاضي
لا يتوقف الأمر على الأحكام غير المقبولة، ولكن يصل الأمر لتباين كبير في حالات متشابهة.
يكشف القانوني عبدالله رجب عن أنه قبل خمسة أعوام حكم قاضي حائل في أبها على شاب سرق خاروفاً بالسجن ستة أشهر، فيما حكم قاض آخر في جازان على سارق مماثل بالقتل بتهمة "الحرابة"، أو قطع الطريق، وهو أمر في غاية التباين.
وقد حاولت رصيف22 الحصول على تصريح من عدد من القضاة، غير أنهم رفضوا التجاوب قائلين إن هناك أمراً ملكياً يمنعهم من الحديث لوسائل الإعلام.
بيد أن الناشط الحقوقي والقانوني علي آل خطاب شدد على أن الموضوع بالغ الأهمية، لأنه يمس السمعة القضائية للسعودية، وهو أكبر من قضايا اللاحم أو القصبي. فهي لا تبقى محصورة ضمن حدود الدولة، مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وتزيد بسببها مطالبات الناشطين بتقنين القوانين.
والتقنين لا يعني تعطيل الشرع، بل تقنينه بحسب ما في الشرع والأعراف، وأن يكون هناك مدونات تعنى بالأسرة والقوانين الجنائية، وتستمد مصادرها من الشرائع السماوية.
"نحن كقانونيين نعاني من تباين كبير في الأحكام بين قضية وأخرى برغم تشابه الجرم"، يقول آل الخطاب الذي يرى أن القوانين هدفها تحقيق العدالة، وهي تمس حقوق المواطن، فلا يمكن إعطاء مساحة تقديرية بهذا الحجم للقاضي، الذي هو "في نهاية الأمر بشر".
الحل الذي يقترحه، إن لم يكن هناك تدوين القوانين، فينغي تحديدها بخط أعلى وخط أدنى. "في هذه الحالة، حتى لو كانت الأحكام متناقضة، فلا تكون بشكل كبير، فلأول مرة صرنا نسمع بالذم المقبول، والإفراط في التأديب، لأن مثل هذه الأحكام قد تغري البعض بالتطاول وشتم الأخرين والنيل منهم دون وجه حق، تحت طائلة الذم المقبول، تماماً كما صرنا نشاهد بعض الآباء يتمادى في تعنيف أبنائه، بحجة التأديب، ووصل الأمر للقتل"، يقول آل خطاب.
حدود تتجاوز الشرع
بحسب آل خطاب، تمتد المشكلة لأن يتجاوز عدد كبير من القضاة الشرع، بناءً على صلاحيتهم المطلقة.
حدود الجلد مثال على ذلك. فمن المعروف أنه لا يجوز التعزير فوق الحد، وأن أكبر حد في الجلد في الإسلام هو 100 جلدة. وتابع آل خطاب: "مع ذلك نرى قضاة يحكمون بآلاف الجلدات، ولدي قضايا وصل العقاب فيها لآلاف الجلدات، وقد تجاوز القضاة مضامين هذه العقوبات وهو أن تكون رادعة ومؤدبة، وليست تعذيبية".
وأضاف: "بعض القضاة يحكم بالسجن والغرامة والجلد والمنع من السفر في جريمة واحدة، وهذا غير مقبول، نحن في مرحلة لا تسمح بتأخير إصلاح القضاء، ليواكب المرحلة التي نطمع لها مع الرؤية السعودية القادمة".
لكن مشروع "مدونة الأحكام" ما زال معطلاً في وزارة العدل منذ أكثر من خمسين عاماً بضغط من التيار الديني الرافض له.
وقد حاول وزير العدل السابق محمد العيسى تحريكه إلا أن إقالته تسببت في عودة الملف الضخم للأدراج. وإلى أن يتحمس الوزير الجديد له، لن تتوقف الأحكام التي تثير تعجب القانونيين، وكذلك لن يتوقف "الذم المقبول".
نقلا عن رصيف 22