عبد الجواد سيد عبد الجواد
فى تاريخ الإنسان والإنسانية، شخصيات تركت أعظم الأثر على مسيرة الحضارة ، سواء على الزمان والمكان اللذان عاشت بهما،أو حتى بعد رحيلها عنه،وذلك دون أن تدعى أنها حملت رسالة من السماء، أو معجزة من معجزات الأنبياء، جاءت ورحلت فى صمت بعد أن خلفت ورائها أثراً خالداً فى تاريخ الإنسانية،وفى مقدمة هؤلاء يأتى توماس جيفرسون،أحد الآباء المؤسسيين للولايات المتحدة ألأمريكية، والرئيس الثالث لها.
ولد توماس جيفرسون سنة 1743م فى ولاية فيرجينيا ، وتلقى تعليما تمهيديا خاصاً، وفى سن السادسة عشرة التحق بكلية وليم ومارى، حيث درس القانون والتاريخ واللغات والعلوم والفلسفة، وتعرف على أعلام النهضة الأوربية، وأبدى مواهبه فى جميع المجالات الدراسية، واستطاع إنجاز دراسته بالكلية خلال سنتين فقط، وتخرج منها سنة 1762م، وعمل بالمحاماة حتى سنة 1775م، حين أصبح ممثلاً لولاية فيرجينيا فى كونجرس الولايات الأمريكية، بعد اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية مباشرة.
وبعد إعلان قيام الولايات المتحدة سنة 1776م عاد جيفرسون إلى فيرجينيا، حيث أنتخب نائبا فى برلمان الولاية، ثم خدم كحاكم للولاية من سنة 1779م حتى سنة 1781م، وفى سنة 1783م أصبح عضواً فى الكونجرس الإتحادى، الذى تأسس بعد الإستقلال ، وفى سنة 1785م أصبح سفيراً لأمريكا فى فرنسا، وفى سنة 1790م عين كأول وزير خارجية لأمريكا تحت قيادة جورج واشنطن، وظل بمنصبه حتى سنة 1793م، وفى سنة 1796م أنتخب نائباً للرئيس جون آدامز، الرئيس الثانى للولايات المتحدة،وفى سنة 1801م أنتخب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ـ وظل فى منصبه لفترتين رئاسيتين حتى سنة 1809م حقق خلالهما نجاحا كبيرا، وضاعف مساحة الولايات المتحدة بشراء مقاطعة لويزيانا من فرنسا،وضم المناطق المحيطة بها،ورغم ذلك فقد كان إنجاز جيفرسون الأكبر فى التاريخ هو إنجازه كإنسان، ومفكر، ونبى لعصره.
كان توماس جيفرسون من أكثر الرؤساء ثقافة فى التاريخ، كان يجيد خمس لغات، هى اليونانية واللاتينية والفرنسية والإيطالية والأسبانية، بالإضافة إلى لغته الإنجليزية، وقد قرأ كل أدبيات وعلوم عصره، قرأ لوك وبيكون وإسحاق نيوتن ومونتيسكو وفولتير وروسو، وحتى القرآن العربى قرأ منه نسخة مترجمة، مازالت محفوظة بتوقيعه فى متحفه حتى اليوم، وفى شخصه تحقق حلم أفلاطون بأن يحكم العالم الرجال الحكماء وليس الرجال الأقوياء، وفى شخصه أيضا تأكدت حقيقة أن الدول الكبرى تتأسس على أفكار كبيرة ،وعلى عقول وضمائر كبيرة . ترك توماس جيفرسون ثلاث بصمات كبرى على صفحة التاريخ ،فعندما عهد إليه الكونجرس الأمريكى فى مستهل حياته السياسية بكتابة إعلان الإستقلال عن بريطانيا سنة 1776م، كتب فى مقدمته تلك العبارة الخالدة التى أصبحت أشهر ماكتب فى آداب اللغة الإنجليزية فى العصر الحديث( لقد خُلق جميع الناس متساويين،وأنهم وهبوا من خالقهم حقوق غير قابلة للتصرف،وأن من بين هذه الحقوق،حق الحياة والحرية والسعى وراء السعادة) وعندما فشل فى تمرير الفقرات النقدية التى كتبها ضد العبودية وتجارة الرقيق فى إعلانه، قام فى ولايته الرئاسية الثانية سنة 1807م، وفى الحدود التى تسمح بها سلطاته، بمنع إستتيراد مزيد من العبيد إلى أمريكا، وترك مسألة تحرير الموجودين منهم على أرضها لمن يأتى بعده، وهو ما أنجزه إبراهام لينكولن فيما بعد. وعندما كتب قانون فيرجينيا للحريات الدينية أثناء قترة عضويته لبرلمان فيرجينيا، والذى أكد فيه على (أن الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه،وهو بالتالى أبعد من متناول الحكومة المدنية) ضمن هذا القانون اليهود والمسلمين، رغم أنه فى ذلك الوقت لم يكن هناك يهودى واحد أو مسلم واحد فى أمريكا، وعندما قام فى سنة 1820م بمبادرته الفكرية الكبرى، وقام بحذف كل الأجزاء الأسطورية من الإنجيل، كمعجزات المسيح والقديسيين، وإستثى فقط الأجزاء التى تتضمن القيم الأخلاقية والإنسانية التى بشر بها المسيح، وأعاد ترتيبها فى كتاب عرف فيما بعد باسم (إنجيل جيفرسون)، كان قد أرسل إلى العالم رسالته الأخيرة، فى أن الله ثابت والدين متغير، شأنه شأن كل منتجات الحضارة الأخرى، نأخذ منه ما يناسب الزمن، ونترك منه ما عفى عليه الزمن، وهكذا فعندما توفى سنة 1826م كان قد ترك بصمة الأنبياء على روح أمريكا والعالم الجديد!!!