حرية المعتقد والمسيحيون المغاربة - مقالات
أحدث المقالات

حرية المعتقد والمسيحيون المغاربة

حرية المعتقد والمسيحيون المغاربة

محمد سعيد*

في مقاله بجريدة هسبريس المعنون بـ"العهد الجديد وفاتورة حقوق الإنسان"، يتساءل الكاتب والسياسي مصطفى المريزق عن حقوق الإنسان بالمغرب، طارحا هذا السؤال: لماذا نتفرج، وبتشف أحيانا، على كل الارتدادات التي حصلت، رغم تنظيم المغرب للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان، ورغم تبني المملكة لعدة مؤسسات وقوانين تساهم في تحسين وتجويد الحقل الحقوقي؟1.

إن هذا السؤال يجعلنا نفكر في ما هو كوني وما هو خاص، وفي الوقت نفسه أن نؤمن بالتنوع والتعدد في إطار الوحدة؛ وبالتالي رفض وبشكل حازم الإكراه الديني المتمثل في الاستيعاب assimilation الذي يسعى إلى إرغام المسيحيين على الانمحاء من أجل الذوبان. هذا الإكراه لا يقبل بوجود المسيحيين إلا في الحالة التي يتحولون فيها إلى كائنات خفية؛ فالمسيحيون المغاربة يعيشون بين رفض المجتمع لهم وقبوله، وما بين التعتيم الإعلامي الذي يحولهم إلى مجرد أشباح، إلا أن البعض منهم مصرون على الاعتراف بهم من داخل النسق المجتمعي ومن داخل وطنهم وليس من خارجه.

ما يثير الاستغراب هو تحجر العقل الإسلامي في اعتبار الدعوة إلى اعتناق الإسلام عملا محمودا ومقبولا، ولكنه بالمقابل يجرم العمل نفسه (التبشير مثلاً) عندما يقوم به الآخرون خلال دعوتهم المسلمين إلى اعتناق ديانات أخرى، وهو المنطق الاستعلائي نفسه الذي ينضح به موقف الشارع المغربي عندما اعتبر أن دعوة المسلمين إلى اعتناق ديانات أخرى "زعزعة" لمعتقدهم الإسلامي تستوجب العقوبة.

ومن الأمور الغريبة كذلك أنه وظف مصطلحات عجيبة للتعبير عن تحول المسلم المغربي عن الإسلام واعتناق المسيحية، فوصف عملية المقارعة والتناظر والإقناع الفكري بـ"إغراء"، لأنه يعتقد أن الإسلام يحتكر الحقيقة المطلقة، وأن العقل الذي لم يعد يقتنع بمنظومته الفكرية والعقدية تعرض للغواية والإغراء واستغلال ضعفه وحاجته إلى المساعدة، ويجب زجره وممارسة الوصاية عليه لأنه ليس راشدا من الناحية الفكرية ولا يعلم مصلحته المطلقة التي لا يمكن أن تكون محفوظة إلا في إطار المنظومة العقدية الإسلامية.

أعتقد أن الوقت حان لرد الاعتبار للعقل الإنساني واحترام توجهاته ومنطقاته الفكرية، وتوفير كافة الضمانات الضرورية ليمارس وظيفته الأساسية المتمثلة في التفكير بكل حرية، علاوة على تسييد الصوت الديمقراطي القويم الذي ينبذ ممارسة الحجر على الآخرين ومنعهم من التفكير والخلق والإبداع والتعبير بكل حرية عن تنوعهم واختلافهم؛ فالمجتمع المغربي له عجز تربوي عن احترام القانون واحترام حرية الضمير والاعتقاد، وعدم تكريس ثقافة الحوار التي تؤصل لهذه الحقوق الكونية. فالتكلم عن حرية المعتقد بالمغرب من طرف السياسيين والباحثين منخور بالغموض والالتباسات التي تهدف بدون شك إلى التعتيم عن الأقليات الدينية واللادينية. ولذلك يقول الكاتب محمد منصوري "إن الدين مجرد هوية مجتمعية يتم تدوينها أحيانا في أوراقنا الثبوتية ولا يتسنى لنا خوض تجربة الإيمان وبالتالي حرية اختيار الأديان" 2.

الحالة الوثنية السائدة في مصر القديمة مثلاً كانت تسمح للأفراد باختيارات عقدية متعددة، ونحن اليوم لا نعرف هاته الخيارات بالمغرب، حيث حرية الاعتقاد هي حرية كل مغربي ومغربية في اختيار الدين الإسلامي، وهي حرية في إطار الجماعة وحق الله؛ بل هناك من الإسلاميين المعتدلين من يعتبر أن الحق في تغيير الدين يجب أن يتم دون الجهر به، وهذا يتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان؛ فلا يمكنك ممارسة طقوسك الدينية علانية أو مع جماعة كما بالمادة (18) بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما يعني الفصل بين حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وهذا دليل على أنه ليست هناك حرية فردية بمجتمعنا؛ بل ليس هناك تعريف لمفهوم الفرد، الذي هو ما تفرد به الشيء دون غيره، إذ الاعتقاد الفردي المسيحي مثلاً خاص بالمؤمن وليس بغيره.

سبق أن شاركنا بمائدة مستديرة نظمها مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية MADA حول "أزمة الحريات الفردية بالمغرب" 3، وقد كان عنوان مداخلتنا "الحريات الفردية: المسيحيون المغاربة نموذجا"، أشرت فيها إلى الخوف من ترسيم حرية الاعتقاد، ثم تطرقت لصعوبة تأسيس أرضية الاختلاف بالمجتمع المغربي بدون حرية المعتقد، فعرجت على أن الحديث عن دولة إسلامية حديث إيديولوجي مصطنع، إذ لا يمكن تأسيس هوية مجتمعية بمرجعية دينية فقط، لأنه الأمر يخالف بناء الدولة بمؤسساتها الدستورية.

وفي الأخير حاولنا الإجابة عن السؤال المحوري "هل الوجود المسيحي بالمغرب مرغوب فيه أم لا؟"، فاستدعينا النص الدستوري الذي لم يرسم "حرية المعتقد" كما في التجربة التونسية التي اعتمدت هذا الحق الكوني بدستورها، وبالضبط في الفصل السادس منه (دستور 2014)، واعتبرنا أن دستور الفاتح من يوليوز (2011) ليس دستورا جديداً، بل دستورا معدلا فقط، والجديد فيه هو تنميطه بزيادة (80 فصلاً) عن دستور 1996 الذي يحوي (108 فصول).

هناك وقائع عديدة تكشف جحيم معاناتنا نحن المسيحيين داخل مجتمع لا يعترف بحقنا في أن نكون كما نريد؛ ففي إحدى المدن الكبرى تمت محاكمة مسيحي مغربي بتهم واهية قضى فيها مدة سجنية تتجاوز ثلاث عشرة سنة، وداخل مقرات المصالح الأمنية يتم الاعتداء على المسيحيين ووصفهم بأشنع الأوصاف وسط سيل من السباب والشتائم.

وقد فجر المحامي أحمد أرحموش، بصفته رئيسا للفدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية، اتهامات ضد عناصر من الدرك الملكي بمنطقة سلا، ورجال أمن بكلميم، بـ"الاحتجاز والاستنطاق التعسفيين" لمغربيين اعتنقا المسيحية، وتعريض حياتهما للخطر في حالتين منفصلين حسب ما قالته الصحافة الورقة والإلكترونية.

عندما يقول وزير العدل السابق مصطفى الرميد "إن من اعتنق المسيحية لا يعاقب في القانون الجنائي المغربي" 3، فهذا ليس مبرراً، إذ يعتبر الشخص الذي يغير أو يعتقد ديناً مغايراً ميتا مدنيا حسب القانون، فليس له اعتراف قانوني، وهو ما يدفعنا إلى التأكيد على ضرورة ترسيخ حرية المعتقد دستوريا.

خلاصة: إننا نحتاج إلى مهندسين اجتماعيين بلغة بورديو من أجل حصول المسيحيين على كافة حقوقهم الاجتماعية؛ فالمسيحي لا يحتكم إلا إلى حريته، لذلك فإن ترسيم حرية المعتقد مدخل لحرية للمسيحيين بمغرب اليوم. فعندما أصر أسقف الكنيسة الكاثوليكية بالرباط على دخول البابا ملعب محمد الخامس سنة 1983 لإلقاء كلمة كما يقتضي البرتوكول، أخبروا الملك الحسن الثاني بذلك، فقال الملك للأسقف: "مونسنيور، لا يوجد سكان مغاربة مسيحيون". ربما كان ملك يريد أن ينفي الوجود المسيحي بالمغرب، لكننا اليوم مع هذه الموجة الإعلامية لا يمكننا النفي بل التأكيد على الوجود المسيحي بالمغرب.

*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية

نقلا عن هيسبرس

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث