إسماعيل أيت احماد
في 24 نوفمبر 2018، انعقد المؤتمر التأسيسي لـ"تنسيقية المغاربة المسيحيين" في مقر الكونفدرالية الأمازيغية في العاصمة المغربية الرباط، وانتُخب زهير الدكالي بالإجماع رئيساً.
يقول الدكالي لرصيف22 إنه "بعد تفكير طويل ومشاورات، قررنا الانتقال من ممارسة نشاطنا سراً إلى العلن، ثم المطالبة بحقوقنا وممارسة أنشطتنا كسائر جمعيات المجتمع المدني". ويضيف أنهم أخبروا السلطات عبر البريد المضمون بانعقاد المؤتمر العام التأسيسي الذي حضره العديد من المغاربة الذين تحوّلوا من الإسلام إلى المسيحية وممثلي جمعيات ناشطة في مجال حقوق الإنسان.
لم يحظَ اللقاء بأية تغطية صحافية لعدم دعوة الصحافيين للحضور، ولم يصدر عنه سوى بلاغ مقتضب وزّعه المنظمون على وسائل الإعلام بعد نهاية اللقاء.
ورفض المشاركون التقاط صور لهم ونشرها، ونشر أية معلومات إضافية عن اللقاء، "بسبب خشية بعض الأعضاء من الكشف عن هويتهم وتجنباً لأية ردود أفعال في محيطهم"، بحسب الدكالي.
ويشير الكاتب والحقوقي الأمازيغي أحمد عصيد إلى أن "هذه المبادرة تأتي في سياق مسلسل التحوّلات الكثيرة التي يشهدها المجتمع المغربي منذ إقرار دستور 2011".
ويقول لرصيف22 إن الأقليات التي تعاني من الاضطهاد أصبحت تعبّر عن وجودها سواء عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أو التجمعات، و"من الطبيعي أن تتحوّل مبادرات هذه الأقليات إلى تنظيمات مدنية للمطالبة بحقوقها التي ما زالت موضع تجاهل من طرف الدولة".
شهادات مغاربة تحوّلوا إلى المسيحية
محمد سعيد، 41 سنة، وعضو في أحد مراكز الدراسات والأبحاث، اهتم خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي بالبحث في مسألة الأديان، وصار ينتقد الدين عموماً ولم يعد يؤمن بأي دين. ولكن سنة 2000 قرر اعتناق المسيحية.
يؤكد سعيد أن الأشخاص الذين غيّروا دينهم من الإسلام إلى المسيحية تعرّضوا للاضطهاد والمعاناة بدرجات متفاوتة، حسب المميزات الشخصية للفرد ومستواه الثقافي وقدرته على التحمّل والمواجهة.
ولأنه ذا شخصية قوية، فإن العديد من المقرّبين منه والمحيطين به لا يجرؤون على مضايقته أو انتقاد قناعاته، إلا أنه تعرّض لحادثة خطيرة عندما اعترض مجهولون سبيله بسلاح أبيض في جنح الظلام أمام باب البناية التي يسكنها، وراحوا يصرخون بأعلى أصواتهم وينادونه باسمه ويهدّدونه بالقتل، ولكنه نجا بعد خروج حارس البناية وتدخّل بعض المارة لحمايته. لاذ المعتدون بالفرار، وفتحت أجهزة الأمن تحقيقاً في الحادثة بدون التمكن من توقيفهم.
أما مريم (اسم مستعار)، 22 سنة، فروت لرصيف22 أنها اعتنقت المسيحية منذ حوالي أربع سنوات حينما كانت تتابع دراستها في المرحلة الثانوية في مدينة أغادير.
لم يكن يخطر ببالها من قبل أنها ستتحول يوماً ما من الإسلام إلى المسيحية. ولكن لقاءها بسيدة أجنبية مسيحية تزور المغرب من حين إلى آخر شكّل بداية التحوّل في أفكارها وميولها.
تتحفظ مريم عن الكشف عن هوية صديقتها الأجنبية ومهنتها. أهدتها تلك المرأة نسخة من الإنجيل وتحدثت معها عن تعاليم المسيحية، فاقتنعت بما تلقته منها.
وبحماسة الشباب، وهي لم تتجاوز من العمر 18 سنة، دافعت عن دينها الجديد دفاعاً مستميتاً في مواقف كثيرة، أحدها في الفصل الدراسي في الثانوية.
وبسبب حماستها، واجهت مريم ردود فعل قوية، أبرزها طردها من المدرسة لفترة، بعد دخولها في جدل مع أستاذ مادة التربية الإسلامية حول حرية المعتقد. ترفض الإفصاح عن مزيد من التفاصيل عن هذه الواقعة بسبب خوفها من اكتشاف هويتها ورغبة منها في إخفاء اعتناقها للمسيحية عن محيطها.
يعرف إخوة مريم بتحوّلها إلى المسيحية ويتفهمونها "نظراً لمستواهم التعليمي والثقافي"، بحسب تعبيرها. تشاركهم في نقاشات حول موضوع حرية المعتقد.
ولكن ما زال والداها يجهلان أنها اتخذت لنفسها ديناً غير دينهم. حتى لا ينكشف أمرها، تتظاهر بالصوم في نهار رمضان، وتشارك في جميع المناسبات والأعياد الإسلامية، فيما تؤدي طقوسها المسيحية برفقة مسيحيين مغاربة آخرين في كنائس سرية داخل منازل.
لا تخفي مريم رغبتها في كشف اعتناقها المسيحية للعموم وممارسة طقوسها وإشهار معتقداتها، ولكنها تعتمد أسلوب التدرّج في الخروج إلى العلن، من إعطاء تصريحات لوسائل الإعلام بدون نشر صورها، ثم مصارحة بعض المقربين منها بتحوّلها، بانتظار مجيء الوقت المناسب لإخبار والديها.
"سأبادر يوماً إلى إخبارهم بأنني اعتنقت المسيحية وأعلم أن رد الفعل سيكون صعباً لكنني مستعدة لتحمل العواقب"، تقول لرصيف22.
تجاهل وتوجّس حكومي
تتعاطى الحكومة المغربية بتجاهل وبتوجس أحياناً أخرى مع ظاهرة المغاربة الذين اعتنقوا المسيحية. في الثالث من أبريل 2018، التقى أعضاء منهم بالأمين العام السابق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان محمد الصبار، ووصف مصطفى السوسي اللقاء بأنه إيجابي.
قدّموا له مذكرة مطلبية تتضمّن تمكينهم من الزواج المدني والحق في دفن موتاهم وفق الطقوس المسيحية والحق في تسمية أبنائهم بأسماء مسيحية وضمان الحرية في التعبّد في الكنائس.
وبحسب السوسي، أبلغهم محمد الصبار بأنه ليست لديه عصا سحرية لتحقيق مطالبهم، وبأنه سيعمل على إيصالها إلى الحكومة.
في مختلف المدن المغربية، خاصة الكبرى منها، توجد كنائس رسمية لكل الطوائف المسيحية ولكن يرتادها فقط الأجانب المقيمون في المغرب أو السائحون. يُمنع على المغاربة المسيحيين الدخول إليها بموجب اتفاقات بين الكنائس والسلطات المغربية، وهو ما أكّده الأب دانييل، نائب أسقف كنائس المغرب.
وشرح الأب دانييل أن "تواجد الكنائس الكاثوليكية مبني على اتفاق بينها وبين السلطات المغربية على ألا تقوم الأولى بأي عمل تبشيري من شأنه ‘زعزعة عقيدة المسلمين’".
يدفع هذا الواقع المسيحيين المغاربة إلى ممارسة طقوسهم في كنائس سرية في المنازل بعيداً عن أعين السلطة والمجتمع.
كذلك، يطالب المغاربة المسيحيون بدفن موتاهم وفق عقيدتهم. وتوجد في المغرب مقابر مسيحية غير أنها خاصة بالأجانب ولا يُسمح بدفن المغاربة فيها، ولذلك، يضطر المسيحيون المغاربة إلى دفن موتاهم في مقابر المسلمين.
ويقول مصطفى السوسي: "نرفض دفن الموتى المسيحيين في مقابر المسلمين وفق طقوس لم يكونوا يؤمنون بها في حياتهم".
وروى السوسي أنه بعد وفاة المهدي قصارة، أقدم مسيحي مغربي معاصر، في 30 مايو 2006، في مدينة طنجة شمال المغرب، عن عمر يناهز 96 سنة، اضطرت أسرته إلى نقل جثمانه ودفنه في مدينة سبتة الخاضعة للنفوذ الإسباني، لأنه أوصى قبل وفاته بأن يُدفن في مقبرة مسيحية وفق طقوس عقيدته، ولم يكن ذلك متاحاً بسبب منع السلطات دفنه في مقابر المسيحيين االمخصصة للأجانب فقط.
أيضاً، يشتكي المغاربة المسيحيون من عدم السماح لهم بتسمية مواليدهم بأسماء ذات طابع مسيحي. ويخضع تسجيل أسماء المواليد في المغرب لقانون الحالة المدنية الصادر عن وزارة الداخلية عام 2002 والذي ينص في المادة 21 منه على أن الاسم الشخصي المُختار عند الولادة "يجب أن يكتسي طابعاً مغربياً".
وفسّرت إرشادات وزير الداخلية إلى الولاة والعمال (المحافظين) هذا النص بأنه يجب أن تكون الأسماء متداولة في الوسط المغربي وتعكس خصوصيات المجتمع مثل الأسماء العربية القديمة، وأسماء الله الحسنى المسبوقة بلفظة عبد، والأسماء الأمازيغية، والأسماء المتداولة في المغرب في السنوات الأخيرة والتي يكون نطقها العربي سليماً أو ذات أصل إسلامي، بالإضافة إلى الأسماء العبرية لليهود المغاربة.
ويضطر المسيحيون للزواج وفق قانون الأحوال الشخصية المغربية المستمد من المدهب المالكي، ويطالبون بحقهم في الزواج المدني أو وفق طقوسهم المسيحية.
خطر على المدى البعيد"!
في 17 يونيو 2018، قال وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان المصطفى الرميد المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي والذي يترأس الحكومة، في تصريح لجريدة الصباح إن "موضوع حرية المعتقد لا يشكل تهديداً للدولة في المدى القريب لكن من المؤكد أنه يشكل خطراً على المدى البعيد".
وأضاف أن حرية المعتقد "في الوقت الراهن لا تهم سوى أفراد من المجتمع، أما إذا اتسعت دائرة الأفراد لتصبح جماعات وتضم فئات واسعة داخل المجتمع فإن ذلك يهدد النسيج الوطني لا محالة".
وبعد يومين من الإدلاء بهذا التصريح، اعتبر وزير العدل محمد أوجار، القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار (ليبرالي)، في برنامج حواري بثته القناة الأولى المغربية، أن "لا وجود لأقلية مغربة مسيحية".
ولفت الوزير إلى أن "ممارسة حرية العقيدة فقط للأجانب من الأفارقة والأوروبيين، سواء المقيمين منهم أو الزائرين، وكذلك للأقلية اليهودية"، نافياً أي وجود لمغاربة مسيحيين.
أثارت هذه التصريحات استنكار تنسيقية المغاربة المسيحيين فأصدرت بلاغاً للرأي العام اعتبرت فيه أن كلام الوزيرين يهدد حرية المعتقد ويخالف المواثيق الدولية التي التزم بها المغرب.
مطالبة بالاعتراف القانوني
ينص الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي على معاقبة كل مَن يستعمل وسائل الإغراء بهدف زعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى"، بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من مئتين إلى خمسمئة درهم.
ويطالب المسيحيون المغاربة بإلغاء هذا الفصل، ويعتبره مصطفى السوسي مناقضاً للالتزامات والاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها المغرب في مجال حقوق الإنسان، مطالباً بملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ويؤكد السوسي أن العديد من المغاربة الذين اعتنقوا المسيحية تعرّضوا للمحاكمة وأُدين بعضهم بالسجن النافذ، وتتراوح الأحكام ضدهم بين الإدانة بالسجن والبراءة "حسب الوقائع وتأثير الضغط الإعلامي والمنظمات الحقوقية".
يستند المعارضون للاعتراف القانوني بالمسيحيين المغاربة بما ورد في الفصل الواحد والأربعين من الدستور المغربي: "الملك هو أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، بموجب تفسيرهم أن "إمارة المؤمنين" تعني الهوية الإسلامية للدولة.
لكن المغاربة المسيحيين يعتبرون أن حماية الدين تشمل اليهود والمسيحيين أيضاً مستشهدين بحديث للملك محمد السادس لوسائل إعلام محلية في مدغشقر، في 26 نوفمبر 2016، نفى فيه ما وصفه بـ"الشائعات" حول أن "المشاريع التي أطلقها في مدغشقر لن تعود بالنفع إلا على الطائفة المسلمة"، وقال فيه إن "ملك المغرب هو أمير المؤمنين، والمؤمنون من جميع الديانات، والمغرب لا يقوم بحملة دعوية و لا يسعى قطعاً إلى فرض الإسلام".
"أجندات أجنبية تهدد الهوية"
يعتبر رئيس المركز المغربي لمناهضة التطبيع أحمد ويحمان أن "قضية المسيحيين المغاربة لا تتعلق بحرية المعتقد التي لا يختلف في شأنها اثنان، فمن حق أي مغربي أن يعتقد بأي دين يريده، لكن الأمر هو أن ملف المسيحيين المغاربة، وكذلك المثليين، وكل ما يندرج في إطار الحريات الفردية والأقليات، هو من هندسة جهة معيّنة".
يتهم ويحمان "أجهزة استخبارات أجنبية" بتنفيذ "مخطط"، ويقول لرصيف22 إن "تقرير وزارة الخارجية الأمريكية خلص في إطار الحديث عن الأقلية المسيحية في المغرب إلى أنها تقدر بحوالي ثمانية آلاف شخص، ولكن في حوار مع موقع ‘اليوم 24’، ادّعى منسّق المسيحيين المغاربة أن عددهم ناهز المليون، وهو أمر مثير للضحك وكلها نوايا وأهداف تستهدف وحدة المغرب واستقراره".
وحول تفسيره لارتفاع عدد المسيحيين وخروج بعضهم إلى العلن وتأسيسهم تنسيقية المسيحيين المغاربة وسعيهم إلى انتزاع اعتراف رسمي من الدولة، اعتبر ويحمان أن "الإعلام تناول هذه القضية بكثير من النفخ والتهويل وأعطاها أكثر من حجمها الطبيعي"، داعياً "النخبة السياسية والثقافية" إلى "القيام بدورها في تحسيس الرأي العام بخطورة ما يُحاك ضد الدولة من مخططات".
ورداً على هذه الاتهامات، ينفي رئيس تنسيقية المغاربة المسيحيين أي ارتباط بأجندات أجنبية وأي دعم خارجي ويقول لرصيف22: "من حقنا التمتع بحقوقنا. لا نسعى إلى الفتنة ومَن يسعى إليها هم مَن يضطهدون الأقليات ويحرمون أبناءها من حقوقهم"..
رصيف 22