عمر الفاروق نور الدائم
"وبحق بطرس يا فتاتي، من شفى الرجل الكسيح، وبمريم العذراء والأحبار والراعي الصليح، وبمارجرجس والصليب، وبالكنيسة والمسيح، بالقس بالمطران بالجرس المُرِنّ على السطوح"... هذا جزء من أغنية "مسيحية"، تغنى بها الفنان السوداني الراحل حسن خليفة العطبراوي. الأغنية، المكتوبة في إحدى الفتيات القبطيات، تعبر كغيرها من أغان أخرى وأشعار، كتبت في هذا الصدد، عن تولُّه، بعشق مستحيل، تصدّه المسيحية الأرثوذكسية، التي يدين بها السودانيون من أصول قبطية.
حكاية مصرايم وكوش
في القرن الرابع ميلادي، سجل التاريخ أول دخول للأقباط إلى السودان، ونشروا المسيحية الأرثوذكسية في دولة النوبة شمالاً. ثم عادوا مرة أخرى، مع الاحتلال التركي المصري للبلاد عام 1821 كموظفين. واستمر منذ ذلك الوقت وجودهم في السودان. إلا أن تدفقهم بأعداد كبيرة بدأ بعد انهيار دولة المهدية 1885 - 1898 أي تزامناً مع بدء الاحتلال الإنجليزي - المصري للسودان (1898- 1955).
يقول الأب فيلوثاوس فرج في كتابه "أقباط السودان": "في ما يربط بين مصر والسودان، أنه جاء في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، أن إبني حام ابن آدم، وهما (مصرايم) أبو المصريين، الذي نسب إليه القطر المصري، و(كوش) أبو الكوشيين، وهم سلالة السودان الشمالي، وهذا يعني أن مصرايم وكوش أخوان من دم واحد".
يعد السودانيون من أصول قبطية، من مؤسسي الحياة المدنية في السودان، بل يمكن القول إنهم من مؤسسي السودان الحديث. فهم بناة غالبية مرافق الحياة الحديثة، بعدما أدخلوا روح الحياة العصرية إليه، إذ عمل الأقباط في المصالح والإدارات الحكومية، كالبريد والبرق والتلغراف والسكة الحديد والإدارات المالية والحسابية، والأشغال والزراعة والغابات والقضاء، وانتُدب بعضهم للبحوث والاستكشاف حول ربوع السودان. كذلك نشطوا في الأعمال الخاصة والحرفية، فهم أول من أدخل الترزية الحديثة، وصالونات الحلاقة بالمعنى الحديث، والصناعات الخفيفة كالنسيج، إذ وطنوا صناعة المنسوجات وغيرها في الداخل.
إن الأقباط موجودون في معظم مدن السودان الرئيسية، وأكبر تجمع لهم كان في مدينة عطبرة شمالاً، حيث كانوا يعملون في السكة الحديد والتلغراف والتجارة. كما يوجد تجمع كبير آخر في أم درمان، غربي العاصمة الخرطوم.
لعب الأقباط دوراً سياسياً وثقافياً واجتماعياً وتعليمياً في تاريخ السودان الحديث، إذ أنشأوا أول مدرسة أهلية للبنات عام 1902، ثم المكتبة القبطية في 1908، وهي حافلة بأهم الكتب التاريخية، والمخطوطات، وكانت تقام فيها المسرحيات والندوات. كذلك الكلية القبطية للبنات 1924 والكلية القبطية للأولاد 1919، كما أن أول امرأة تدخل إلى كلية غردون التذكارية، "جامعة الخرطوم" حالياً، كانت من الأقباط، وتدعى آنجيل إسحق، كما يذكر ذلك القص فيلوثاوس فرج، في كتابه أقباط السودان. فضلاً عن إسهامهم في تأسيس ناديي المريخ والهلال الرياضيين، ومجمل مؤسسات المجتمع المدني، والحركات التحررية التي انخرطت في نضال ضد الاحتلال البريطاني للسودان.
كاتدرائية السيدة العذراء في الخرطوم
ومن أبرز الشخصيات القبطية التي أثرت في الساحة الثقافية، جورج مشرقي، الذي كان محله لبيع عصير الليمون منتدى ثقافياً، في أم درمان، وكان يرتاده الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، حين كانا ضابطين يخدمان في السودان، بالإضافة إلى مجموعة من الأدباء والفنانين مثل إبراهيم الكاشف وعثمان الشفيع.
يقول لرصيف22 القس بولس فؤاد (65 سنة)، كاهن في كاتدرائية السيدة العذراء في الخرطوم، أقدم كنيسة للأقباط تم بناؤها في السودان في الفترة الحديثة، إنه بدأ العمل فيها عام 1904 إلى أن افتتحها البابا كيرلس الخامس عام 1909. ويضيف أن تعاليمهم الدينية، تحضهم على مفارقة الشر أياً يكن، لذا فإن الأقباط دائماً يفضلون العيش في سلام ومحبة.
سياسياً أعلى منصب تبوأه الأقباط هو منصب وزير، وقد نالوه مرتين فقط إذ حصل وديع حبشي على وزارة الزراعة، وموريس سدرة على وزارة الصحة، في عهد الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري. علماً أن الأقباط هم الأكثر تعليماً بين السودانيين، ولديهم كفاءات في شتى المجالات. وخاضوا مع بقية المواطنين العمل السياسي ضد الاستعمار البريطاني، وانخرط بعض أبنائهم في أحزاب الأمة والاتحادي والشيوعي.
يقول القس بولس فؤاد: "يشعر الأقباط بهويتهم السودانية المميزة"، ويشير إلى أنه لا يشعر بأي غضاضة أن ينام في منزل جيرانه المسلمين، من دون أدنى خوف، إذ كان يتم تقدير الأقباط وإسهاماتهم في الحياة السودانية، من قبل المجتمع السوداني، وكانت قيم التعايش مرتفعة.
ورغم تبدل المجتمع بسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية، فعقب هجرتهم الكبيرة في السنوات الأولى لعقد التسعينات، صاحب ذلك خروج عشرات الآلاف أيضاً من السودانيين الآخرين، الذين كانوا يعرفون تاريخ الأقباط حق المعرفة، وتعايشوا معهم بسلام، بحسب القس بولس فؤاد.
تاريخ من التعايش عصفت به التقلبات السياسية
ومنذ أن أعلن الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية عام 1983، أصاب التخريب بنية الحياة المدنية السلمية المبنية على التعايش بين الثقافات والأعراق والديانات. وأتمّ هذا الشرخ بين السودانيين خلال حكم عمر البشير، الذي لا يعترف بالتعددية. إذ أعلن مراراً أن السودان دولة عربية مسلمة، متجاهلاً الأديان والثقافات غير العربية والإسلامية.
ويقول الصّحافي السوداني، والمهتم بقضايا الأقليات، عادل كلر لرصيف22: "الأقباط مكوِّن أصيل في النسيج الاجتماعي السوداني، ويجب الحفاظ عليه وإزالة القوانين التمييزية والصادمة للمواطنة، وقانون حظر نشاط الإرساليات، الذي أصدره الرئيس الراحل الجنرال إبراهيم عبودعام 1963، والتأميم الذي بموجبه صودرت ممتلكات للأقباط عام 1970".
ويشدد كيلر على إزالة التعارض بين القوانين السارية ووثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي للسودان 2005، التي تكفل حرية التدين والمعتقد، ويطالب بإلغاء الأحادية والشمولية في مؤسسات الدولة المختلفة.
ويرى القس بولس فؤاد أن تخصيص ساعة واحدة فقط أسبوعياً للأقباط على القناة الأرضية للتلفزيون، ربما لا يساعد على ترسيخ روح التعايش ومشاركة الحياة بالصورة المرجوَّة.
ويلفت كلر إلى أن "الوضع الحالي في السودان لا يساعد ولا يعزز أي منظور حقوقي للأفراد أو المجموعات الدينية، لأن سيطرة تيارات التشدد تحول دون استيعاب الآخر المسيحي". ويذكر أنه بعد انفصال جنوب السودان، في 9 يوليو 2011، مُنعت طوائف مسيحية عدة من إقامة بعض الاحتفالات الدينية، من بينها طقس الخروج بشكل جماعي عشية الاحتفال بأعياد الميلاد".
وفي تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2014 السنوي عن حرية التدين والمعتقد، حل السودان ثالث أسوأ دولة من حيث الحريات الدينية.
وأضاف كلر أن تآكل الطبقة الوسطى وتذويبها وبترها، عناصر قللت كلها من شكل التعايش، وأن نظام التعليم السيئ خلق انفصالاً بين طائفة الأقباط والسودانيين الآخرين، مقارنة بأزمنة كانت حافلة بالتعايش والتماسك المجتمعي.
ويقدر الأب فيلوثاوس فرج، عدد السودانيين الأقباط بنحو 3 ملايين، وهم الذين يعيشون في السودان وفي دول المهجر. بينما يقدرهم آخرون، بمئات الآلاف. ويقول القس بولس فؤاد إنهم يعملون على إعادة إحصاء الأقباط، لأغراض اجتماعية. ويضيف أن سلطات السجل المدني السودانية وضعت أخيراً، الأقباط كقبيلة سودانية، أسوة بالسودانيين الآخرين، رغم أن شرط ملء خانة القبيلة عند استخراج الرقم الوطني أو الجنسية السودانية، يرفضه قطاع واسع من المثقفين والسياسيين السودانيين.
رصيف 22