دكتور وجدى ثابت غبريال
الجهل يمنع الفهم وغياب الفهم يمنع الإصلاح فى أيّ شئ
إنَّ ثراء الفكر المسيحى فى فرنسا لم أرَ مثله فى مصر رغم سِعة اطلاعي على ما كُتب ويُكتب في مصر. نحن هنا أمام عُمق آخر ومستوى آخر من المعرفة، ومستوى آخر من الإدراك؛ إدراك المسيح والدّخول معه فى أعماق المياه كما يدعونا. لو أنّنا قرأنا كتاباً لموريس بيليت حول "معنى التجربة والإخلاء" أو "مناجاة فى عُمق المعاناة"، لو حضرنا محاضرة لأحد الأساتذة بكليّة اللاهوت عن "التطويبات" وهو يُحاضر لساعة كاملة للإجابة على السّؤال: "لماذا كُتب عن أنقياء القلب - دون سائر المطوبين- أنّهم يعاينون الله؟" لعرفنا بُعداً جديداً لنقاوة القلب يختلف جذرياً عن السّذاجة والبله الّذي نراه ونسمعه من رجال الدّين عندنا؛ بُعد ينطوى على حكمة واستنارة رُوحيّة.
لو أنّنا رأينا وسمعنا هذا النّوع من التعليم الرّوحىّ لعشنا شيئًا جديداً يغذّى الرّوح والنّفس والعقل والإدراك والضّمير، ولوضحت الرّؤية لدينا عمّا نحن فيه الآن.
إذا قرأنا المجموعة اللاهوتيّة للقديس توما الأكوينى لتعلّمنا منه مفهومه عن العدالة وتعبيرها الوحيد هو القانون.
لو قرأنا كتابات أستاذي الفيلسوف چان مارك تريچو عن المفهوم المسيحي للعدالة فى موقف "لص اليمين" أو فى معنى "الهزيع الأخير"، أو عن "أصحاب السّاعة الحاديّة عشر" أو تعليقاته عن أنتيجون فى تراجيديا سوفوكل الشّهيرة لعرفنا الفرق بين معايير المسيحيّة ومعايير العالم والتجديد الذى حدث فى المفاهيم الفكريّة الإنسانيّة من خلال التقدُّم الرّوحي والفكري الّذي أتت به المسيحيّة.
لو قرأنا صلوات واعترافات چان جاك روسو؛ الفيلسوف السّياسي صاحب نظريّة العقد الاجتماعي، لعرفنا كيف تحوّل قلبُه نحو الإيمان ولأدركنا أنَّ حتى أكبر كُتّاب الفكر السّياسي كان له معرفة بقلب الله جعلته مُستنيراً حتى إنّه هو نفسه الّذي عدَل عن نظريّة العقد الاجتماعي واكتشف قصورها !
لو قرأنا رسائل الحُبّ السّاميّة الّتي تُعبِّر عن وحدانيّة القلب والرّوح والجسد الّتي كتبها الفيلسوف الفرنسي الكاثوليكي چاك ماريتان لزوجته عندما أبعدته ظُروف الحرب عنها لفَهِمنا لماذا التحق بدير الإخوة اليسوعيّين بعد موت زوجته الحبيبة وظلّ به حتى انتقل إليها بعد ثلاث سنوات من فراقها فى سن الثّالثة والسّبعين. ولو قرأنا قصّة الحُبّ الرّقيقة لخجلنا من أنفسنا إذا رأينا الزّواج فى مصر يتوقّف على غسّالة وثلاجة وسجاجيد ولسقطنا من شاهق!
لو أدركنا عُمق فكر "مدينة الله" لأغسطينوس أو كتابات الرّاهب الدّومينيكاني أنطوان مولينيه عن "شجاعة الخوف" و "من يعرف قلب الله"، أو حتى روايات الكاتب المسيحىّ چورج برنانوس الّذي جَسَّد شخص المسيح فى شخصيّات رواياته المصلوبة باستمرار، لعرفنا أنّنا لم ندخل المسيحيّة بعد وأننا مازلنا نعيش فى عهود ما قبل الفلسفة اليونانيّة.
لو دخلنا فى العُمق مع هؤلاء لعرفنا أنّ العبرة فى النّقلة الحضاريّة للمسيحيّة ليست بشهادة فم، وإنّما بعُمق المعرفة وباتجاهات القلب وبتحوُّل الضّمير وبلقاء شخصي مع المسيح يسوع الّذي يفتح لنا قلبه في لقاءنا الشّخصي به. وهنا نكتشف أنّنا لم نفهم أيّ شئ عن المسيحيّة قبل هذا اليوم الفارق فى حياة الإنسان... إنّه يوم يُشبه ذلك اليوم الذى عاشه الرّسُول بولس فى الطّريق إلى دمشق، والقديس أغسطينوس فى حديقة ميلانو... إنّه شئ له ذات القُوّة الّتي تهز كيانك من الدّاخل.
أمّا المنغلقون والمصرّون على الجهل والمقيِّدون لأنفسهم خارج كلّ منافذ الاستنارة فهم لم يدركوا بعد قلب الله...والله لا يُعلن ذاته لمنغلقي القلوب والعقول.
إنَّ المسيحىّ لا يقف متحجِّراً ضد كُلّ إصلاح، ولا يخشى انفتاح العقل ورفعة الإدراك واتّساع الضّمير بدعوى الحفاظ على الايمان! إنّنا لا نتبع وصايا حرفيّة جامدة وإنّما نتبع إلها مُتجسِّداً فتح لنا قلبه، وهذا هو الفرق بين الايمان المسيحي وغيره. وهذا هو السّبب الوحيد الّذي من أجله يدفعني لاعتناق المسيحيّة كفلسفة حياة ونظرة للوجود. إنّنى لا أؤمن بإلهٍ عالٍ فى سماه يعتبرنى عبداً له، فيُعطى الوصايا والفروض ولا يُنفِّذها هو ولم ينزل على الأرض ليعيش ما أعيشه أنا، إله لم يسمع يوماً مُنذ وجوده مقولة "رُوح يا كافر.. تعال يا كافر"، إله ينأى بنفسه من احتمالات البدائيّة والهطل والتفتفة الصّادرة يوميًا من وليد إسماعيل والبرهامى والحوينى ومن لفّ لفَّهم من مضطهدي الإيمان.
لو عرفنا روائع الفكر المسيحي لأصبحنا مسيحيّين ولما أولينا اهتمامًا بصغائر الأمور وبالصّراعات الّتي لا تبنى بقدر ما تُعبِّر عن تخلُّف حاد وفراغ ذهن وجهل. إذا كُنّا نتشدّد فى التصدّى للتفاهات فلأنَّنا -ببساطة- جهلاء، لا نعرف ماذا وراء الشّاطئ الذى نقف عليه ولا نرى حتى المحيط الّذي نُعطيه ظُهورنا !
إذا كُنّا لا نسعى للمعرفة والاستنارة بغذاء من نوع جديد تمامًا فذلك لأنّنا نرفض التغرُّب ونرفض أن نكون أولاد الملك؛ أبناء الملك الّذين لهم غذاء آخر يُجهِّزهم للقيام بدور آخر ولحمل صليب جديد كُلّ يوم والتحليق فى سماوات أعلى كل صباح.... أولاد الملك الذبن ليس لهم سُلطة زمنيّة لكنهم يتكلّمون مثل سيّدهم كمن له سُلطان، أولاد الملك الّذين لا يعيشون فى ترف وإنّما يعرفون جيّداً صليب المعاناة والألم، أولاد الملك الغُرباء أينما حلّوا ومملكتهم ليست من هذا العالم، لأنّهم مثل سيّدهم، ولأنَّهم ينبغى أن يكونوا فيما هو لأبيهم.