أحمد نظيف
صباح الأول من أغسطس 2018، استفاقت تونس على عملية سطو مسلح استهدفت فرعاً مصرفياً في مدينة القصرين، غرب البلاد، على الحدود مع الجزائر، في عملية هي الثانية من نوعها خلال أقل من شهر.
وكان مصرف في منطقة المنار في الضاحية الغربية للعاصمة التونسية قد تعرّض في 11 يوليو الماضي لعملية سطو مسلح.
بعد ساعات من واقعة مدينة القصرين، تبيّن أن الهجوم كان عملية إرهابية. ونقلت وكالة "تونس إفريقيا للأنباء" الرسمية عن مصادر أمنية قولها إن ''سطو أربعة مسلحين على فرع أحد البنوك الواقعة بمدينة القصرين هو حادثة إرهابية نفّذها 11 عنصراً إرهابياً قاموا بالاستيلاء على سيارة أحد المواطنين، بسفح جبل السلوم، قبل أن يعمد أربعة منهم إلى امتطائها واقتحام الفرع البنكي باستعمال ثلاثة أسلحة من نوع كلاشنيكوف فيما ظلت بقية العناصر برفقة صاحب السيارة المستولى عليها".
وأضافت المصادر أن "العناصر الأربعة التحقوا إثر عملية السطو بالإرهابيين السبعة في السيارة المحتجزة ليلوذوا جميعهم بالفرار ويتركوا السيارة وصاحبها بالمكان".
وعلى الرغم من أن وزير الداخلية التونسي الجديد، هشام الفراتي، قال لوسائل الإعلام المحلية إنه "لا يمكن الجزم بوجود صبغة إرهابية في عملية السطو المسلح إلا بعد بت القضاء في ملابسات العملية"، إلا أن الصحف التونسية نقلت عن أكثر من مصدر أمني وحكومي تأكيدات حول طبيعة العلمية الإرهابية.
تدخل هذه العملية وغيرها من العمليات المشابهة في خانة "الاحتطاب''، وهو أحد وسائل ومصادر التمويل التي تعتمدها الجماعات الجهادية.
سرقة بغطاء ديني
تحاول السردية الجهادية دائماً النبش في نصوص التراث لإيجاد أسانيد وحجج تضفي بها المشروعية على ممارساتها من قتل وتعذيب وإتجار بالبشر، وحتى السرقة التي يبررونها بمفهوم الاحتطاب.
والاحتطاب هو كناية عن جمع الحطب، وفيه يخرج الحطاب بفأسه ليغنم من الطبيعة ما يريد. ويرى الدكتور عبيد خليفي، أستاذ الحضارة، والباحث في مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات وعلم الأديان المقارنة في تونس، أن مفهوم الاحتطاب من المفاهيم العقائدية للممارسة الجهاديّة في الإسلام المبكر، واستُحضر في سياق المشروع الجهادي المعاصر.
ويقول خليفي، وهو مؤلف كتاب ''الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة'' لرصيف22 إن الثابت هو أنّ المخزون المالي لمشروع الجهاد الإسلامي مرتبط بالغنيمة، "والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، والفيء هو ما أخذ منهم بغير ذلك، كالأموال التي يصالحون عليها، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج"، كما تقول المرجعية السلفيّة.
ويضيف أنه يجب التمييز بين الغزوة والسريّة في الممارسة النبوية، فالغزوة تكون بالقتال والغنيمة، والسريّة للترهيب وتحصيل الأموال دون قتال، وقد تأوّلت الحركات الجهاديّة المعاصرة مفهوم الغنيمة بعد تكفير الدولة والمجتمع وتحويل دار الدعوة إلى دار حرب ليصير تحصيل المال من "الكفار" واجباً شرعياً على المجاهد.
وهذا ما ذهب إليه أحد قادة تنظيم القاعدة أنور العولقي في قوله: "المال الذي يؤخذ من الكفار بالقوة أكثر طهراً ونقاء من ذلك الذي يحصل عليه رجل الأعمال أو الفيزيائي أو المزارع لأنه ببساطة مصدر الدخل الذي ارتضاه الله سبحانه للرسول محمد".
ويأتي كلامه المذكور تأويلاً لحديث النبي "جعل رزقي تحت ظل رمحي". ويشرح خليفي أن "الأمر يتعلّق بتحليل دم الكافر وماله وعرضه وأرضه. وفي النهاية فالفكرة الجهادية تنهض على ثنائيّة العقيدة والغنيمة''.
تركز الأدبيات الجهادية المعاصرة على محاولة تأصيل عمليات النهب والسلب والسرقة التي تقوم بها الجماعات الجهادية دينياً، حتى أن القيادي البارز في تنظيم القاعدة، وأحد مؤسسي تنظيم النصرة في سوريا، أبو مصعب السوري (مصطفى بن عبد القادر) أفرد في كتابه الضخم "دعوة المقاومة الإسلامية" فصلاً كاملاً حول هذا الموضوع.
ويقول في هذا السياق: "لو نظرنا في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه لوجدنا قسماً كبيراً منها قد رصد لتحصيل الموارد. ويكفي أن درة تلك الغزوات وطليعتها بدر... كانت أساساً لترصد عن قريش ليستعيد المؤمنون عوضاً عما كان قد سلبه الكفار منهم".
ويتابع: "كان البعد الاقتصادي بعداً هاماً جداً من أبعاد الجهاد. وهي ميزة من الميزات التي خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمس أعطيت له لم تعط لنبي من قبله منها أن أحلت له الغنائم وصارت حلالاً وسنة لأتباعه من بعده".
التمويل الذاتي
تعتمد الجماعات الجهادية على مصادر متفرقة لتمويل نشاطها وكفالة عناصرها. ويشير الصحافي والخبير في شؤون الجماعات الإسلامية، هادي يحمد، إلى أن الحركة الجهادية المعاصرة، منذ سبعينيات القرن الماضي، اعتمدت على نوعيين من التمويل: الأول، تمويل خارجي، ويأتي من التبرعات والصدقات وأموال الزكاة وحتى من الأنظمة السياسية إقليمياً ودولياً، كما حصل في أفغانستان في الثمانينيات والبوسنة لاحقاً؛ والنوع الثاني هو تمويل ذاتي يعتمد على الموارد الذاتية لأعضاء التنظيم أو ما يجنيه التنظيم خلال نشاطه من غنائم، وهذا
النشاط أصبح يسمى الاحتطاب.
ولعل أكبر عملية احتطاب في التاريخ الحديث هي الهجوم المسلح الذي نفّذه تنظيم داعش في حزيران 2014 على فرع البنك المركزي العراقي في مدينة الموصل وسرق خلاله مدخرات تقدر بـ425 مليون دولار، وكمية كبيرة من سبائك الذهب.
ويرى عبيد خليفي أن مفهوم الاحتطاب ليس إلا "تحديث لمفهوم الغنيمة التي كانت مصدراً رئيسيّاً لبيت مال المسلمين"، وهو الوجه الآخر، لعمليات التأميم الثورية التي كانت تقوم بها مجموعات يسارية في السبعينيات ضد المصارف والمؤسسات المالية لكسب موارد لتمويل نشاطها.
ويشير إلى أن الحركات الجهاديّة المعاصرة وظّفت هذا المفهوم خلال تجربة الخلايا والتنظيمات الجهادية المصريّة في السبعينيات لتمويل عملياتها الحربية ضد النظام المصري، غير أنّ هذا المفهوم تلاشى خلال تجربة الأفغان العرب نظراً لوجود تمويلات كبيرة من طرف القوى الإقليمية من السعودية ومصر وباكستان ودول الخليج ومن طرف القوى الدولية الغربية بقيادة أمريكا.
وبالتالي، يتابع، لم يكن الجهاديون الأفغان بحاجة للغنيمة والاحتطاب أمام زخم الأسلحة والأموال والتبرعات الوافدة على "مكتب خدمات المجاهدين"، بل إنّهم لم يكتفوا بعدم الاحتطاب في القرى والمدن الأفغانية، إذ كانوا يتدخلون بإغاثة وتمويل أبناء تلك القرى.
ويضيف خليفي لرصيف22: "لكنّ مفهوم الاحتطاب سيظهر من جديد خلال العشرية السوداء في الجزائر حين استباحت التنظيمات الجهادية الجزائرية الأرواح والأموال في القرى والمدن الجزائرية لأنّ الدعم الخارجي لم يكن كافياً للعدد الهائل من الجهاديين الذين اتخذوا من الجبل ملاذاً وقاعدة للجهاد في الجزائر".
ويشجع أبو مصعب السوري الجهاديين على الاعتماد على التمويل الذاتي بعيداً عما يسميه الارتهان للممولين الخارجيين. فقد عايش العمل المسلح ضد نظام الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، في بداية الثمانينيات، والحرب الأفغانية والحرب البوسنية وعايش معها آثار التمويل الخارجي للجماعات الجهادية.
ويتحدث عن ذلك قائلاً: "رهنت مصادر التمويل إرادة قيادات التنظيمات أو حتى قيادات الجبهات ومسؤوليها لإرادة الممولين. وقد أدى هذا إلى كشف كثير من الأسرار عنوةً ودخول الممولين ومَن رافقوهم من الاستخبارات في المعسكرات والجبهات وجلسات خاصة القيادات. بل بلغ الأمر في تجارب مثل الجهاد الأفغاني الأول أن تفرض المخابرات السعودية على إدارة العرب إلقاء دروسها ونشر فكرها في المعسكرات الرئيسية للعرب".
أزمة مالية أمّ استضعاف للدولة؟
منذ دخول تونس في مواجهة مسلحة مع الجماعات الجهادية أواخر عام 2012، ركزت هذه الجماعات هجماتها ضد المؤسسات السيادية الأمنية والعسكرية وضد بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية للبلاد، وخاصة السياحة، إلا أنها لم تقُم بأية هجمات ترمي من ورائها للحصول على موارد مالية.
لكن الاحتطاب أوسع من سرقة المصارف ومؤسسات الدولة. فبحسب الدكتور خليفي، فإن "الجماعات الجهادية التونسية اعتمدت على الاحتطاب منذ البداية، لأنّ الجبال التونسية لا توفّر لهم مخزون الماء والغذاء والدواء، وربما كان الفارق في الاعتماد على خلايا المدن لتأمين حاجات مقاتلي الجبل، لكنّ القبضة الأمنية جفّفت من تلك الروابط بين الجبال والمدن ما جعلهم يعتمدون على سرايا مسلحة لتحصيل الغذاء والدواء''.
ولئن اعتبرت بعض التحليلات في الصحافة المحلية والتقارير الأمنية، أن ما حدث في القصرين من سطو مسلح، يعبّر عن صعوبات مالية تمرّ بها المجموعات الجهادية في الجبال، فإن عبيد خليفي يرى أنه "لا يمكن الجزم بوجود صعوبات مالية تعاني منها هذه الجماعات، فعمليات الاحتطاب تعبّر أيضاً عن استضعاف للدولة التونسية التي تعيش مأزق حكم، وبذلك فهي أشبه باستعراض القوّة".
ويضيف أن "عمليات الاحتطاب لم تنقطع في المناطق المتاخمة للجبال فخوف السكان يمنعهم من التبليغ عنها لعدم ثقتهم في حماية الدولة لهم، غير أنّ عملية الاستيلاء على فرع بنكي وسط مدينة القصرين وفي وضح النهر تتجاوز كونها عملية احتطاب لتحصيل المدد المالي بقدر ما هي استعراض للقوة وإبراز لوهن السلطة السياسية في تأمين مدينة تقع في منطقة اشتباك وإرهاب يومي".
رصيف22