المسيح بين مطرقة الحكم الديني وسندان النظام السياسي - مقالات
أحدث المقالات

المسيح بين مطرقة الحكم الديني وسندان النظام السياسي

المسيح بين مطرقة الحكم الديني وسندان النظام السياسي

بقلم / القس ايمن لويس

عاش السيد المسيح على الأرض في مجتمع يماثل تمامًا الحالة التي تمر بها المنطقة العربيّة وخاصة مصر، من حيث سطوة وسيطرة رجال الدين، وسلطة سياسيّة الدولة مثل مؤسسات الامبراطوريّة الرومانيّة؟ لا أتذكر أنني قرأتُ في اللغة العربيّة أحدًا انشغل بتناول هذا الموضوع المهم، وكيف كان موقف المسيح في الصراع القائم بين المطالبين بدولة يهوديّة دينيّة والدولة العلمانيّة دولة المؤسسات، غير عالم العهد الجديد الراحل د. القس فهيم عزيز.

هنا يأتي السؤال: ما هي أوجه الشبه والاختلاف بين مجتمعنا اليوم والمجتمع الذي عاش فيه المسيح؟ وكيف كان تعامل المسيح مع فصائل مجتمعه؟

لكي نجيب على هذه التساؤلات علينا أن نعرف الحالة الدينيّة والسياسيّة التي جاء فيها السيد الرب يسوع.

أولًا، الحالة السياسيّة:

لقد ولد المسيح في حقبة زمنية كانت تشهد تغييرًا اجتماعيًا هائلًا. لقد أرسى الإسكندر المقدوني مفهومًا جديدًا لمعنى العمل السياسي مغايرًا تمامًا عمّا فهمه المصريون والأشوريون والفرس ممن سبقوه. امتاز الاسكندر عن جميع من سبقوه من قادة عسكريين، إذ لم يكن يهتم بإقامة امبراطوريّة سياسيّة من خلال قوة عسكريّة فقط، بل اهتم أيضًا بأن يقيم امبراطوريّة تمتاز بنكهة ثقافيّة قويّة، وهذا ما جعل لمملكته وجودًا وتأثيرًا حتى بعد زوال الامبراطوريّة العسكريّة. لقد ربط الاسكندر العالم حينئذ بوحدة ثقافيّة ولغويّة ساهمت كثيرًا في انتشار المسيحيّة، التي جاءت برسالة عامّة متخطيّة كل الحواجز بين الشعوب والألسنة. ثم مات الاسكندر الأكبر تاركًا إرثًا هائلًا تكالب على تقسيمه قادة جيشه حتى وصل الأمر للاقتتال فيما بينهم. ما يهمنا في هذا الصراع التاريخي هو وقوع مصر في قبضة البطالمة، ووقوع سوريا وإيران في يد السلوقيين. أمّا فلسطين فظلت تتأرجح بين البطالمة والسلوقيين الذين تبادلوا السيطرة عليها. ومن المهم أن نعرف أنه خلال الحقبة التي امتلك فيها البطالمة المنطقة اليهوديّة جلب بطليموس أعدادًا كبيرة من اليهود للاسكندريّة حتى أصبحت المدينة يهوديّة الطابع (وإن تحدّث هؤلاء اليهود اللغة اليونانيّة لكننا يجب ألا نغفل ما تركوه من تأثير ثقافي في المجتمع المصري). وبطلب من رئيس مكتبة الاسكندريّة؛ أحد أهم المراكز الثقافيّة في ذلك الزمان، وتحت رعاية بطليموس فلادلفيوس نفسه قام اليهود السكندريون بعمل تاريخي حين ترجموا كتب العهد القديم والكتب التراثيّة (الأبوكريفا) من اللغة العبريّة إلى اليونانيّة فيما يُعرف حتى اليوم باسم الترجمة السبعينيّة التي تتميّز بأعلى صور الدقة. ولا ننسي أن مشروع الاسكندر كان مشروعًا ثقافيًا عُرف بالثقافة الهلينيّة، وسرعان ما نشأ صراع بين اليهود بسبب هذه الثقافة. كانت هناك أغلبيّة يهوديّة متشدّدة متمسّكة بالحفاظ على الديانة والتراث مهما كان الثمن. ووجد بين اليهود قسم آخر صغير يرى أنه لا غضاضة من التآلف مع الثقافة الهلينيّة. ومن هنا بدأ الصراع العنيف والتصادم بين الفريقين. وسرعان ما تحول هذا الصراع إلى قتال بدأه اليهود المتشدِّدون فيما عرف بحركة "المكابيين" وبداية ظهور الجماعات المتطرّفة التي هاجمت أتباع أنطيوخس ابيفانس الروماني وجنوده. هدمت هذه الجماعات المعابد الوثنيّة وحرقتها بالنار تحت قيادة الكاهن متياس، وأطلق عليهم اسم "الحسديم" التي تعني الأتقياء أو المخلصين للناموس. بدأت حركة الحسديم في سوريا ثم أخذت في الانتشار حتى وصلت أورشليم ونجحت في الحصول على استقلال المدينة المقدسة لمدة 80 سنة. بعد ذلك جاء بومباي وأخضع بلاد اليهوديّة لروما العظيمة. وفي سنة 37 ق.م آل حكم البلاد لهيرودس الكبير الذي استمر حكمة حتى سنة 4 ق.م، وهو العام الذي أكدت معظم الأبحاث أن المسيح ولد فيه. وبعد موت هيرودس الكبير انقسمت مملكته بين أبنائه الثلاثة ثم تحوّلت اليهوديّة إلى ولايات تابعة لروما وعُين بيلاطس البنطي واليًا على اليهوديّة والسامرة من ٦م إلى ٤١م، حين صُلب السيد المسيح. وخلال هذه الفترة (٤م إلى ٤١م) حكم والي آخر؛ واسمه هيرودس أنتيباس، كلًا من الجليل وبيريّة، وهو الوالي الذي لقّبه الرب يسوع بالثعلب (لوقا 32:13). وخلال كل هذا الوقت لم تهدأ أبدًا الثورات اليهوديّة والحركات الجهاديّة ضد الرومان (الكفار).

ثانيًا، الحالة الدينيّة:

نتج عن هذه الحياة السياسيّة المختلطة بالنزاع الديني اتجاهاتٌ دينيّة جديدة لفرق يهوديّة أثّرت، بشكل كبير، في الحياة اليهوديّة دينيًا وسياسيًا. هذه الفرق لم يكن لها وجود في العهد القديم ولم نسمع عنها. وأهم هذه الفرق أو الأحزاب التي أصبح لها وزن كبير هي الفريسيون، الصدوقيون و الأسينيون.

١. الفريسيون: أي المنفصلون أو التفسيريون. وهم من حولوا الاهتمام من الهيكل والذبائح إلى الناموس وتفسيره متعهّدين مدرسة عزرا الكاتب. وجماعة الفريسيين اهتمت بالناموس حفظًا ودراسة ونسخًا وتفسيرًا، واحتلوا مكانة كبيرة في الحياة اليهوديّة تفوق مكانة الكهنة. ينتمي الفريسيون المنفصلون إلى جماعة الحسديم التي أصبحت في زمن مجيء المسيح الأغلبيّة اليهوديّة وسيطروا على السنهدرين؛ المجمع الديني اليهودي الأعلى. وبخ المسيح الفريسيين بشدة لأنّهم كانوا مصدر التعليم الروحي المنحرف والمتشدد. ونستطيع أن نقول إنهم يشابهون السلفيين والإخوان في زماننا.

٢. الصدوقيون: وكلمة صدوقي تعني البار أو الصالح، لكن الأكثر دقة أنهم انحدروا من أصل/نسل صادوق الكاهن. وكان الصدوقيون يعتبرون أنفسهم ورثة الكهنوت الشرعيين. ورغم قلة عددهم، مقابل الفريسيين الذين امتلكوا السيطرة على الحياة اليهوديّة، إلا أنهم امتلكوا السلطة والتمثيل السياسي، كما امتلكوا الثراء والغنى الفاحش. ولقد وبّخ المسيح كبرياءهم وفسادهم وفرض سلطتهم على الشعب.

٣. الأسينيون: تعدّدت وجهات النظر في معنى أو أصل تسميتهم بهذا الاسم. لا يوجد أي ذكر للأسينيين في العهد الجديد، ولكن وجودهم مؤكّد بالشهادة التاريخيّة خارج العهد الجديد. ومن أشهر من تحدّث عنهم الفيلسوف السكندري فيلو والمؤرّخ يوسيفوس. من الثابت أنهم نظير الفريسيين كانوا جماعة منشقة عن الحسديم، لكنهم وجدوا أن أسلوب سن الهجمات المباغتة لن يصلح في إعادة الملك لإسرائيل، فانشغلوا بالاستعداد للحرب المقدسة ضد الشر وبليعال بتكوين جيش نظامي سرّي. كان الأسينيون يؤمنون بأن الزواج نجاسة ومعطل عن الحرب المقدسة، ويقال إن يهوذا الاسخريوطي؛ التلميذ الخائن، كان ينتمي لهذه الجماعة وكان يرى أن المسيح هو القائد الذي أعدّه الرب ليقود هذه الحرب المقدسة الكبيرة. ولما اكتشف أن المسيح يسوع ليس هو الشخص الذي راهن عليه (يوحنا ٦:١٥) صُدم صدمة كبيرة فخان سيده خيانة التسليم للموت. وبسبب خيبة أمله باع المسيح بثمن بخس!

من كل هذا، نستطيع ان نستنتج أوجه الشبه بين الزمن الذي نعيش فيه اليوم والزمان الذي جاء فيه السيد المسيح، من جهة الحياة السياسة والحالة الدينيّة:

ففي الحياة الدينيّة، نجد الفرق اليهوديّة المتصارعة التي كفّر كل منها الآخر حيث وصل قادة هذه الجماعات الدينيّة لمرحلة فجّة من الكبرياء والغنى والسطوة والتسلط والتغول في حياة الناس. لقد ابتدع الكهنة ملابس مزركشة غاية في الترف منسوجة بخيوط مذهّبة، وعمائم مرتفعة تنافس تيجان الملوك. كانت قمصانهم وعباءاتهم تُصنع من أغلى الثياب والمنسوجات، وأطالوا أهداب ثيابهم كدليل على العظمة، كما جعلوا من العشور والتقدمات جزية وإتاوات لا تختلف عن ضراب الحكام بينما الأصل في هذه العطايا أنها اختياريّة تعبدية يقدّمها المعطي في الخفاء بحسب أمانته في العلاقة مع الله. لقد أمعن السيد المسيح في وصفهم بأدق العبارات:

" فانهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم، وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس؛ فيعرّضون عصائبهم ويعظّمون أهداب ثيابهم، ويحبّون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع، والتحيّات في الاسواق وأن يدعوهم الناس: سيدي سيدي! ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (متّى 2٣).

أما في السياسة.. فقد كانت القسوة الشديدة أحد ملامح النظام الروماني وكانت القبضة الأمنيّة الحديديّة واستخدام القوة المفرطة في التعامل مع الشعب عادات رومانية أصيلة مورست باعتياد، ولا سيما بسبب التطرف الديني اليهودي الحالم بدولة الخلافة. لقد جاء المسيح من خلفيّة يهوديّة محافظة وسط حياة سياسيّة وثنيّة. ومن هنا لا يمكن أن نفصل المسيحيّة عن اليهوديّة، ولا يمكن التغاضي عن التيار الثقافي الضخم للفلسفة الهلينيّة التي سادت العالم كله في تلك الحقبة. المدهش والعجيب أن رسالة المسيح ودعوته جاءتا باتجاه جديد تمامًا لم تعرفه اليهوديّة ولا الهلينيّة من قبل. وما نجده فيهما من ملامح يهوديّة أو هلينيّة ليس له علاقة بصُلب أو جوهر المسيحية، وليس له صلة بكل ما قاله السيد المسيح وجاء به. لقد جاء المسيح غير منحاز لأي من الأطراف المتصارعة، فقد كان ثائرًا معترضًا على الوضع والحالة الدينيّة من جهة جوهر التعليم. كان متعاطفًا مع عامة الشعب البسطاء المضلَّلين، ورافضًا للظلم الاجتماعي وديكتاتوريّة الحكام الرومان وفسادهم، ومعترضًا بوضوح على الأوضاع الخاطئة فنراه يرسل لهيرودس أنتيباس قائلًا: "امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" (لوقا 23:13). لم ينتمِ المسيح للمؤسّسة الدينيّة حتى يتمكن من صنع ثورة إصلاح. ولم يزج بنفسه حتى يستطيع أن يقتحم المعترك السياسي. أتى المسيح بتيار وفكر ورسالة جديدة جدًا ومتميّزة للغاية.

جاء المسيح بمفهوم الملكوت؛ "ملكوت الله". ليس الملكوت طقسًا دينيًا ولا نظامًا سياسيًا. لم يرد أن يصنع مؤسسة دينيّة ولا دولة بالمفهوم السياسي، بل جعل قضيته واهتمامه ورسالته لتسديد احتياج الانسان الفرد، وهذا الاحتياج لا يُسدّد إلا بالتغيير الكامل والشامل، روحيًا ونفسيًا وجسديًا. وهذه رسالتنا ككنيسة، وهذا ما يجب علينا أن نبشر به: "الذي ننادي به منذرين كل إنسان، ومعلّمين كل إنسان، بكل حكمة، لكي نُحضر كل إنسان كاملًا في المسيح يسوع" (كولوسي 28:1).

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*