علي ابو الخير
كتلك الأزمات الثقافية التي تحدث بين الحين والآخر، في الأوساط الجامعية والثقافية المصرية، جاءت أزمة دينية وثقافية وتربوية جديدة، متزامنة مع الأول من أيار|مايو 2018، حدثت مؤخراً في مصر، وتحديداً في جامعة دمنهور، حيث قام أحد أعضاء التدريس في الجامعة وبعض كتّاب بنقد كتاب مقرّر على طلاب الفرقة الثالثة في كلية التربية جامعة دمنهور، الكتاب عنوانه "دراسات في تاريخ العرب المعاصر" تأليف كل من الأستاذين، الدكتور عبداللطيف الصباغ، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في كلية الآداب، جامعة بنها، والدكتور أحمد محمود رشوان، مدرّس التاريخ الحديث والمعاصر، في جامعة دمنهور، وقاموا بالإبلاغ واتهام المؤلّفين بسبّ الشيخ المشهور الراحل محمّد متولي الشعراوي، ووصف الكتاب الشيخ بأنه دجّال، وهو ما رآه رئيس جامعة دمنهور الدكتور عبيد صالح سباً وقذفاً في حق الشيخ الشعراوي.
وقال:" رفض الهجوم على الشيخ الشعراوي، لما يمثله من قيمة كبيرة ليس لدى المصريين فقط، وإنما عند كل المسلمين في كل مكان في العالم"، وتم تحويل المؤلّفين إلى التحقيق، وانتقل الأمر إلى وسائل الإعلام، ومع احترامنا الكامل للشيخ الراحل محمّد الشعراوي، وأيضاً للداعية الإسلامي عمرو خالد، إلا أنهما ليسا معصومين، فهما بشر يخطئ ويصيب، ومن قبل اتهم كاتبان مشهوران، هما الأستاذ توفيق الحكيم، والدكتور يوسف إدريس، ودافع عنهما رمز وكاتب معروف هو الدكتور زكي نجيب محمود، فقد اتهم الأولان الشيخ الشعراوي نفسه بأنه دجّال، لأنه اتهمهم في دينهم وإيمانهم، وطلب مناظرتهم "لإخراسهم"، وهي الكلمة التي جعلتهما يقولان عنه بأنه دجّال، وهو نفس الاتهام في الكتاب الأخير، ولم يقودهما أحد للتحقيق، ولكن الأمر زاد عن حده فانتقل إلى ضده، لأن محاكمة الكلمة أخطر من الكلمة ذاتها، والعصمة لا تكون للبشر العاديين، فما بالنا بمن ينتقد عمرو خالد، وهو بالنسبة للشعراوي رمز ضئيل، ولكنه جاء مع الشعراوي عرضاً.
على أية حال، عندما راجعنا الكتاب، تبين أنه ينتقد بشدة الفكر الوهّابي السعودي، محمّلين إيّاه مأساة المسلمين في العصر الحديث، يقول الكتاب في النص المثير للجدل: "مع حرب تشرين أول/أكتوبر 1973، والثورة النفطية التي نتجت منها، تأكدت السيطرة السعودية على المنطقة، وتأكد معها سيطرة تيار الإسلام السياسي السعودي الوهّابي، وجماعة الإخوان المسلمين، التي ظلت ترعاها بقوة حتى غزو العراق للكويت سنة 1990، حين بدأت السعودية في خلق أذرع بديلة في العالم العربي، بعد أن خذلها الإخوان، بانحيازهم لصدّام حسين في حربه ضد الأميركيين، ورغم أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، وهي بلد نفطي آخر قد أعطى قوة دفع كبيرة لتيار الإسلام السياسي، فقد ظلت السعودية هي مفتاح السر، وكانت السعودية وليست إيران هي التي قدمت التسهيلات والمال والسلاح إلى الشباب العربي، الذي ذهب للجهاد ضد السوفيات في أفغانستان بعد غزوهم سنة 1979، حيث تزاوج الوهّابيون بالإخوان في حياتها الموحشة، وأنجبا شيطان القاعدة، الذي جاء من نسله كل التنظيمات الإرهابية، التي تنشر الموت والدمار في المنطقة اليوم وبدأ تأثيرها المدمّر يصل حتى إلى راعيها الأساسي، المملكة العربية السعودية نفسها..
ولم يكن في مقدور حسني مبارك الذي خلف أنور السادات أن يغيّر من هذه الحقائق الجديدة على الأرض، هذا على فرض أنه كان مدركاً لها بكل تعقيداتها الحضارية، فرغم أنه قد بدأ عصره بداية طيبة، واستطاع تهدئة الموقف داخل مصر بعد اغتيال أنور السادات، كما استطاع الحفاظ على اتفاقية السلام مع إسرائيل.
في نفس الوقت الذي أعاد فيه العلاقات الطبيعية مع العالم العربي، الذي كان قد ناصب مصر العداء بسبب السلام مع إسرائيل، واستطاع إعادة مقر الجامعة العربية إلى مصر مستغلاً ظروف الحروب الخليجية، إلا أنه في معركته مع تيار الإسلام السياسي المتصاعدة ومع الهيمنة السعودية على مقدرات المنطقة، لم يكن يملك سوى البندقية، لا مشروع حضاري ناصري، ولا حتى مناورات سياسية ساداتية، بل فقط البندقية، وعلى العكس من المرجو تماماً، فقد شهد عهده أكبر حركة نزوح للمصريين إلى المملكة العربية السعودية، بسبب تناقص فرص العمل بعد التدمير العشوائي للقطاع العام، أكبر منجزات العصر الناصري، وأكبر قاعدة اقتصادية في مصر بدلاً من تحديثه أو توفير استثمارات رأسمالية بديلة، أولاً ليعودوا بلحية وجلباب وأفكار متخلّفة معادية للحضارة والإنسانية، كما شهد عهده أيضاً ظهور أكبر دجّالين في تاريخ مصر الحديث، وهما الشيخ محمّد متولي الشعراوي والداعية عمرو خالد، اللذان عملا بكل قوة، عن قصد أو بغير قصد في تغذية روح الهوَس الديني لدى الشعب المصري، وتدعيم تيار الإسلام السياسي، وهكذا سيطر الإسلام السياسي، وامتد حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وتحوّل كثير من دول العالم إلى الديمقراطية، فقد ظلت مصر بعيدة كل البُعد عن كل تلك المؤثرات الدولية، بحكم تيار الإسلام السياسي، أنيابه عليها كالثعبان القاتل، ورغم الإجراءات القمعية الشديدة التي اتخذها حسني مبارك ضد جماعات العنف الإسلامية بداية التسعينات، فقد شهدت مدينة الأقصر سنة 1997 مذبحة كبرى لمجموعة كبيرة من السائحين.....".
هذا هو نصّ ما جاء في الكتاب، أما باقي الكتاب فهو نقد للفكر العروبي والاستبداد السياسي، وهو ينحاز للفكر الليبرالي، وقد تناسى عميد الكلية ورئيس الجامعة، هذا الإسهام الجيّد في تأصيل مشكلة العرب الحديثة، وتحميل المملكة العربية السعودية نشر فكر التكفير في كافة بقاع الأرض، وهو أمر بات معروفا، بل إن وليّ العهد السعودي نفسه قال إن السعودية نشرت الفكر الوهّابي التكفيري بأمر من الحلفاء، ويعني بهم "الدوائر الأميركية والصهيونية"، وكانت الذريعة هي مواجهة الشيوعية، وهو أمر محمود من وليّ العهد السعودي، ولكنه يحمّلها وزر مآسي العرب والمسلمين، ويعرّي الفكر الوهابي الذي يتعامل مع الصهيونية العالمية والاستخبارات الأميركية، فمن المعروف أن السعودية هي التي موّلت وأرسلت وتكلّفت بكل المصروفات لإرسال الشباب العربي لما يقولون عنه جهاد الشيوعيين في أفغانستان، وهو الفكر الذي مات بسببه أكثر من مائتي ألف في الجزائر في التسعينات، وهو الفكر الذي انتشر في مصر وشمال إفريقيا، وفي سوريا وليبيا ونيجيريا وكل بقاع العالم، وهو ما كتبنا عنه قبل ربع قرن، وهو أمر معروف، وعندما يقوم أستاذان أكاديميان بنقد الفكر الوهّابي|السعودي وتعريته أمام الطلّاب، لا يجب أن يحاسبا عليه، بل الأفضل هو عقد حلقة نقاشية وسط طلاب الجامعات، وفي الصحف والفضائيات، بدلاً من التحقيق.
نعلم جيداً أن هذين الأستاذين لن يُحوّلا إلى التحقيق بتهمة سبّ السعودية، لأنه لو حدث، سيشترك فيها كثير من المثقفين والمفكّرين، والخاسِر الوحيد هو المملكة، ولذلك فإن التحقيق بتهمة سبّ الشيخ الشعراوي، أسهل وأيسر، وهو اتهام من ضمن قانون ازدراء الرموز، ولا نعلم مَن هو الرمز، وهو مَن هو الضرورة.
ولكن الأمر المؤكد أن التواصل الإعلامي مع الكتاب الأخير، سيكون له رد فعل أكثر مما لو التزموا الصمت، وهو ما سيحدث حتماً، فمن أراد نشر فكرة، اتهام مؤلّفها، ومَن أراد أن يعتنق الفكرة، فعليه أن يسجن صاحبها، هذا ما حدث وسيظل يحدث...