فانكوفر - نبيل جميل سليمان
إن أخطر عدو يهدد كيان المسيحية بالإنحلال اليوم هو اهتمام "الكارزون" في الكنيسة بموضوع آخر غير "خطيئة الإنسان". فالرب يسوع جاء ليرفعها -وقد رفعها على "صليب الخلاص" فداءً لنا- لأن في رفعها عودة إلى الله وعودة إلى سعادته الروحية الحقّة. من هذا يظهر بإن الإنسان إن لم يقّر بخطيئته لا ينال الخلاص، وعبثًا يحاول أن يتلاقى مع المسيح إلا من هذا الباب. وعبثًا يحاول "الكارزون" إن لم يشعروا في قلوبهم بأنهم "أول الخطأة".
فالمسيح ليس ملكًا كسائر الملوك، بل هو ملك المحبة والتواضع والسلام والفداء. لذا استبدل حصان الملوك بجحش، والسلطان بالخدمة، والهيمنة ببذل الذات حتى الموت على الصليب، فداءً للجنس البشري الذي يشكّل مملكته الجديدة، المتمثّلة بـ"الكنيسة" التي هي بداية ملكوت المسيح على الأرض، وتكتمل في مجد السماء. فكنيستنا اليوم فقدت "المفتاح الكبير" الذي سلّمه الرب لها لتفتح به ملكوت السماوات للخطأة. ضاع المفتاح الكبير عندما انشغلت الكنيسة بأموال الدنيا وأملاك العالم -لا يستطيع الإنسان أن يعبد ربَّين ولا أن يخدم سيدين- وتلاهت عن خلاص الخطأة. فالمسيحية موضوعها هو "الإنسان الخاطئ"، وهدفها هو "ملكوت الله"، ووسيلتها هي "المناداة بالتوبة".
يسوع ملك السلام وأخلاقية السلطة السياسية
ظهرت ملوكية يسوع على الأرض في تعليمه الذي شمل إعلان إنجيل "بشرى الخلاص"، ومصالحة الناس مع الله، والمبادئ الأخلاقية والسياسية السامية للعيش في مجتمع يسوده الحب والسلام. ونرى في تعليم يسوع "فلسفة سياسية" عملية تفيد المؤمنين في إدارة شؤونهم، وشؤون مجتمعهم الأرضي. فعندما قال له المجد: "أنا ما جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، بل لأكملها" (متى 5: 17). وهنا يكون كل ما سبق وكُتب في أسفار العهد القديم هو من صلب فكر المسيح السياسي كما الروحي. فهو "المشترع ومعطي القوانين" الذي بشّر به الأنبياء. وهو واضع الشريعة الطبيعية الأخلاقية وقد طبعها في الطبيعة البشرية، وعليها تتأسس القوانين الوضعية اللاحقة. لقد زرعها في ضمير الناس وأعطاهم الشرائع الحسنة ليعيشوا بموجبها، كما تنبّأ به النبي آشعيا: "هوذا قد جعلته مشترعًا ورئيسًا وموصيًا للشعوب" (أشعيا 55: 4).
فملوكية يسوع مبنية على الشريعة القديمة الأساسية التي لم تطبّق أبدًا، فأعاد إحياءها: وهي "محبة الله بكل القلب والنفس والفكر والقدرة، ومحبة القريب كمحبة الذات". "وما من وصية أعظم من هاتين الوصيتين" (مرقس 12: 29-31). وعلى أساسها أعطى "دستور" مملكته الجديدة المعروف بـ"إنجيل التطويبات" (متى 5: 1-12) وما تبعه من تعليم يفوق ويكمّل كل قديم، كما في الفصول 5 و6 و7 من إنجيل متى.
ولكن مع كل ما فعله يسوع، كانت نظرة الشعب -بما فيهم تلاميذ المسيح- مختلفة. لأنهم كانوا ينتظرون منه أن يأتي بتعليم ونضال سياسي علني يقودهم إلى التحرر من نير الرومان وحكامهم. فالشعب كان يرجو مسيحًا يقود ثورة تحرير وطني، ليكون ملكًا، ومن ثم لتكون لهم "أدوار" في مملكته المنتظرة. لذا سرعان ما بدأت المؤامرة على قتله، بسبب خيبة أمل الشعب وانتظاراته -كما هو حال شعبنا اليوم- والتي شرعت في يوم "أحد الشعانين" تحديدًا.
أما هو (الرب يسوع) فقد "خذلهم" نوعًا ما، لأنه لم يأتِ كمحرّر وطني، ولا ليؤسس مملكة سياسية أرضية. بل جاء ليتمم مشروعًا خلاصيًا يحتاج إليه جميع البشر. فقد "جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو 19: 10). وبذلك يعمل على تغيير العالم، إنما بطرق مختلفة عن تلك التي يعتمدها المناضلون السياسيون وأيديولوجياتهم السياسية المعاصرة والتي تعمل لتحقيق منافع ذاتية تخدم مصالح "الإستعمار الجديد" أولاً، ومن ثم تعمل على تغيير المجتمع وظروف الإنسان الحياتية والشخصية والفكرية بمقتضيات تلك المنافع والمصالح ثانيًا.
بعكس ما يعتمده المسيح والكنيسة من "خطة" تغيير الإنسان "من الداخل" ليصير قادرًا على إصلاح نفسه ومن ثم مجتمعه، وجعل ظروفه أفضل وأكثر إنسانية. هذه هي فلسفة المسيح السياسية التي تعتمدها الكنيسة بكل نشاطاتها وفي جميع مؤسساتها.
المسيحي اليوم إلى سياسة الكنيسة
قيل إن السياسة والدين لا يمتزجان، ولكن هل هذا صحيح؟ هل يمكن أن تكون لنا نحن المسيحيين وجهات نظر سياسية خارج إعتبارات إيماننا المسيحي؟
هناك حقيقتان بشأن موقفنا كمسيحيين مؤمنين من السياسة:
1- الكنيسة ليست مؤسسة سياسية، ولن تكون أبدًا. فهي لا تنتمي لحزب ولا لبرنامج سياسي، وهي ليست يمينية ولا يسارية.. لأنها ملكوت الله وبرّه وخلاصه في الشعوب.
2- الكنيسة تمثل إرادة الله، وإرادته التي تخترق وتسيطر على كل جوانب الحياة ومنها الشأن السياسي، ولها أولوية على كل شيء وعلى كل إنسان (متى 6 : 33).
فبالرغم من وجود "مفارقة" لكلتا الحقيقتين أعلاه، نجد في ذات الوقت "مقاربة" دون امتزاج أو ذوبان أو انصهار أحداهما في الأخرى. فمع كوننا "أبناء الله" مدعوين دعوة عليا لنعيش بحق وحقيقة لإنجيل المسيح؛ لأننا –شئنا أم أبينا- نشارك اهتمامات هذا العالم فيما يحقق سلامه وخيره وتقدُّمه؛ من دون إنكماش أو تقوقع مضاد، ما دُمنا نحيا هنا على هذه الأرض ونتعاطى مع أمور هذا الزمان؛ على ألا يستعبدنا العالم أو يُلهينا عن رجاء خلاصنا المنتظر.
قد أوصى المسيح له المجد قائلاً: "أعطوا ما لقيصر لقيصر؛ وما لله لله" (مر 12 : 17)؛ موضحًا حتمية الوفاء لمواطنتنا التي لا تتعارض مع تكميل خلاصنا؛ لأن كل ما نفعله إنما نفعله لمجد الله إلهنا. وننطلق بكل إيجابية من رحمته كي لا نفشل، وبطاعة نابعة من خضوعنا لمشيئته ووصيته؛ ومستمدة من رضاه. لذلك فإن مهمة الكنيسة كواقع وكحقيقة "تاريخية" و"آخروية"، تتركز في إعلان "الحقيقة". فالحقيقة ليست واقعًا متساميًا ومجردًا نصل إليه من خلال إنعزالنا عن العالم الأرضي، هي عكس ذلك تمامًا: الحقيقة المسيحية هي مبدأ فاعل، يهدف إلى تغيير حياة المسيحيين في العالم وإلى تقديسها. لأن الرب يسوع أعلن الحقيقة التي "سمعها" من الآب (يوحنا 14 : 6)، ويطلب إلى الآب أن يقدس خاصته "بالحق، لأن كلامه حق" (يوحنا 17 : 17). فالحق الحقيقي وحده الذﻱ يجعل هدف إنخراط المسيحي في مجتمعه، في أن يكون نورًا وملحًا وسفيرًا من دون إنعزال أو إنكماش. فالنظرة إلى يسوع –وإلى من يمثله على الأرض اليوم- هي عين تلك النظرة التي أستقبلت "أورشليم" بحشودها يسوع ملكًا فاتحًا، وهي تنادي "هوشعنا" أي "خلصنا"، كما هو حال "جموع شعبنا المسيحي" التي نادت وتنادي اليوم..! ولكن بعد "ستة أيام" ستصلبه مرذولاً، وهم أنفسهم سيصرخون: "خذه، خذه، أصلبه" (يوحنا 19: 15). فمأساة أورشليم تتكرر كلّ يوم في كلّ أصقاع العالم. كل مدينة هي أورشليم، إذا أبت أن تعرف حقيقة وجوهر المسيح، وكيف تراه في كنيسته التي هي جسده السرّي، وفي وجه كل فقير ونازح ومتألم ومريض ومهجّر وجائع ومظلوم وسجين، وفي وجه كل محتاج ماديًا أو روحيًا، معنويًا أو ثقافيًا.
الكنيسة وحرية المواطن المسيحي
المواطن المسيحي مرتبط أو بالأحرى واقع تحت تأثير سلطتين: روحية مع الكنيسة، وزمنية مع الدولة. وينتج عن ذلك حتمًا من جملة تصرفاته وقراراته فيما يختص بسلطة الدولة لا تقع تحت سلطة الكنيسة. وهذا يؤدي إلى أن حرية المواطن المسيحي مكفولة في التصرف وإبداء الرأي والأشتراك في كل ما يخص الدولة من أمور أقتصادية وأجتماعية وسياسية وأيضاً فيما يخص حريته الشخصية في البقاء في الوطن أو هجره، نتيجة الأزمات المتلاحقة والحروب المستمرة، دون الرجوع إلى الكنيسة ودون أن تكون الكنيسة مسؤولة عن كل تصرفاته.
وبالمقابل للكنيسة حقها في حصانة مؤمنيها ودورها في الإرشاد والصلاة للجميع وخاصة لمن هم في أرض الوطن أولاً. بل ومساعدة -قدر الإمكان- في إيجاد فرص تسفيرهم لمن قرروا ترك الوطن إلى اللارجعة ثانياً. فالكنيسة واجب عليها أن تتفهم وضعهم وتهبهم حرية كاملة... وفي المقابل على المواطنين المسيحيين ألا يجرحوا ضميرهم المسيحي الذي يملّي عليهم مسؤولية "الشهادة" في الإيمان لتاريخ وتراث الآباء والقديسين.
فالمسيحية وكنيستنا المشرقية تئن اليوم من عقدة الاضطهاد -ومن تبعاتها، ومنها محنة الهجرة- كما تئن الأم من أجل أبنائها. ولكن ألا يتعارض ذلك مع إيماننا المسيحي ولا يؤثر على جهادنا الروحي وحياتنا الداخلية، فالرب يسوع أنذرنا بأن الباب إلى الحياة الأبدية ضيق غاية الضيق؛ وكثيرة هي الآيات التي يحدثنا بها الإنجيل في هذا الجانب. فالاضطهاد في المنهج المسيحي حقيقة ضرورية وهي في الواقع شبه حتمية! فمن الذي يستطيع أن يلوم الله؟ ومن يستطيع أن يلوم الكنيسة؟ وهل من حقنا أن نلوم الكنيسة وعلى القائمين عليها لما فرضه واقع التعصب الأليم والطائفية المقيتة في هذه المنطقة الساخنة من العالم وظروفها المآساوية؟
يؤسفنا حقًا أن نقرأ في الكثير من الشبكات الإلكترونية ومختلف مواقع التواصل الأجتماعي والتي تقبع تحت مسميات ودلالات "مسيحية"، بل من أقلام مسيحية –مفتونون بالألاعيب والنجومية، ومختبئون وراء جدران التراشقات المزيفة والمبطنة- من تطاولات بذيئة وإشاعات مغرضة وأحكام مجحفة لرؤوسائنا الكنسيين دون أن يعرفوا حقيقة الأمور. فالإنسان السويّ المتسمك بإيمانه وعقيدته لا يستهتر بقيمه وأخلاقه ويفقد أحترامه بهذه السهولة. فكل من لبس عباءة غير عباءته، لابد وأن يجد ما لا يسرّه!
أيها الرب يسوع، لقد جعلتنا شهودًا للمحبة وللحقيقة، وبناة عدالة وسلام. فتعليمك الروحي والسياسي موجّه إلى الإنسان في أي مجتمع كان، رافعًا مستوى الفكر الإنساني لقبول الآخر، وللمساواة بين الناس، بعيدًا عن التعصب والتمييز العنصري أو الديني أو الإثني. فالكنيسة تصلي وتخدم وتنادﻱ لرفع المظالم والفوارق عن الخليقة كلها، مسامحة الأشرار والخونة والمجرمين والمتطاولين، والذين حرقوا كنائسها وسرقوا ممتلكاتها وذبحوا شعبها وهجّروا أبنائها، معلنة لهم غفران ومسامحة الله، مهتمة بخلاص الإنسان كل الإنسان من أجل حياة أفضل؛ ومن أجل عدم الفشل في غرس وتعليم الأخلاقيات الحسنة لأجل عيش مشترك.