ضياء عودة - إسطنبول
قبل ثماني سنوات كسر تنظيم "داعش" الحدود بين سوريا والعراق، معلنا قيام "خلافته الإسلامية"، وبينما توسّع نفوذه حتى وصل إلى أوجه على عهد "الخليفة الأول"، أبو بكر البغدادي تقلّص بالتدريج بعد خمس سنوات ليصل إلى نقطة الصفر، بعدما سقطت الخلافة في عام 2019 بمنطقة الباغوز السورية.
ويعتبر عام 2019 نقطة فارقة في مسار تنظيم داعش في سوريا والعراق، ويرتبط ذلك بأن الظروف التي تبعت هذا التوقيت شهدت سلسلة من التطورات الجذرية، بدءا من مقتل "البغدادي" على يد القوات الأميركية، ووصولا إلى تحوّل النشاط إلى القتال ضمن ما يصفها الخبراء بـ"استراتيجية الذئاب المنفردة".
وهذه الاستراتيجية كانت قد اتبعت خلال الفترة التي تعاقب فيها على زعامة داعش كل "عبد الله قرداش" (أبو إبراهيم الهاشمي القرشي)، والذي قتل أيضا على يد القوات الأميركية في فبراير 2022، ليحل مكانه "خليفة ثالث" يدعى "أبو الحسن الهاشمي القرشي".
ورغم أنه لا يوجد أي مناطق سيطرة كاملة ومرسومة الحدود والخرائط لـ"داعش" في الوقت الحالي ومنذ سقوط خلافته، إلا أن مقاتليه ما يزالون ينفذون الهجمات، والتي يرى خبراء محليون أنها تتصاعد بالتدريج، وخاصة في سوريا، التي ينتشرون في صحرائها مترامية الأطراف (البادية).
ومنذ بداية الأسبوع الحالي تبنى تنظيم "داعش" عمليتان، الأولى استهدفت "قوات الصناديد" المتحالفة مع "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال وشرق سوريا، بينما الثانية فقد طالت قوات النظام السوري، ما أسفر عن مقتل وجرح 30 عنصرا.
وقبل هذه الحوادث تم تسجيل سلسلة من العمليات، والتي تنوعت ما بين الاستهداف المباشر بالرصاص وتفجير العبوات الناسفة ونصب الكمائن. القسم الأكبر منها حصلت في البادية السورية ومحيطها، وقسم آخر في مناطق سيطرة "قسد" والنظام السوري.
"قبل فوات الأوان"
ودفع الرصد الخاص بتصاعد العمليات، وخاصة في سوريا التي شكّلت بداية ونهاية "خلافة داعش" سياسيين أميركيين للتحذير من "هذا الخطر"، واعتبر السيناتور الأميركي، ليندسي غراهام في مقالة نشرها موقع "فوكس نيوز" أن "صعود داعش في سوريا هو تهديد لأسلوب حياتنا الأميركي".
وطالب غراهام الرئيس الأميركي " جو بايدن والكونغرس بالعمل معا من أجل إيجاد حل في سوريا قبل فوات الأوان".
ويكمن الحل وفق فكرة السيناتور الأميركي بأن يستهدف وبشكل خاص المشكلة التي تلوح في الأفق في شمال وشرق سوريا، والتي تتمثل بمخاوف الأمن القومي المشروعة لتركيا، وما يقابلها من التشكيل العسكري الذي ترى أنقرة فيه تهديدا لها، وهو "قوات سوريا الديمقراطية".
وأضاف غراهام: "التحدي الذي يواجهنا في المضي قدما هو كيف ندعم أولئك الذين ساعدونا في تدمير خلافة داعش دون تقويض الأمن القومي التركي؟ لقد أزعجت هذه المشكلة الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء".
ويستدعي ما سبق "اهتماما عاجلا"، بحسب السيناتور، مشيرا إلى أن "داعش بدأ بالظهور من جديد في شمال شرق سوريا"، وبالتالي فإن المكاسب التي حققتها أميركا لتدمير الخلافة "في خطر".
ويوضح: "يتنامى الصراع بين تركيا، حليفنا في الناتو، والقوات داخل شمال شرق سوريا يومل بعد يوم. حان وقت العمل. ستكون عملية حل هذه المشكلة صعبة، لكن العمل على إيجاد حل أفضل بكثير من تجاهل المشكلة والتعامل مع داعش من جديد".
ماذا وراء نشاط التنظيم؟
وتشير المستجدات الحالية في الميدان الخاص بشمال وشرق سوريا إلى أنه لا توجد أي بوادر للحل المشترك بين تركيا و"قسد"، وعلى العكس هناك لهجة تصعيد من جانب الأولى لشن عملية عسكرية في أقرب وقت.
وتعتبر أنقرة "وحدات حماية الشعب" التي يشكل قواتها الجزء الأكبر من "قسد" امتدادا لـ"حزب العمال الكردستاني"، المصنف على قوائم الإرهاب الدولية.
في المقابل تعتبر "قسد" الحليف الأبرز للولايات المتحدة الأميركية في سوريا، وهي شريكة في العمليات التي يقودها التحالف الدولي لـ"محاربة تنظيم داعش"، منذ عام 2014.
الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، حسن أبو هنية يرى بأن تصاعد هجمات داعش في سوريا والعراق بات أمرا واضحا، وهو ما تشير إليه الإحصائيات والأرقام.
وتحدث أبو هنية لموقع "الحرة" أن الفترة الأخيرة شهدت سلسلة من "العمليات المركزة"، في تطور للتكتيكات الأخيرة "الرخيصة وغير المعقدة والمكلفة".
ويعتبر هجوم "سجن الصناعة" (غويران) في محافظة الحسكة أبرز وأحد أكبر الهجمات التي نفذها تنظيم داعش منذ سقوط خلافته، عقب معركة الباغوز في ريف محافظة دير الزور.
ويقول الباحث: "المؤشرات في الوقت الحالي تشير إلى تصاعد الهجمات. ربما بنسبة 300 بالمئة".
وهناك عدة أسباب تقف وراء هذا التصاعد، ويحددها أبو هنية شارحا أن "داعش له خبرة منذ عام 2003، وعلى الرغم من أنه تراجع إلا أنه عاد، وذلك ما يرتبط بالخبرة والهيكلية المتماسكة".
ويضيف: "التنظيمات التي لها تقليد وتراث وخبرة واسعة من الصعب القضاء عليها. قد تضعف لكن لن تنته، وخصوصا في المقاربة الأمنية التي اعتمد عليها التحالف والحلفاء".
وبعد عام 2019 كان داعش قد تحوّل إلى ما يعرف بـ"حرب العصابات"، وحاول الحفاظ على وجوده من خلال "عدة تكتيكات".
وحتى الآن لا يوجد تقديرات واضحة عن عدد مقاتليه، سواء في سوريا أو العراق، ونوعية السلاح الذي يحملونه أو حتى التمويل الذي يتلقونه من أجل إبقاء النشاط قائما.
ويرى أبو هنية أيضا أن تراجع عمليات التحالف وقلة عدد القوات يعتبر سببا وراء تصاعد داعش، إضافة إلى "توجه الاهتمام الأميركي إلى مواجهة الصين وروسيا، والانشغال بالحرب الروسية على أوكرانيا".
وهناك أسباب موضوعية تتعلق بأن "القوات المحلية لا يمكن الاعتماد عليها على الأرض، سواء قوات سوريا الديمقراطية التي فشلت في تأمين سجن غويران، أو حتى النظام السوري وروسيا، اللذان أطلقا سلسلة عمليات عسكرية للقضاء على داعش منذ 2018 لكنهما لم يحصلّا أي نتائج".
ويشير الباحث إلى أسباب أخرى "سياسية واقتصادية واجتماعية"، موضحا: "الأمور الثلاثة لم يحل منها شيء في سوريا والعراق، وبالتالي تشكّل أسبابا في التمرد الجهادي".
"التضييق ولا ملجأ"
في غضون ذلك ورغم التصاعد في هجمات داعش، إلا أنه شهد خلال الفترة الأخيرة سلسلة عمليات استهدفت قادة منه، سواء في داخل الحدود أو خارجها.
في السادس عشر من يونيو الحالي أعلن التحالف الدولي لمحاربة داعش اعتقال "قيادي بارز" في داعش خلال عملية أمنية في سوريا، وقال إنه "كان خبيرا في صناعة القنابل وأحد أبرز قيادي التنظيم في سوريا".
وأضاف أن "العملية تمت من دون تضرر أو إصابة أي مدني، كما لم يتم تسجيل أي خسائر في صفوف التحالف".
ويعتبر الباحث في شؤون الجماعات المتشددة محمد صفر أن أحد أسباب النشاط الرئيسي لداعش في سوريا والعراق حاليا "هو استهداف القيادات والتضييق".
ويتابع في حديث لموقع "الحرة": "عندما يتم التضييق فهو يلجأ إلى المخالب من أجل إلحاق أكبر ضرر، ولتشتيت الانتباه قبل تنفيذ أي عمليات".
"عمليات التحالف الأخيرة والاعتقالات تدفع خلايا ومجموعات داعش بحكم أنها تنفرد عن قيادتها إلى اعتماد سياسية الذئاب المنفردة من أجل التشتيت".
ويضيف صفر: "قد نشهد المزيد (من العمليات). خاصة أن أوامر التنفيذ ستكون بيد المجموعات الميدانية والقيادات الميدانية على الأرض".
لكنه وفي ذات الوقت لا يتوقع "تشكيل مجموعات جديدة منشقة، لأن الظروف لا تسمح"، متحدثا عن توقعات بـ"عمليات إعادة هيكلة، في ظل غياب القيادات وتضييق الخناق، وربما العودة لمستوى مجموعات منفردة مكونة من أعداد صغيرة جدا، وشن عمليات وفق المحدود".
"أسباب ظرفية"
وبعد مقتل "القرشي" وبينما اتفقت الآراء أن الضربة تعتبر "قاسمة بالنسبة لداعش"، أكدت في منحى آخر أن خطر نشاطه قد يتواصل في المرحلة المقبلة، لاسيما أن معظم الهجمات تتم بناء على قرارات "لا مركزية"، أي كل مجموعة على حدى.
وحذر وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، فلاديمير فورونكوف، في فبراير 2022 من عودة داعش في سوريا والعراق وأفغانستان، بقوله: "لا تزال القاعدة وداعش والجماعات المنتسبة لهما تعتبر تهديدات خطيرة، فيما تتزايد الهجمات الإرهابية القائمة على كراهية الأجانب والعنصرية والتعصب".
وأضاف أن "الفروع الإقليمية لتنظيم داعش خارج سوريا والعراق استمرت في التوسع على نطاق وسرعة مقلقين، بفضل انتشار الأسلحة التقليدية وغيرها، لا سيما في أماكن الصراع الهشة".
ويوضح الباحث في "مركز الشرق للدرسات"، سعد الشارع أن نشاط داعش يمكن وصفه بأنه "متقدم، منذ أن خسر آخر معاركه الحضرية في الباغوز".
وبعد تلك الفترة قبل 3 سنوات انتقل عمله إلى نشاط العصابات، بينما تغلغل في عمق البادية، سواء بادية شرق الفرات التي تمتد من جنوب الحسكة وتصل نهر الفرات وتحاذي الحدود السورية العراقية، أو البادية السورية التي تتصل مع بادية الأنبار العراقية.
ويقول الشارع لموقع "الحرة": "كما هو معروف التنظيم هو صاحب الكعب العالي في البادية"، وأن الأسباب التي تقف وراء تصاعد نشاطه ترتبط بـ"التموضع الجغرافي من جهة" وأسباب داخلية، حيث أن "قياداته غير معروفة سواء الأمنيين والعسكريين، وبالتالي لديهم القدرة على التحرك بشكل كبير".
وإلى جانب ذلك توجد أسباب مثل "تمكن داعش من تأمين طرق الإمداد له، سواء العسكري أو الطرق الأخرى، من خلال تأسيس شبك علاقات مع بعض الشخصيات المحلية".
من جهته يرى الباحث السوري في "مركز عمران للدراسات الاستراتيجية"، نوار شعبان أن "داعش ورغم تصاعد نشاطه إلا أنه ليس لها القدرة على العودة".
ويقول لموقع "الحرة": "له القدرة على الإزعاج وتشكيل خطر على أي دولة سواء إفريقيا والعراق وسوريا".
"أمريكا تحاول التركيز على خطر داعش المتنقل عبر الحدود، وبالتالي قد تطلق دعما بخصوص ذلك للمخيمات في شمال وشرق سوريا"، مثل مخيم الهول.
ويضم مخيم الهول للنازحين في شمال شرق سوريا ما يقدر بنحو 57000 لاجئ، "كثير منهم من النساء والأطفال المرتبطين بتنظيم الدولة الإسلامية". وأشار السيناتور الأميركي، ليندسي غراهام في مقالته إلى أنه "بمثابة بؤرة لتجنيد داعش".
بدوره اعتبر الباحث السوري، سعد الشارع أن "هناك خشية من بعض المؤسسات الأميركية على وضع الحلفاء الميدانيين التي خصص التنظيم جزء كبير من هجماته ضدها"، في إشارة إلى "قسد".
ويضيف: "لذلك الصيحات الأميركية إن صح التعبير مبرهنة لوجود حلفاء على الأرَض، وأيضا لا يمكن إهمال مسألة وجود قوات أمريكية في ذات المنطقة التي ينشط فيها داعش. سواء في شرق الفرات أو التنف التي تتصل أجزائها الشمالية والشرقية مع منطقة البادية السورية".