محمد سعيد*
إن المرجعيات الفقهية لم تخرج عن مسلمة نجاة المسيح ورفعه حيّا إلى السماء وإن اختلفت حول ملابسات حادثة الصلب وتحديد هوية الشخص المَصلوب، وهذا ما تكلمنا عنه في المقال الأول في ثمانية عناوين مفصلة؛ إذ نلاحظ اتفاقا يوافق الحالة المزاجية العامة في مخالفة المسيحيين حول صلب المسيح، وتأكيد قدرة الله حسب الفهم الإسلامي لحمايته، فالمسيح لا حول له ولا قوة في مواجهة مكائد اليهود أعدائه، لذلك تدخلت إرادة الله فألقى الشبه على غيره ورفعه إلى السماء.
ولعل الاختلاف في التفاصيل يرجع إلى طبيعة التفسير نفسه، فقد انهمك المفسرون بحكم مادة القرآن في استهداف النص رأسيًا من جهة الدلالة اللغوية متجاوزين العلاقات الأفقية للنص مع الوضع الاجتماعي والتاريخي للقرآن، لكنهم حين يعودون للاصطدام بالنص نفسه في مواضع أخرى فإنهم يضطرون إلى إعادة تأويل النصوص بغرض التكييف بينها وبين الواقع.
وقد تم في سبيل ذلك استخدام جميع أدوات التأويل اللغوية والأصولية التي وفرتها المنظومة التقليدية، ومن بينها الناسخ والمنسوخ الذي لا تؤمن به الجماعة الأحمدية الإسلامية، كما استخدمت منهجية التأويل بالرواية بعد أن صارت بحسب الأصول الشافعية نصاً مرجعياً يستطيع محاورة النص القرآني بالتخصيص والتقييد، وهو ما جرى عندما اصطدمت فرضية "عدم صلب المسيح" بالآيتين 33/34 من سورة مريم "وَالسًلامُ عَليً يَوُمَ وُلدتُ ويوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا، ذلكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قوَلَ الحَقَ الذي فيه يَمْثرُونَ" (سورة مريم (33 - 34.
فالنصَ يحدَد بشكل صريح الأطوار التي ستمرَت بها حياة المسيح ابتداء من الميلاد مروراً بالموت، وانتهاء بالبعث في الآخرة مثل سائر البشر. لقد قامت المنظومة الفقهية الأصولية بتوظيف أدوات التأويل باعتبار أن استعمال الماضي في "وُلْدتُ" واستعمال المضارع في "أمُوتُ" و"أبْعث" يتسق مع السياق الفقهي، فإن ميلاده قد حصل سابقاً، وأما موته وبعثه فسيأتيان فيما بَعدُ، وبالتالي يكون قوله "ويوم أمُوت" ليس معناه أنه قد مَات، وإنما معناه أنه عند موته، فصيغة المُضارع تعني الاستقبال في هذا المقام، وذلك بعد نزوله وقتله للدجال كما ورد في الأحاديث، فإنه يسلم من الموت على غير الإيمان بالله، فقد قال "ويوم أبعث حياً"، وليس معناه أنه قد بعث يوم القيامة.
وقال القرطبي (ت 671 ه): "السلام علي، أي السلامة علية من الله تعالى"، قال الزجاج: "ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولا لام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام"، وقوله: "يوم ولدت" يعني في الدنيا، وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في أل عمران، ويوم أموت يعني في القبر، ويوم أبعث حيًا يعني في الآخرة، لأن له أحوالاً ثلاثة: في الدنيا حيًا، وفي القبر ميتًا، وفي الآخرة مبعوثا، فسلم في أحواله كلها.
وبالتالي كان افتراض عودة أخرى للمسيح يحل إشكالين رئيسيين. الأول، تفسير معنى الوفاة الواردة في آيات القرآن، والثاني حسم مسألة رفع المسيح حيًا باعتبارها مسألة مؤقتة، فهو مثل غيره من الأنبياء، ومنهم نبي الإسلام محمد، سوف يموت ويبعث يوم القيامة، فالنزوع إلى تمجيد نبي الإسلام محمد ومكانته بين الأنبياء يقتضي عدم تمييز المسيح وحده دون سائر البشر بعدم الموت، وبالتالي كان الاتفاق على عودته أمراً لا جدال فيه.
نعود إلى ابن كثير الذي يلخَص الاتفاق بين الفقهاء على عودة المسيح شرطاً من شروط الساعة كما رأينا في المقال الأخير (الأول)؛ إذ يقول في تفسيره للآية: "وَإنْ منْ أهْل الكَتاب إلا ليُؤمنَنً به قبْلَ مَوْته ويَوْم َالقيَامَة يَكُونْ عَليُهمْ شَهيدًا" (سورة النساء 159)، فقد اختلف أهل العلم في مرجع الضمير في قوله "موته" على قولين: القول الأول، أنَ الضمير يعود إلى المسيح، وعلى هذا يكون معنى الآية أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بالمسيح، وذلك قبل موته، فإنه إذا نزل من السماء وقتل الدجال وكسر الصليب وقتل الخنزير، ووضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وحينها يؤمن أهل الكتاب به قبل موته، ويعلمُون أنه حقَ، وأنه لم يمت من قبل، فالكلام في الآية عن علامة من علامات الساعة، وشرط من شروط يوم القيامة سيكون بعد نزول المسيح، وأنه قبل أن يموت في ذلك الزمان سيؤمن به أهل الكتاب.
وقد ورد ما يؤيد هذا القول من قول أبي هُرَيْرَةَ بعد روايته للحديث الدال على نزول المسيح في آخر الزمان، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال، قالَ نبي الإسلام: "والذي نَفسي بيَده ليُوشَكنً أنْ يَنْزَلَ فيكُمْ ابْنُ مَريَمَ حَكَمًا عَدلاً فيَكسَر الصًليبَ ويَقتًل الخنْزيرَ ويَضَع الجزْيَة ويَفيضَ المَالُ حَتًى لا يَقبَلهُ أحَد حَتًى تَكُونَ السًجْدةُ الوَاحدةُ خَيْراً منْ الدنْيَا ومَا فيهَا"، ثُمً يَقُولُ أبُو هُريَرْةَ واقرَؤُوا إنْ شئُتمْ: "وَإنْ منْ أهَل الكتَاب إلا ليُؤمنَنً به قبْلَ مَوْته ويَوْمَ القْياَمَة يَكُونُ عَليُهمْ شَهيدا" (سورة النساء 159).
أما القول الثاني، فهو أن مرجع الضمير يعود إلى الكتابي نفسه، وعلى هذا يكون معنى الآية أن ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بالمسيح، وأنه حق، وأنه لم يمت، وذلك عندما يعاين سكرات الموت، ويرى الحقائق والبراهين، فعند موت ذلك الكتابي سيعلم أن ما كان عليه هو الباطل، لكن لا ينفعه ذلك الإيمان حينئذ، وبناءً على القولين السابقين فليس في الآية دليل أو إشارة على موت المسيح، وإنما الكلام في القول الأول على أمر غيبي سيحصل في المستقبل، وهو بلا شك موت المسيح، لكنه بعد نزوله كما سبق.
ويشير القول الثاني إلى أن المراد بقوله "قبل موته"، أي موت الكتابي نفسه، وقد رجح الطبري وابن كثير وغيرهما من أئمة التفسير القول الأول، قال ابن كثير: "وقوله تعالى "وَإنْ منْ أهَل الكتَاب ليؤَمننَ به قَبل مَوتَه ويَوم القيَامَة يكونَ عَليْهُم شَهيداً" (سورة النساء 159)، قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، أي قول القرآن "وإن من أهل الكتاب ليؤمنن به قبل موته"، يعني قبل موت المسيح، يوجه ذلك إلى جميعهم ويصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنفية حسب الأسانيد الإسلامية، أي دين إبراهيم حسب التفسير الأصولي دائماً.
وعن ابن عباس قال: الآية "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، أي قبل موت المسيح، وقال أيضاً: قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعين، وقال إبن جرير: وقال آخرون: يعني بذلك قبل موت صاحب الكتاب، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، وقال ابن عباس: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى، وعن ابن عباس قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله.
وقال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول المسيح إلا آمن به قبل موته، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير في رأي ابن كثير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل المسيح وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة بذلك، فأخبر الله أنه لم يكن كذلك، وإنمَا شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يختلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا فإن قول القرآن "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" يعني قبل موت المسيح الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب (حسب التفسير الإسلامي دائماً)، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً، أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض.
ويأتي التأكيد على قيام المسيح بكسر الصليب إمعانَا في تأكيد ضلال المسيحيين من وجهة النظر الفقهية، ويبدو الحسم الواضح بين البنية التقريرية للنص والبنية التأويلية الواردة بالتفاسير شرطاَ أساسياً في المحافظة على الاتساق العقدي الرامي إلى التفرد والاختلاف مع الآخر، فالأبواب موصدة أمام نقاط التقاطع والاتفاق الجوهرية كلها، وهو ما سعت المنظومة الفقهية إلى التأكيد عليه والترويج له بشكل دائم بهدف ترتيب العلاقات مع الآخر وبناء أسباب قوية تؤكد جدوى الرسالة الجديدة وأهميتها وفقا لرؤية العقلية الفقهية.
وعليه، فإن البُعد الرومانسي لفكرة الله في المسيحية، حيث أصبح تجسيد الله علامة فارقة تغيرت معها الصورة النمطية للإله المتعالي، ولم تكن تتفق مع ميل المؤسسة الفقهية إلى الصعود بالإلوهية مرة أخرى إلى عوالم المفارقة المطلقة، ليصبح المسيح مجرَد رسول من المطلق تمثلت فيه قدراته ليس إلا.
*باحث في مقارنة الأديان عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية