رسالة مواطن مسيحي إلى مواطن مسلم - مقالات
أحدث المقالات

رسالة مواطن مسيحي إلى مواطن مسلم

رسالة مواطن مسيحي إلى مواطن مسلم

محمد سعيد

عزيزي المسلم..

أظن أن التنور يقاس بمدى احترامنا المتبادل لمعارضينا ولمن يخالفونا الرأي، وأرى بارتياح أن الغالبية العظمى من المغاربة أكانوا يؤمنون أم لا قد تنورت بشرتهم في السنوات الأخيرة ليس بفضل الوضوء أو الاستحمام دون بسملة، وإنما بكون المؤمن منهم أصبح يناقش معارضيه، بينما السلف غير الصالح يعتقد أنه لا مجال لمخاطبة المشككين أو مجادلتهم لأنهم أعداء ألدّاء للمؤمنين، بل يجب سحقهم أو نبذهم... فقد كان الجدل قد انتهى به العمل بعدما قدم ابن رشد تقريره الشهير الذي رسخ بالأذهان أن الجدال بلية مثلها مثل مخاطبة الجمهور بحجج عقلانية.

فالمغاربة رغم اختلافهم يحاولون اليوم بناء مواطنة للمؤمن ولغير المؤمن بكل مساواة وبكل احترام، إن هذه ثورة سلمية على القيم البالية، وهي البشرى الجديدة حقا التي لا يسعني إلا أن أهنئ مغاربة اليوم عليها!

أعتقد أن القاسم الحقيقي بين عصور التنوير والعصور القديمة هو ما يلي: كان اليهود يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وظل مسيحيو القرون الوسطى يعتبرون أنفسهم أهل الخلاص لوحدهم، لا لغيرهم، وبات المُسَلمون يعتبرون أنفسهم خير أمة أخرجت للناس! فهيهات هيهات: لا أحد يمكنه اليوم أن يعتبر نفسه محترما لنفسه إن ظل متشبثا بهاته المنطلقات التي لا تليق بأي إنسان متواضع ومحترم لبني البشر، ويحترم أمه وأباه، أخته وأخاه أكانوا مؤمنين أم لا اعتقاد لهم، فالفكر المساوي للبشر هو القاسم بين الزمنين، زمن العجرفة وزمن المساواة.

إن أغلبية المؤمنين، أكانوا يهودا مسيحيين أم مسلمين، لرجالات متعجرفون إذا لم يحترموا المساواة بين البشر، وهذا هو ما يحط من قيمتهم، لأن التعالي على الآخرين، وخاصة على آبائنا وأمهاتنا، أخواتنا وإخوتنا، ليس من الأخلاق في شيء، فالأخلاق تبدأ أولاً باحترام الآخر أكان ذكرا أم أنثى، عاريا كالأرجوانيين بأمريكا أم ملتحيا قادما من باكستان أو السعودية، مؤمنا بالله أو بفينوس أو باللات والعزى القرشي!

عزيزي المسلم..

إنني لا أومن بما تؤمن به، ولكنني أحترم فيك إنسانيتك التي هي مدخلنا للفعل الوجودي المثمر، إنني أحترمك وأحترم من خلالك المَسلمين كما أحترم غيرهم... أحترم اليهود والسيخ والبوذيين والشنتو، أحترم البهائيين والأحمديين... وبكلمة أخرى: "أحترم نفسي"!

فطالما لم يعترف المتدينون بمساواتهم للبشرية، فإنهم سيظلون قليلي الأخلاق غير محترمين لأنفسهم.

فعندما ترتدي وزرة التلميذ، فإنك تعبر بها عن موقفك من نفسك، أي كونك تلميذا، وعندما ترتدي بذلة العمل، فإنك تعبر عن موقفك من نفسك، أي كونك في موقع العمل، وعندما ترتدي بذلة الجندي، فإنك تعبر عن موقفك من نفسك، أي كونك جنديا، لن تجعلك وزرة التلميذ تلميذا، ولا بذلة العامل والجندي عاملا أو جنديا، الخارج هو تعبير عن الداخل، لكن الخارج لا يختزل إلى "داخل" من "الدواخل"؛ فالداخل هو ما يريده موجد الوجود، أي الله.

فلن تكون مؤمنا إلا حينما تبتغي لنفسك ما تبتغيه لغيرك، فأنا هو هذا الغير عزيزي المسلم.

أنا الغير الذي يؤمن بأن المسيح قبر وقام من الأموات، أنا الغير الذي يؤمن بأن "يهوه" هو الله، إله واحد بثلاثة أقانيم، أنا الغير الذي يؤمن بالإنجيل والتوراة...

عزيزي المسلم..

الحق لا يكون إلا واحدا كما قال ابن حزم، لكن المشكلة الأم ليست هي معرفة الحق بقدر ما هي في الجهل المركب... فالحق مشتاق أن يرى بعض الجبابرة ساجدين- كما يقول الشاعر تميم البرغوثي.

لقد قرأت شيئا لم أصدقه عزيزي المسلم، ثم ليست لي حاجة أن أصدق كل ما أرى أو أسمع ما دامت حياة الناس مجرد كذبة أو خدعة، إلا أن ما رحت أكتشفه صديقي المسلم كان صادقا... فقد قرأت أن علال الفاسي قال يوما إن "جده تكلم من القبر"، فلك أن تتأكد وتعلق على ذلك، قد يكون علال الفاسي صادقا أو الكاتب كاذبا، أو العكس صحيح... وفي كل الحالات سيكون مفيدا إذا راجعنا تراثنا الأدبي والديني من أجل البحث عن الحقائق المستترة به، ونأخذ منه ما يساير فراغنا الروحي.

فإذا كان علال الفاسي يقول إن جده تكلم من القبر، فإن المسيحيين لا يقولون إن المسيح تكلم من القبر، بل إنه قام منه، فيمكنك أن تؤمن بذلك أو لا تؤمن، لكن هاته حقيقة قيلت بطريقة أخرى بتراثك أيضاً.

عزيزي المسلم..

إن التطرف تجاهي هو عمل غير ذكي... فيمكنك استعمال ذكائك في التعامل معي، فلن أرتكب يوما ما حماقة أن أكرهك... فقد تكون كراهيتي ضد ما أعتقد به عن المحبة المسيحية agapi...أنا أعرف جيدا أنه لو أعطيت للمتطرفين والإرهابين القدرة على وهب الحياة للناس وسحبها منهم سأكون أول من يسحبونها منه وآخر من يهبونها له... فلا داعي لتذكيري بهذه الحقيقة كل يوم عزيزي المسلم! وأنا متأكد أيضا أنني إذا تهت يوما ما في الصحراء فلن يكلف هؤلاء أنفسهم أن يسقوني آخر قطرة من بولهم المقدس. لا داعي لتذكيري بهذا دائما.

لست أدري لماذا عزيزي المسلم تؤمن بأني إنسان صادق فقط عندما أتحدث بإيجابية عن الإسلام، وكاذب عندما أتحدث بالسلب في كل مواضيعي التي تقرأها.

فإذا كنت تستنكر وتستهجن عزيزي المسلم بعض مقالاتي التي خدشت معارفك أو زعزعت بعض معتقداتك المسبقة عن المسيحية، فيمكنك التعبير عن استنكارك، وهو أسلوب مسموح به في اللغة العربية، إذ أتنازل عن حق الرد عليك ليس لأنني غير قادر على مجابهتك ومقارعتك فكريا، ولكن لأنني مشغول بتفتيش الكتب كما أوصاني مخلصي يسوع المسيح، فهاته المقالات هي رسائل لصانعي قيمنا وليست لك بالضرورة!

فالذين يردون علي خارج أسلوب المحاورة والمجادلة التي أدعو إليها، لا يفهمون بشكل جيد صاحب هذا المزاج، فهم لا يدركون أن قضيته قضية اختيارات تبقى شخصية ولا حق لأي كان أن يتدخل فيها، فإذا كان التطرف هو القبض على العصا من أحد طرفيها، فإنني متطرف حتى النخاع في مسألة معتقدي الخاص، فإما أن تكون مع حرية المعتقد وإما أنك تكذب على نفسك في قولك بأننا مجتمع منفتح.

عزيزي المسلم..

الإيمان لا يكون إلا أخرسا، فالإيمان هو الذي أعطاني قدرة على تجاوز إدراكي لاختلافي عنك عقائديا إلى مستوى فهم هذا الاختلاف، وإنجاز سلوكيات مبنية على فهم الأسباب وضبطها موضوعيا، فالناس يصرون على رؤيتي على صورة تختلف تماما عما أنا عليه، وإنهم لن يروا أبدا في مكاني سوى الشخص الذي صاغوه لأنفسهم وشكلوه وفق هواهم!

فما الذي تتوقعه مني؟

إنني في الماضي والحاضر، في البرزخ الكامن بين ما يقال وما لا يقال، وما يعاش وما لا يستطاع، أظل وفيا للذاكرة التي ترجعنا إلى ما نؤمن به، والتي تأخذنا إلى بر الأمان بعيداً عمّا تنتجه الثقافة الغيرية!

فكلنا راحلون، وقد نرحل فجأة، وأنا راحل لا محالة، لكن العزاء سيأتيك من تحولي إلى أيقونة تقاوم العدم بجدل الغياب والحضور، فأنا أستشرف زمني حتى نهاية العمر، وسأظل حاملاً وهج رسالتي التي علمتني أن أحب رغم ضعفي الإنساني!

فإذا لم تستوعب هذا الكلام عزيزي المسلم، فالمرجو أن تقرأه بتأن لأكثر من مرة مفترضاً أن فيه شيئاً قابلا للفهم، وإذا كنت تؤمن بأن كل ما أقوله مجرد ترهات لا تستحق القراءة، فلا بأس... فقط تجاوز ما أكتب إلى أشياء أخرى في حياتك قد تكون أفيد لك وأنفع كالتسوق وشراء حاجياتك!

 

*مسيحي مغربي

هيسبرس

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*