إيهاب عمر
في نهايات القرن التاسع عشر، كانت فكرة "الجهاد الإسلامي" مطمَعاً حقيقياً للدول الغربية التي حاولت أن تستخدم لمصلحتها فكرة الحرب المقدسة، أي عندما يعلن الحاكم أو القائد أن معركة معيّنة تخدم نصرة الدين، فيتدفق آلاف الناس للقتال حتى الموت، دون اعتراض يذكر... على أن تكون النتيجة لمصلحة إحدى الدول الكبرى.
وبحسب المؤرخ شون ماكميكن في كتابه "قطار برلين-بغداد: الإمبراطورية العثمانية والصعود الألماني الدولي"، شهدت نهاية القرن التاسع عشر تنافساً بين ألمانيا وبريطانيا على توظيف الإسلام السياسي لمصلحتهما.
فكانت الإمبراطورية الألمانية تسعى إلى تأسيس حركة جهادية تعلن الحرب على الاستعمار الغربي للولايات العربية العثمانية، على أن يبارك السلطان العثماني هذا الجهاد، بينما كانت بريطانيا تسعى إلى تكوين حركة جهادية عربية ضد سلطة العثمانيين على هذه الولايات.
وكانت الغلبة لبريطانيا على وقع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فتعاونت مع الهاشميين وبعض من شعوب المنطقة لإعلان قيام الثورة العربية الكبرى في 10 يونيو 1916 ضد السلطنة العثمانية. وهكذا كسب البريطانيون الجهاد الإسلامي في صفوفهم.
الجهاد في سبيل الرايخ
وحينما انتشل المستشار الألماني أدولف هتلر الجمهورية الألمانية من أزمتها الاقتصادية، على وقع تنامي المشاعر القومية، عادت فكرة استخدام الجهاد الإسلامي تتردد من جديد داخل الأجهزة الاستخباراتية النازية.
ورأت ألمانيا النازية أنه إذا أصبح الجهاد في سبيل الله ضمن المعسكر الألماني، فستضمن برلين ولاء مقاتلين أشداء.
وهناك مؤشرات كثيرة تدل إلى إعجاب هتلر والنازيين بالإسلام في علاقته بأخلاق الجندي. وفي هذا الإطار، كتب ألبرت شبير Albert Speer، وزير التسليح والذخيرة النازي في كتابه "داخل الرايخ الثالث" أن هتلر قال في أحد الاجتماعات إن "المسيحية ليست ملائمة للمزاج الجرماني على عكس الإسلام".
وفي اجتماع آخر، نشر محضره في دراسة بعنوان "أحاديث طاولة هتلر" Hitler's Table Talk لمجموعة من الباحثين قال هتلر: "إن العبادة التي تمجد البطولة ولا تفتح السماء السابعة إلا لجرأة المحارب وحده كانت لتحسم سباق الجرمانية لغزو العالم".
وفي مقال بعنوان "الإسلام والصليب المعقوف" Islam et croix gammées، ذكر البروفيسور والمؤرخ الفرنسي جيل أردينا Gilles Ardinat أن هنريش هيملر، وزير الداخلية وقائد الغيستابو والقوات النازية الخاصة، قال: "ليس لديّ ما أؤاخذه على الإسلام، بل بالعكس، هو دين مفيد وملائم للجندي".
ويشير أردينا إلى أن بعض المنظرين النازيين قالوا إن المجتمعات المسلمة متفوّقة، من وجهة نظر عرقية، واخترعوا مفهوم الـMusul-germains، مفترضين وجود علاقة بينهم وبين ما روّجوه عن العرق الآري.
وأنتجت هذه الآراء رغبة نازية في تجنيد فريضة الجهاد لخدمة الأجندة الألمانية، وهو مخطط لم تستطع ألمانيا الاستفادة منه في الحرب العالمية الأولى التي انتهت باستسلام برلين وتقسيم وانهيار الإمبراطورية الألمانية.
وكشف المؤرخ ستيفان إيهريغ في كتابه "أتاتورك في الخيال النازي" أن هتلر تأثر في شبابه بحاكم مسلم هو مصطفى كمال أتاتورك، وقد حملت الدعاية النازية طوال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي تبجيلاً لأتاتورك باعتباره بطلاً أيقظ القومية التركية بعد الهزيمة.
ويضيف إيهريغ أن هتلر كان معجباً بقدرة أتاتورك على القيام بمراجعات قومية وعرقية أدت إلى نهوض تركيا عقب هزيمة الإمبراطورية العثمانية واستعادة الأقاليم السورية الشمالية ومضيق الدردنيل التي تنازلت عنها الدولة العثمانية عقب الهزيمة في الحرب. وذلك في زمن كان هتلر يبحث عن مراجعة قومية وعرقية تبعث ألمانيا عقب هزيمة الإمبراطورية الألمانية في الحرب ذاتها، وخسارتها لمساحات شاسعة لمصلحة دول الجوار.
ويشير إيهريغ أن مصطلح أتاتورك أو أبي الأتراك يلخص فكرة الطاعة التي طبقها هتلر لاحقاً في مصطلح الفوهرر.
ويضيف أن هتلر كان معجباً بتعاطي تركيا مع الأقليات الأرمنية واليونانية التي "خانت" الإمبراطورية وفقاً لاعتقاد الأتراك، وتساءل في الثلاثينيات: "مَن يتذكر اليوم مذابح الأرمن؟"، علماً أن هتلر نظر إلى اليهود باعتبارهم أقلية خانت الإمبراطورية الألمانية.
وقد أعفي هتلر الألمان من أصول تركية وإيرانية من قوانين نورنبرغ الخاصة بنقاء العرق الألماني، ثم أضاف الألمان من أصول بلقانية على ضوء انضمام المسلمين من تلك الأصول إلى الجيش النازي.
وفي أبريل 1942، أصبح هتلر أول زعيم غربي في التاريخ الحديث يصرح بأن الإسلام ليس دين الإرهاب، وفي سبتمبر 1943 فتح الحزب النازي أبوابه أمام انضمام المسلمين، بحسب كتاب إيهريغ.
الجيش الألماني المسلم
بهدف كسب مشاعر وتأييد الشعوب العربية والإسلامية المحتلة من قبل بريطانيا وفرنسا، أعداء برلين، لجأت المانيا النازية إلى إطلاق وعود الاستقلال والحرية لشعوب الشرق الأوسط، وأغدق الفوهرر بالرسائل ذاتها على شعوب الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، خاصة الشعوب المسلمة في القرم والقوقاز السوفياتي، وأقاليم السنجق والبوسنة بيوغوسلافيا، وفقاً للمؤرخ كلاوس جينسك في كتاب "النازيون ومفتي القدس أمين الحسيني".
ولم يكتف الفوهرر بوعوده، بل شكل فرقة عسكرية من مسلمي القوقاز والبلقان الذين استمعوا إلى نداء أوفى أصدقاء هتلر من الساسة المسلمين، مفتي القدس أمين الحسيني، بالانخراط في الجهاد بالجيش الألماني.
وسُمّيت هذه الفرقة التي انخرطت تحت قوات النخبة النازية بوحدة هاندشر وضمت 20 ألف مقاتل مسموح لهم بقضاء الشعائر الدينية وتم توفير وجبات اللحم الحلال بالإضافة الى إمامٍ يعظ في عناصرها.
شكل أمين الحسيني هذا الجيش حينما زار إيطاليا ثم ألمانيا عام 1941، وقابل هتلر للمرة الأولى بعد ثماني سنوات من المراسلات الدبلوماسية.
ووفقاً لجينسك، استخدم الحسيني أدبيات وأفكار حسن البنا الإخوانية في وعظ وتشكيل هذا "الحرس الثوري الإسلامي النازي"، حتى أن بعض أبناء تنظيم الإخوان وقتذاك أطلق عليه اسم كتائب الإخوان بالجيش الألماني النازي.
في نوفمبر 1944، قام هيملر وأمين الحسيني بإنشاء مدرسة للأئمة العسكريين في درسدن.
حسن البنا... بعض النازية لا يضر
ونشر كلاوس جينسك في كتابه وثائق عن تواصل ألمانيا النازية مع تنظيم الإخوان المسلمين عبر أمين الحسيني.
وإذا كان التنظيم، وفقاً لما كتب جينسك، صناعة بريطانية خالصة، فإن هتلر رأى أن الإسلاميين مجرد مرتزقة ينحازون لمَن يدفع أكثر، وأن استخدام الإخوان في إثارة اضطرابات في مصر ضد البريطانيين، وليس ضد السلطة المصرية والملك فاروق، قد يؤدى إلى ثورة شعبية ضد الاحتلال البريطاني، ما يؤثر على استقرار بريطانيا في منطقة قناة السويس.
وفي كتابه "من قتل حسن البنا؟"، نشر المؤرخ والكاتب الصحافي المصري محسن محمد، رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير جريدة الجمهورية سابقاً، نص وثيقة من أرشيف وزارة الخارجية البريطانية، تحمل رقم 23342.O.F بتاريخ 22 أكتوبر 1939، وتنص على أن السلطات المصرية، بإيعاز من الاحتلال البريطاني، فتشت مكتب الملحق الصحافي الألماني ومدير مكتب الدعاية النازية بالقاهرة ويلهام ستلوبغن ووجدت فيه خطاباً يفيد تسليم مبالغ مالية لحسن البنا، مرشد تنظيم الإخوان.
وكتب البنا في مجلة النذير، العدد رقم 30 بتاريخ 26 ديسمبر 1938، ما يمكن تفسيره بأنه يمارس دعاية دينية وسياسية لألمانيا وحلفائها، إذ قال: "ذكرت بعض الصحف أن إيطاليا وألمانيا تفكران في اعتناق الإسلام، وقررت إيطاليا تدريس اللغة العربية في مدارسها الثانوية بصفة رسمية وإجبارية، ومن قبل سمعنا تفكير اليابان في الإسلام".
وأضاف: "هذا استعداد طيب تعلنه هذه الدول، إذا أضفنا إليه موقف الدول المسيحية من الكنيسة، وخروجها على تعاليمها، وموقف اليابان من ديانتها الوثنية وتبرمها من طقوسها، وأضفنا إلى ذلك كله أن هذه الدول إنما تعجبها القوة والكرامة والفتوة والسيادة، وأن هذه هي شعائر الإسلام".
فهنا، يتحدث البنا عن ألمانيا وإيطاليا واليابان، أي دول المحور تحديداً. ويذكر الكاتب رفعت السعيد في كتابه "حسن البنا... الشيخ المسلح" أن مقالات البنا كانت سبباً في شائعة تحول هتلر للإسلام سراً ومقولة إن "الحاج محمد هتلر" قادم لتحرير العرب والمسلمين، وهي المقولة التي ترددت في المنطقة العربية بأسرها.
ووفقاً لإيهريغ، افتُتح مكتب للإخوان المسلمين في برلين برئاسة الداعية الإخواني محمد صبري، وأصدر كتاباً بعنوان "الإسلام واليهودية والبلشفية"، واصفاً الأفكار الشيوعية بأنها "صنعت من قبل اليهود، وتقاد من قبل اليهود. وبذلك فإن البلشفية هي العدو الطبيعي للإسلام"، وذلك عشية الاجتياح الألماني للاتحاد السوفياتي. وقد أوصت وزارة الدعاية النازية بأن يقرأ الصحافيون الألمان هذا الكتاب.
ولاحقاً، بحسب محسن محمد، اتخذت بريطانيا والحكومة المصرية الموالية لها قراراً بتأديب البنا وأصدرت الحكومة المصرية أمراً قضائياً بتوقيفه، إلا أن لندن رأت في الإسلام السياسي درعاً مهمة لصد المد الشيوعي عن المنطقة العربية، لذا تمت مساومة تنظيم الإخوان من أجل قطع الاتصالات مع برلين مقابل غلق ملف التمويل النازي.
رصيف 22