يحب كندا ويكرهها في نفس الوقت، ولا طالما تمنى أن تكون إمارة تحت قيادة السلطان أردوغان.
هو ليس إخوانيا ولا داعشيا… فقط، يستكثر أن تكون كندا متقدمة وهي ليست مسلمة. يعيش توترا داخليا في علاقته مع البلد الذي استقبله. يحبه ويعترف بأنه مدين له، لكنه يكرهه لأنه لا يشبهه، ويحتاط منه لأنه يفترض أن هناك نية مبيتة لسلخه عن جذوره.
هو يريد أن يكون كنديا وتعجبه امتيازات المواطنة الكندية، لكنه لا يريد أن يشبه الكنديين لا قدر الله. هو قادم من أمة أخرى، أمة أعزها الله بالإسلام. لذلك، تظل كندا دائما ناقصة وتحتاج لما يمتلكه هو. وما يمتلكه لا يُقَدر بكل تقدم ورقي وديموقراطية كندا.
عمر لبشيريت
دخل المقهى مبتسما، بل يكاد يطير فرحا، أخذ مقعدا وتنفس بعمق، وجلس. وحتى قبل أن يسلم علي، بادر قائلا وهو منتش: أخيرا طرقنا هذا المسمار. أجبته مرحبا: على سلامتك، ربما حمل ثقيل تخلصت منه. فرد موضحا: اليوم، أستطيع أن أطمئن على أبنائي وأبرئ ذمتي أمام الله. ابتسمت وسألته: يتعلق الأمر إذن بتأمين عن الحياة سيستفيد منه أبناؤك في حال وقوع أي مكروه…
حدق في جيدا وهو غاضب وقال: اليوم، سجلت أبنائي في مدرسة إسلامية بموريال…
لم ألتق به منذ كنا نتردد على نفس الثانوية بالدار البيضاء، إلى أن صادفته بإحدى المقاهي المغربية بموريال. سعيد، شاب طيب جدا وخدوم، هاجر إلى كندا وهو في ريعان شبابه، ساعده نظام الهجرة الكندي على التفرغ للدراسة حتى نال دبلوم مهندس في الكهرباء وأصبح مسيرا لفرع شركة أمريكية كبيرة.
نال سعيد الجنسية الكندية وتزوج واشترى منزلا جميلا… لم يكن منتميا لأي تنظيم سياسي، وكأغلب المهاجرين، كان يصوت لصالح الحزب الليبرالي في الانتخابات (رغم فضائح الفساد المتكررة) ويدافع بقوة على رئيس الوزراء جيستان ترودو.
كنت أعلم أنه منشغل منذ شهور بفتنة “مادة التربية الجنسية”، التي أقرتها حكومة الكيبيك بكافة أقسام التعليم الأولي والثانوي… ناقشنا الموضوع بنوع من الحدة، آنذاك، وتطور الأمر إلى شبه مشادة كلامية، خاصة بعد تدخل أحد أصدقائه الذي اتهمني بأنني صرت مثل الكنديين وتخليت عن جذوري، مع أنه يرفض تجديد جوازه المغربي، ويفتخر بجوازه الكندي الذي يجعله يقضي عطل نهاية الأسبوع والأعياد بالولايات المتحدة…
عاتبت سعيد بقوة، وللمرة الأخيرة. كيف تقرر حرمان أبنائك من النعيم الذي استفدت منه؟ كيف تحرم أبناءك من تعليم عمومي مجاني وراق، وترمي بهم في أحضان “تعليم” مجهول الهوية وغامض الأهداف ومكلف ماديا؟ غادرته غاضبا، ووعدته ألا نعيد مناقشة هذا الأمر نهائيا.
“أمراض الهوية” التي تصيب المهاجرين أخطر عليهم من العنصرية، على قلتها هنا. يتعاملون بحنين جارف مع “هوية” يكتشفونها صدفة بالغربة، ويتخيلونها، أو تصور لهم، أنها معرضة للتهديد والضياع، وأنها مستهدفة… وأنهم مطالبون بالدفاع عنها ومقاومة مخططات سلخهم عن “هويتهم”… هكذا يقررون “الهجرة إلى الله” والتصدي للمؤامرة التي تحاك ضدهم وضد أمتهم.
يفكر “المهاجر إلى الله” أنه تم قبول طلبه ومساعيه وجهوده للاستقرار بكندا من أجل سلخه عن “هويته” ودينه، يقتنع أن كندا خسرت ملايير الدولارات والجهود، من أجل الاستفراد بمجموعة من المهاجرين المسلمين وممارسة العنصرية ضدهم ومحاربة دينهم. يقنع نفسه ويجتهد في إقناع الآخرين أن المستهدف من كل هذه السياسات هو الإسلام، وأن “المؤامرة” متواصلة، لأنهم الدين والعرق والشعب المختار والأرقى والأحق والكامل.
يغرق في غربة أخرى. لا يشعر بالغربة عن بلده الأصلي، عادة يقضي عطله بالولايات المتحدة أو كوبا. يشعر بالغربة فقط عندما يمارس لعبة المقارنة مع الآخر/ الكندي، ولا يستسيغ كيف أن البلد الذي استقبله متقدم جدا. لا يحب هذا الفرق الشاسع، ويجد العزاء في شيء يمتلكه هو… ويمتاز به هو: هويته المختارة والأصيلة… لا يشعر بقوة هذا الانتماء ببلده الأصلي، بل لا يعيره اهتماما حتى. بل إنه، في بلده، يفاخر بجنسيته الكندية ويعدد محاسن هذا الامتياز الذي يحظى به، لكنه بمجرد ما يحط أقدامه بمطار موريال حتى يدخل غربته التي فرضها على نفسه.
هكذا يتصور صديقي سعيد ورفاقه من “المهاجرين إلى الله” حياته الكندية. لن تقنعه أبدا بأن الذي صنع هذه “المؤامرة” هي شركة استثمار دينية، تحقق أرباحا خيالية كلما توسعت قاعدة هؤلاء المهاجرين. لذلك، يؤمن سعيد ورفاقه بأن مادة “التربية الجنسية” موجهة خصيصا لأبناء المسلمين، لصدهم عن دينهم، لتشجيعهم على الفاحشة، لنشر “الشذوذ الجنسي” وسطهم، لجعلهم يشبهون الكنديين..
سعيد ورفاقه لا يريدون أن يصبحوا كنديين. يريدون جواز السفر الأزرق المزين بورقة القيقب، يريدون الخدمات الكندية، وجنة الطبيعة الكندية وشلالات نياگارا والديموقراطية الكندية والسلم والأمان والاحترام، إلا أخلاق الكنديين والتشبه بهم. أبدا لن يحصل ذلك، لأن الاستسلام لهم والانسياق وراء مخططاتهم، يقود حتما إلى الفاحشة والعياذ بالله..
لذلك، يحبون جيستان ترودو “المسلم”، عندما يزور المسجد ويخطب مهنئا برمضان وعيد الأضحى. لكن، يغضبون من جيستان ترودو “الكافر” الذي يدافع بشراسة على الحق في الإجهاض ويخرج في كرنفال المثليين… ولأنهم يحبونه كثيرا، يدعون له بالهداية ويتفننون في إيجاد المبررات له.
يشعر بالغربة فقط عندما يمارس لعبة المقارنة مع الآخر/ الكندي، ولا يستسيغ كيف أن البلد الذي استقبله متقدم جدا. لا يحب هذا الفرق الشاسع، ويجد العزاء في شيء يمتلكه هو… ويمتاز به هو: هويته المختارة والأصيلة… لا يشعر بقوة هذا الانتماء ببلده الأصلي، بل لا يعيره اهتماما حتى. بل إنه، في بلده، يفاخر بجنسيته الكندية ويعدد محاسن هذا الامتياز الذي يحظى به، لكنه بمجرد ما يحط أقدامه بمطار موريال حتى يدخل غربته التي فرضها على نفسه.
لطالما نصحت سعيد بزيارة موقع وزارة التعليم، والاطلاع على البرنامج الكامل لهذه المادة اللعينة ومحتوياتها، حسب السن والمستوى الدراسي. لكن صديقي المهاجر… كان قد هاجر بعقله إلى غياهب المؤامرة وأسطوانة “استهداف الاسلام”.
لم تسعفه دراسته العليا بمدرسة “البوليتيكنيك” بموريال، بمنحة سخية من دافعي الضرائب، ولا توظيفه السريع في شركة كبيرة… يصر أن يهاجر بأطفاله بعيدا عن هجرته هو. قرر أن يمنعهم من تكرار تجربة هجرته الناجحة، أن يمنعهم من النظام التعليمي الذي ساعده على الترقي والانتصار للكفاءة. قرر أن يحرمهم من تعليم مجاني وناجح، ويرمي بهم إلى حانوت كهنوتي فيه معلم واحد، يُدَرس الرياضيات واللغات والعلوم والجغرافيا بفاتورة سمينة… كل ذلك بسبب كلمة واحدة، كلمة سحرية تخرج العقل وتستفز ترسبات عميقة. بسبب كلمة “الجنس” لا غير…
يتصور “المهاجرون إلى الله” أن أطفالهم كائنات شهوانية قادرة على الانفلات من عقالها بسبب درس حول وظائف الجسم والاختلاف بين أعضاء الرجل والمرأة… يتصورون أن الدعوة إلى احترام الاختيارات الجنسية وتجنب السقوط في الميز والكراهية (وهي مقررة في المستوى الخامس من الثانوي) ستجعل أبناءهم يخرجون في الكارنڤال القادم للمثليين…
من ضمن كافة مواد برنامج “التربية الجنسية”، وهو موزع حسب السن والمستوى الدراسي، لم يجد سعيد ورفاقه إلا حصة صغيرة، تنصح بتجنب التمييز على أساس الميول الجنسية. هذه الحصة لا تدعو ولا تنتصر لأي اختيار، تطالب فقط بعدم السقوط في الميز. اعتبَروها تطبيعا مع “الشذوذ الجنسي”.
لم يَرَ “المهاجرون إلى الله” كل تلك الحصص التي تعلم تجنب الاستغلال الجنسي والاغتصاب والتحرش، وطرق الوقاية من ذلك، وتُنَبه إلى خطورة الحمل المبكر، وتُعَرف الأمراض الجنسية وخطورتها، وتُخبر عن كيفية التعامل مع التحولات الهرمونية في سن البلوغ…
لا يريد سعيد الانتباه إلى كل ذلك. لا يثق أبدا. يريد أن يستبق كل ذلك. أن يمنح أبناءه تعليما عفيفا وطهرانيا، لأن هذه الـ”كندا” التي استقبلته، ورعت وحققت أحلامه، تتربص به في أقرب زاوية من الشارع… لتمحي هويته وتحوله إلى شبيه بالكنديين الذين يحمل جنسيتهم وجواز سفرهم الذي يصر على أن يرفعه في وجه رجل الجمارك بمطار محمد الخامس، عندما يطالبه ببطاقة التعريف المغربية…
لذلك، يثق في دجالي المساجد الذين يبيعون تعليما سرياليا بآلاف الدولارات، ولا يثق في المدرسة، السخية والراقية، التي أهلته ليصبح مهندسا يسير مئات العمال الكنديين الذين تتآمر حكومتهم (حكومته) ضده…
يحب كندا ويكرهها في نفس الوقت، ولطالما تمنى أن تكون إمارة تحت قيادة السلطان أردوغان. هو ليس إخوانيا ولا داعشيا ولا حتى من مناصري بنكيران… فقط، يستكثر أن تكون كندا متقدمة وهي ليست مسلمة، يعيش توترا داخليا في علاقته مع البلد الذي استقبله. يحبه ويعترف بأنه مدين له، لكنه يكرهه لأنه لا يشبهه، ويحتاط منه لأنه يفترض أن هناك نية مبيتة لسلخه عن جذوره. هو يريد أن يكون كنديا وتعجبه امتيازات المواطنة الكندية، لكنه لا يريد أن يشبه الكنديين لا قدر الله. هو قادم من أمة أخرى، أمة أعزها الله بالإسلام. لذلك، تظل كندا دائما ناقصة وتحتاج لما يمتلكه هو. وما يمتلكه لا يُقَدر بكل تقدم ورقي وديموقراطية كندا.
ومع ذلك… سعيد رجل طيب جدا، لكنه حائر جدا، لدرجة أنه لم يتوقف عن الهجرة. دائم الترحال وراء كل من يذكره بأمجاد وعظمة جذوره. كل من يذكره أنه أكثر تفوقا على الكنديين. كان يُمطرني عبر “الواتساب”، بفيديوهات مختلف الشيوخ والدعاة والدجالين وبائعي الأوهام، لكن خيبته فيهم كانت تتكرر كلما تغيرت أحوال السياسة ومصالح اللاعبين. وكنت أخفف عنه مازحا: “الإسلام زوين، لي دايرين به هما لي خايبين”…
تعددت خيبات سعيد، فبعد عملية النصب التي تعرض لها مهاجرون، من طرف جمعية إسلامية، كانوا يحلمون بشراء سكن حلال بدون فائدة، انتشرت عدة أخبار حول التلاعب بأموال المساجد والتبرعات. لكنه لم يطلق أبدا فكرة استهداف المسلمين، رغم أن كافة المصائب التي وقعت كان وراءها مسلمون نصبوا على مسلمين. حتى مصيبة صديقه الحميم، الذي طرد صديقته الشرعية، أصر على إقناعي بصواب فعلته.
كان صديقه قد “تزوج” بالفاتحة، بمهاجرة سورية قدمها له إمام المسجد. وكنت أنا أمازحه بأنها صديقته الشرعية. غضب مني لما وصفت الأمر بزواج متعة. بالنسبة إليه، لا تهم التسميات ولا شكل العلاقة، المهم أنها “شرعية” وأقرها إمام المسجد، ومَكّنت لاجئة مسلمة من المعاشرة بالشرع وصون كرامتها.
كنت أسأله: لكن كيف هي هذه الكرامة، وهو لا يوفر لها سكنا ويمنعها من العمل ولا يعترف بها أمام السلطات ولا يضمنها ضمن تصريحه الضريبي كشريكة، لكي تستفيد ماديا ومعنويا. هي “صاحبتو وصافي”؛ sa blonde، كما يقول الكيبيكيون. كان يغضب من أوصافي ويعتبرها مسيئة، خاصة لما طرد صديقُه “الجارية المسلمة”، حين عبرت عن رغبتها في الاعتراف القانوني المدني بهذه “المتعة الشرعية” وحلمها بالإنجاب. قادها إلى إمام المسجد و”طلقها”، وطردها من المنزل لتعود لاجئة من جديد، ويستمر هو في فضح مجازر “النظام السوري النصيري الارهابي الكافر” ضد إخواننا السوريين… علمت فيما بعد، أن “التصاحيب الشرعي” منتشر بكثرة هنا بكندا، يغضب “المهاجرون إلى الله” عندما تشبهه بـ”زواج المتعة”…
صديقه هذا، كتب مرة على صفحته بالفايسبوك، معلقا على نداء بمقاضاة أحد المساجد بالمحاكم الكندية، بسبب تأخر الجمعية التي تديره عن عقد اجتماع المجلس الإداري، ناصحا بـ”عدم الاحتكام إلى الطاغوت في ما يخص شؤون المسلمين”…
لم أعد ألتقي بسعيد منذ فتنة “التربية الجنسية”، بعد أن اكتشفت أنه حذفني من الواتساب والفايسبوك، إلى أن علمت من أحد الأصدقاء، أنه انقطع عن أصدقائه وهاجر مرة أخرى… إلى إحدى الطرق الصوفية…
قيل لي إنه حط الرحال بالطريقة النقشبندية… أعرف بعض الأصدقاء الموسيقيين والفنانين من محبي هذه الطريقة… أتمنى أن يجد فيها راحة البال والخروج من الغربة القسرية والحيرة التي أدخل نفسه فيها…
الله حي، باقي حي، ديما حي…