المواطنة ما بين الدولة الدينية والدولة المدنية - مقالات
أحدث المقالات

المواطنة ما بين الدولة الدينية والدولة المدنية

المواطنة ما بين الدولة الدينية والدولة المدنية

شاهر اسماعيل الشاهر

في مقابل الدولة المدنية، تأتي الدولة الدينية، وهي الدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، حيث ينقسم المجتمع إلى فئتين متمايزتين: حاكمة ومحكومة. وفي هذا الإطار، تستمد الفئة الحاكمة سلطاتها من أساس إلهي، مما يجعل إرادتها تسمو على إرادة المحكومين. (1)
واليهود هم أول من حاول إقامة الدولة الدينية من بين الديانات السماوية الكبرى، وهم أول من صاغ مصطلح الثيوقراطية، وذلك لاعتقادهم بأن الله قد ميزهم عن الأمم الأخرى، وأنهم أقرب الشعوب إلى الله، وأن الشعب اليهودي "هو شعب الله المختار".

المبحث الأول: مفهوم الدولة الدينية

الدولة الدينية هي الدولة التي يكون الحاكم فيها ذا طبيعة إلهية (إله أو ابن إله) أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عرف بنظرية الحق الإلهي، ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم في منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، وأنه لا يعترض على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد قبله حقوق أو التزامات بل عليهم الخضوع التام لإرادة الحاكم حيث لا حق لهم في مقاومته أو الاعتراض عليه .

وقد جاءت كلمة ثيوقراطية من كلمتين يونانيتين: الأولى كلمة ثيو، وتعني إله، والثانية كلمة قراط وتعني الحكم. وقد اعتقد كثير من القدماء أن إلههم، أو آلهتهم، قد سلموا القوانين إلى حكوماتهم (نظرية التفويض الإلهي) فقد كان يُعتقد أن مدونة (قوانين) حمورابي قد نزلت وحيًا من السماء.

وبنظرة أشمل للموضوع لا بد من معرفة أن طبيعة الدولة الدينية تعتمد على نوع الدين التي هي منسوبة إليه، وعلى هذا تعتمد الإجابة عن كونها يمكن أن تكون إسلامية أو غير إسلامية. وأنواع الدين الذي يمكن أن تنْسَب إليه الدولة هي أربعة على الأقل.

كان أول من سك مصطلح "ثيوقراطية" هو جوزيفوس فلافيوس في القرن الأول الميلادي لوصف الحكومة القائمة عند اليهود. جادل جوزيفوس بأنه في حين يعترف اليونانيون بثلاثة أنواع من الحكم: الملكية، الأرستقراطية، والفوضوية، كان اليهود فريدون في كون نظام الحكم لديهم لا يندرج تحت أي من أنظمة الحكم الأنفة. لقد فهم جوزيفوس الثيوقراطية على أنها شكل رابع من أشكال الحكومة يكون فيه ما يقوله الله في كتابه المقدس هو فقط مصدر الحكم. ومع حلول حقبة التنوير في أوروبا، بدأت الثيوقراطية تأخذ دلالة سلبية بشكل كبير، خصوصاً على يد الفيلسوف الألماني هيجل.

وكان هناك نوعين من الدولة الدينية تاريخياً، هما :
1- دول أو مرجعيات قام بها الأنبياء لضرورات إيصال رسالتهم الربانية إلى البشر: كان فيها تواصل بين هؤلاء الأنبياء وربهم خطوة بخطوة وعليه لم يكن هناك إمكانية لمحاسبة الأنبياء على قراراتهم لأنها من الله تعالى، ولم تكن هذه الدولة بأي شكل دولة ديكتاتورية أو تسلطية أو تمتهن كرامة إنسان، وانتهى هذا الشكل بانتهاء عهد النبوات. وعليه لا يمكن إعادة هذه التجربة من بشر عادي لان البشر خطاؤون. ومن أمثلة هذه الدول: دولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وملك داود وسليمان عليهما السلام.
2- دول ومرجعيات قامت على أساس ديكتاتوري أو ثيوقراطي: ترعى مصلحة فئة متنفعة على حساب الناس وتحكمهم بما يتوافق مع مصالحها وليس مع مصالحهم، واتخذت الدين (سواء أكان سماوياً أم غير ذلك) رداءاً لها لصد اعتراضات الناس على ظلمها لهم، ومن الظلم نسب هذه الدول إلى الدين سواءاً أكان ذلك بحسن نية أو بسوء نية، حيث كان هناك تجارب لمثل هذه الدول قديماً وحديثاً بدون أن يكون الرداء الذي تتقي به سهام النقد دينياً مثل تجارب: اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، كوريا الشمالية الآن، تجارب القائد الملهم الثوري القومي أو الاشتراكي في بلاد العرب، تجارب الحكام الثوريين في جمهوريات الموز في أمريكا الوسطى.(2) ومن الأمثلة على دول اتخذت الدين رداءا لتبرير تسلطها : جارب الإمارات الأوروبية المدعومة من الكنيسة في عصر ما قبل النهضة.

أولاً: نظريات الدولة الثيوقراطية

هناك عدد من النظريات التي تفسر نشوء الدولة على أساس ديني، ومن هذه النظريات:
1 ـ نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم: هذه النظرية تقول: إن الله موجود على الأرض يعيش وسط البشرِ ويحكمهم، ويجب على الأفراد تقديس الحاكمِ، وعدم إِبْدَاء أَيّ اعتراض. هذه النظريةُ كانت سائدة في المماليك الفرعونية، والإمبراطوريات القديمة، وبعض مراحل الدولةِ الفاطمية.
2ـ نظرية الحق الإلهي المباشرِ: هذه النظرية تقول: إن الحاكم يختار وبشكل مباشر مِن الله» أَي: أِن الاختيار بعيدًا عن إرادة الأفراد، وأَنه أمر إلهي خارج عن إرادتِهِم, وهذه النظرية تقول: الحكام يستمدون سلطانهم من الله مباشرة, ولَا يجوز للأفراد مساءلة الحاكمِ عن أي شيء. وهذه النظرية هي التي تبنتْها الكنيسة في فترة صراعِها مع السلطة الزمنية، كما استخدمها بعض ملوك أوروبا ـ خاصةً فرنسا ـ لتدعيمِ سُلطانهم على الشعب.
3 ـ نظريَّةُ الحقِّ الإلهيِّ غيرِ المباشرِ: الحاكم من البشرِ، لكن في هذه النظرية يقوم الله باختيارِ الحاكمِ بطريقة غيرِ مباشرة من خلال النصوص، وتكون الأمة مسيرة لا مخيرة في اختيارِ الحاكمِ أَي: مسيرة من النصوص.

وهكذا أصبحت الكنيسة (الدين) مؤسسة يرتكز عليها الاستبداد والطغيان والفساد والتخلف الذي استشرى في أوربا، ولقد استقر هذا الأمر في عقول دعاة الإصلاح الذين عملوا على إنقاذ أوربا من ذلك الوضع التعس، وهنا أصبحت الكنيسة (الدين) العدو الأول لدعاة الإصلاح، وعلى هذا الأساس عمل دعاة الإصلاح الأوربيون على وضع النظريات والأفكار التي تمهد الطريق لتحرير شعوبهم من طغيان الكنيسة، وجهد مناوئو الكنيسة في التنظير لتعضيد جانب السلطة الدنيوية (الإمبراطور)، وقد كان قصب السبق في الدعوة لتفوق السلطة الدنيوية للفيلسوف الإيطالي مارسيليوس البادوي (1275- 1343م) حيث دعا في مؤلفه الشهير (المدافع عن السلام) إلى تقويض سلطة الكنيسة، و تبنى مفهوماً دنيوياً للدولة، كما سعى إلى نسف المضمون الديني لمقولة الأمة المسيحية، ولقد كان من شأن رفضه لوجود أي صلة بين مجال عمل الدولة ومجال عمل الكنيسة أن حطم توليفة العالم المسيحي لوحدة الروح والجسد، مؤكداً على أنه بوسع الكنيسة أن تشغل نفسها بالوظائف الشعائرية والاحتفالية كإقامة القداسات والوعظ وتحذير أصحاب الخطايا، ولكن حيثما تتعلق القضايا بأفعال البشر المادية، فإن السلطة الشرعية تنحصر فقط في الحكومة، وعليه شدد مارسيليوس على أن الدولة هي المصدر السيادي الأعلى للقانون.

وفي أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر ظهرت حركة إصلاحية دشنتها البروتستانتية بزعامة مارتن لوثر (1483-1546) والتي جاءت كرد فعل عنيف لتسلط البابا والرهبان، ولما اعتبرته الحركة الإصلاحية انحرافاً عن المسيحية الحقة، حيث أن الكنيسة (في رأي الحركة الإصلاحية) لم تعد موصولة الجذور بتعاليم الرسل، وأن عليها أن تتجاوز سلطة البابا الدنيوية وأن تعود بشكل صارم إلى سلطة الكتاب المقدس وحده، وليس للكنيسة إلا أن تمارس طقوس وشعائر التنصيب لتصبح طرفاً في إضفاء الشرعية الدينية على الحكم، وأن الاستبداد والظلم الذي يمارسه الحكام والذي بنت عليه الكنيسة حقها في التدخل في شؤون الحكم والسيطرة عليه إنما هو نتيجة الطبيعة البشرية الفاسدة، ولذا يجب أن يكون الحكم بيد ما أسموه السلطة الدنيوية لا السلطة الدينية وإن فسد الحكام.

ثانياً: العوامل التي أدت لأفول نجم الدولة الثيوقراطية:

ظهر مفهوم الدولة العلمانية، أو بعبارة أكثر دقة النظام السياسي العلماني نتيجة ثلاثة عوامل:
الأول: ردة فعل لسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على السلطة السياسية وتدخلها في تنصيب الملوك وعزلهم بل تقييد حياتهم الشخصية مثل الزواج والطلاق كما في نموذج هنري الثامن ملك بريطانيا (1491-1547) وخروجه على الكنيسة ليتسنى له الزواج للحصول على وريث ذكر للعرش، لذلك قام بالزواج السادس وبالنظر لاعتراض الكنيسة الكاثوليكية فقد قام بإصلاح ديني في بريطانيا ومن هنا تحولت بريطانيا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية.

الثاني: ما عرف في الفكر السياسي باسم "الحق الإلهي للملوك"، وهي نظرية موازية للسيطرة المطلقة للكنيسة على الشئون الدينية.
وقد أدت نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك إلى نشوء الديكتاتورية والاستبداد السياسي، ومن ثم فإنه مع تطور المجتمعات أحدث ذلك رد فعل مضاد سواء من طبقة الإقطاع التي سعت إلى الحصول على نصيب من القرار السياسي، أو الطبقة البرجوازية التي سعت للحصول على نصيب اقتصادي ثم سياسي، أو الطبقة العاملة التي سعت إلى الشيء نفسه.

الثالث: الحروب الطاحنة على مدى ثلاثين عاماً بين الدول الملكية الكاثوليكية، والدول البروتستانتية وخصوصاً في ألمانيا (1618-1648) وحرب الثمانين عاماً بين اسبانيا الملكية وهولندا التي أعلنت الجمهورية آنذاك (1568-1648) وانتهت لاعتراف اسبانيا بالجمهورية الهولندية وانتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648.
ويضاف إلى ما سبق مخلفات الفكر الكنسي الاستعماري المرتبط بظاهرتين: الأولى: الحروب الصليبية باعتبارها حرباً مسيحيةً مقدسةً ضد المسلمين؛ والثانية: الحروب الاستعمارية وارتباطها بظاهرة التبشير الديني المسيحي الذي جاء كرد فعل أوروبي مسيحي على انتشار الإسلام والفتوحات الإسلامية.

ويعتبر صلح وستفاليا أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة وقد أرسى نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى مبنياً على مبدأ سيادة الدول. مقررات هذا الصلح أصبحت جزأ من القوانين الدستورية للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وكان من أهم ما أقرته معاهدة ويستفاليا بوضوح مبدأ السيادة وعدم تدخل الممالك الأوربية في شؤون بعضها البعض، وقامت على هذا الأساس الدولة القومية التي تضع قوانينها على أساس حق المواطنة بغض النظر عن الدين، هذا المبدأ الذي تطور لاحقاً ليضم إلى جانب عدم التمييز على أساس ديني، عدم التمييز على أساس الجنس أو اللون أو اللغة أو العرق.

مهد ذلك الطريق أمام ظهور نظريات كبرى، وبروز رؤى علمانية أكثر جسارة في هدم الأساس الديني للسلطة السياسية، ومنها نظرية العقد الاجتماعي التي كان من أشهر روادها توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، وخلاصة هذه النظرية أنها تقوم على نقيض نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك سواءً المباشر أو غير المباشر، وذلك بهدف إقصاء الكنيسة نهائياً عن التدخل في شؤون السياسة والحكم، ولقد انطلقت نظرية العقد الاجتماعي من مفهوم بسيط بهدف تمكين الشعوب الأوربية من التخلص من قيود الكنيسة في الشأن السياسي، وهذا المفهوم هو أن الدولة ليست من خلق الله وإنما هي من صنع البشر وأنها جاءت نتيجة عقد بين الناس، إذ كانوا يعيشون في مرحلة بدائية لا دولة فيها، ودفعتهم المصلحة المشتركة إلى إنشاء المجتمع المدني أي الدولة حيث اتفق الناس على طاعة قوانينها.

المبحث الثاني: مفهوم الدولة المدنية:

فكرة الدولة المدنية، هي نتاج التطور التاريخي، الذي ارتبط بمرحلة الرومانسية، التي هيأت السبل، لاندلاع الثورة الصناعية. وهي جزء من سيرورة عصر الأنوارـ وأساسها التبشير بنشوء دول حديثة تقوم على مبادئ المساواة ورعاية الحقوق، وتنطلق من قيم وضوابط في الحكم والسيادة. وتبلورت فكرة الدولة المدنية عبر إسهامات متعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية. (3)

ومفهوم الدولة المدنية يقابله مفهوم الدولة الدينية. وتستند الدولة المدنية إلى احترام حقوق المواطنين على أساس مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، بغض النظر عن انتماءاتهم الأولية: الدينية واللغوية والعرقية، وذلك على أساس أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ في دولة تكون فيها النزعات الأولية، العرقية واللغوية والدينية، مبالغاً فيها لدى أفراد الجماعات المكونة لهذه الدولة، بحيث يفتقرون إلى الإحساس بالأمة الواحدة وإلى الاعتراف بحقوق الآخرين. ومن ثم، فإن وصف الدولة الديمقراطية المستهدفة بأنها دولة مدنية يعني أنها تقوم على مبدأ المواطنة، التي ترتب لكل المواطنين حقوقاً وواجبات متساوية، كما أنهم يتعاونون معاً في إطار المجال العام (المدني)، ويقومون بإدارة شئونهم من خلال الأحزاب والنقابات وعديد من التنظيمات الوسيطة. مثل هذا التضافر والتعاون والذي سماه توكفيل "فن الترابط" Art of Association أو "فن الاجتماع"، هو الذي يدعم المجتمع المدني، الذي يمثل بنية أساسية للنظام الديمقراطي. (4) فالدولة المدنية تعني إقامة دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة، حيث يشارك المواطنون في إدارة شئونهم من خلال المستويات المختلفة للتنظيمات النقابية والحزبية، وفي إطار مجال عام يتسم بالحرية والمساواة والعدالة.(5) وفي الدولة المدنية، يؤسس القانون قيمة العدل، والثقافة قيمة السلام الاجتماعي، والمواطنة قيمة المساواة.(6)

ظهرت فكرة الدولة المدنية عبر محاولات فلاسفة التنوير تهيئة الأرض ــ فكرياً ــ لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية في الحكم والسيادة.. ولقد تبلورت فكرة الدولة المدنية عبر إسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية.(7)

إن فكرة الدولة المدنية تنبع من إجماع الأمة ومن إرادتها المشتركة. وإذ تتأسس الدولة المدنية على هذا النحو فإنها تصبح دولة توصف بأوصاف كثيرة من أولها أنها دولة القانون. التي تعطى فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، فلا يكون فيها التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق، وهي كذلك التي تضمن كفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية واحترام التعددية، والتداول السلمي للسلطة، وأن تستمد السلطة شرعيتها من اختيار الجماهير، وتخضع للمحاسبة من قِبَل الشعب أو نوابه.

أولاً: خصائص الدولة المدنية
للدولة المدنية أربع خصائص، وهي:
1- مبادئ العدل:
فمن الشروط الأساسية في قيام الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فثمة دائماً سلطة عليا هي سلطة الدولة،ـ يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. هذه السلطة هي التى تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم. ومن ثم فإنها تجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعاً.
2- الثقافة المدنية:
من خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام مدني من العلاقات التى تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. إن هذه القيم تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أي وجود حد أدنى من القواعد التى تشكل خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون (وهو يشكل القواعد المكتوبة). وتأتي بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.
3- المواطنة:
لا تستقيم الدولة المدنية إلا بشيوع مبدأ المواطنة، ويتعلق هذا الشرط بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة. فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته, وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
4- الديمقراطية:
إن الديمقراطية هى وسيلة الدولة المدنية لتحقيق الاتفاق العام والصالح العام للمجتمع كما أنها وسيلتها للحكم العقلاني الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها. فالديمقراطية هي الطريق نحو التقدم الدائم. ولا تتحقق الديمقراطية إلا بقدرة الدولة المدنية على تطوير مجال عام أو ميدان عام.
ثانياً: الدولة المدنية والدين:

لا تعادي الدولة المدنية، العقائد أو ترفضها، فهي الباعث والمحرض على الصدق والأخلاق والاستقامة والالتزام. والعمل والإنجاز والنجاح في الحياة. إن ما ترفضه هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، والاستغراق في تفسيرات تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الضيقة. من ثم فإن الدين ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح، ولكنه طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد مبادئ الأخلاق وحب العمل.(8)

فالدولة المدنية لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. إن الدين يظل في الدولة المدنية عاملاً أساسياً في بناء الأخلاق وفى خلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. هذه وظيفة للدين أصيلة في كل المجتمعات الحديثة الحرة.. ومن ثم فليس صحيحاً أن الدولة المدنية تعادي الدين أو ترفضه. فالدين جزء لا يتجزأ من منظومة الحياة وهو الباعث على الأخلاق والاستقامة والالتزام، بل إنه عند البعض الباعث على العمل والإنجاز والنجاح في الحياة. ينطبق ذلك على الإنسان في حياته اليومية كما ينطبق على رجال السياسة بنفس القدر.(9)

إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية, فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، فضلاً عن أنه ــ وربما يكون هذا هو أهم هذه العوامل ــ يحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة. من ثم فإن الدين في الدولة المدنية ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح، ولكنه يظل في حياة الناس الخاصة طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد في حياتهم مبادئ الأخلاق وحب العمل وحب الوطن والالتزام الأخلاقي العام.

المبحث الثالث: الدولة المدنية والحداثة:

يرى آلان تورين أن جوهر الحداثة هو العقلانية, وحينما ترجمت إلى مجال الفكر أعطت العلمانية, وفي مجال الاقتصاد أعطت الرأسمالية وفي السياسة أعطت الديمقراطية. ولأن الديمقراطية تطبيق للعقلانية فذلك يعني أنها أقل النظم تكلفة من الناحية الاجتماعية.(10)

أولاً: مفهوم الحداثة السياسية:
إن مصطلح الحداثة ظهر لأول مرة سنة 1832، وهو مصطلح ذو دلالة واسعة يشمل كذلك معاني الجديد والراهن ويستعمل كنقيض لمفهوم القديم والعتيق وينطبق على فترة تاريخية معينة هي فترة الأزمنة الحديثة التي تمتد من عصر النهضة إلى نهاية القرن الثامن عشر.(11)

إن تعريف الحداثة السياسية يمر بالضرورة عبر تعريف الدولة الحديثة وهو ما يمكن القيام به إلا بعد تعريف نقيضها، أي الدولة العتيقة التي يقصد بها باربيي" مجموعة بشرية منظمة أو جماعة سياسية تتوفر على الحاجيات الأساسية للعيش وتتمتع بالاكتفاء الذاتي وذلك بغض النظر عن حجم إقليمها وساكنتها. وتستلزم الدولة العتيقة من جهة أخرى وجود سلطة تقود وتحكم هذه الجماعة التي يبقى أفرادها مجرد أجزاء من الكل (الجماعة) إذ ليس لهم استقلال ذاتي. ويترتب على ذلك أولوية الجماعة على الأفراد الذين لا وجود لهم خارج إطار الجماعة حيث تنتفي قدرتهم على المبادرة والفعل.

وعلى النقيض من ذلك تتأسس الدولة الحديثة على كيان منقسم إلى عنصرين متمايزين: الدولة بالمعنى الدقيق والتي تحيل على الفضاء السياسي من جهــــــــــــة والمجتمع بالمعنى الضيق والذي يشكل ما يسمى بالمجتمع المدني من جهة أخرى. ويؤدي هذا الانفصال بين الدولة والمجتمع إلى ظهور مجالين متمايزين: مجال عام أي مجال الدولة ومجال خاص أي مجال المجتمع، وبالموازاة مع ذلك يصبح للإنسان بدوره كيانين متكاملين، فهو مواطن من حيث كونه عضو في الدولة وهو ما يسمح له بالمشاركة في الحياة السياسية ومن جهة أخرى فهو فرد ويتمتع بموجب هذه الصفة بالحرية الفردية التي تتيح له أن يعيش حياته الشخصية التي يمارس فيها أنشطته الخاصة. وبالتالي فإن الفصل بين الدولة والمجتمع يتيح للإنسان الانفلات من قبضة الجماعة والتمتع بحقه في الوجود كفرد مستقل.

لقد شكل عصر الأنوار قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات:(12)
1 – العقلانية: باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته .
2 – التاريخانية: أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحوّل، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحل لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم.
3 – الحرية: كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد .
4 – العلمانية: أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية.

فمفهوم الحداثة السياسية يتأسس على الفصل بين الدولة والمجتمع وهو فصل تكون له انعكاسات على مستويين: (13)
- مستوى علاقة الإنسان بالدولة وهو ما يتجلى في ظهور المواطن.
- ومستوى علاقة الإنسان بالمجتمع وهو ما يتجلى في ظهور الفرد.

وبذلك يتضح أن تعريف الحداثة السياسية باعتبارها انفصالاً بين الدولة والمجتمع مجرد عنوان لمنظومة فكرية متكاملة تتقاطع فيها مجموعة من الثنائيات: الدولة والمجتمع، المجال العام والمجال الخاص، المواطن والفرد، الحياة العامة والحياة الخاصة.

ثانياً: مسيرة الحداثة السياسية وتجلياتها:
بدأت الحداثة السياسية تظهر خلال القرن 17 عبر مجموعة من المحطات وخاصة في انجلترا التي عرفت مجموعة من الوثائق التي تصب في اتجاه الاعتراف بحقوق الأفراد, ويتعلق الأمر بـ :
-العهد الأعظم سنة1215.
-عريضة الحقوق لسنة1628.
-إعلان الحقوق لسنة1689.

هذه الحقوق هي مؤشرات على بداية ظهور الفرد كذات مستقلة في وجودها عن الدولة وهو ما يمهد للفصل بين الدولة والمجتمع، وبالتالي فتح الباب أمام الحداثة السياسية.

وقد وجد هذا التطور المحتشم والمحدود جغرافياً، امتداداً وصدى في الفكر السياسي لدى كل من سبينوزا الذي دافع عن حرية التعبير والتفكير لدى الفرد كضمانة لاستقلاليته اتجاه المجتمع والدولة. إضافة إلى جون لوك الذي أسس علاقة المجتمع والسلطة على مفهوم العقد الاجتماعي الذي يتأسس على إدارة الأفراد. ثم لدى مونتسكيو الذي أسس مفهومه للحرية السياسية على ضرورة وجود مسافة بين المواطن والإنسان من جهة، وبين الدولة والسلطة من جهة أخرى. وهو ما أمكن معه ظهور مجال خاص (بالفرد) ينفلت من مراقبة السلطة ويتمتع بنوع من الاستقلالية فاتحاً بذلك الباب أمام الفصل بين الدولة والمجتمع.

ثالثاً: علاقة الحداثة السياسية بالديمقراطية:
حينما كان فلاسفة السياسة القدماء يبحثون عن نظام الحكم الأصلح للبشر‏,‏ كانوا في الغالب ينفرون من الديمقراطية‏.‏ فهو نظام حكم يقوم على استغلال عواطف الناس، وعلى التلاعب وإطلاق الشائعات. فرجل الدولة في الحكم الديمقراطي يكون بالضرورة ديماغوجي في نظر أفلاطون الذي يشبهه بطباخ الأطفال الذي يعد لهم دائماً أطباق الحلوى التي تسعدهم ولكنها تضر بصحتهم.(14)

رابعاً: الطابع الإشكالي لعلاقة الحداثة السياسية بالديمقراطية:
يتأسس الطابع الإشكالي لعلاقة الحداثة السياسية بالديمقراطية على التساؤل التالي: هل الحداثة السياسية نتيجة للنظام الديمقراطي أم سبب له؟ هناك اختلاف في معايير الحكم الديمقراطي عن معايير وأسس الحداثة السياسية، فقواعد الديمقراطية مثل الفصل بين السلطات والاقتراع العام والحرية السياسية غير كافية لظهور الحداثة السياسية التي تستوجب تحقق الانفصال الثلاثي الأبعاد السالف الذكر بين الدولة والمجتمع المدني، بين المجال العام والمجال الخاص، وأخيراً بين المواطن والفرد. فإنشاء الدولة الحديثة هو شرط للتحول نحو الديمقراطية. فأهم ما يميز الديمقراطية، على حد تعبير الفيلسوف نانسي، هي أنها روح قبل أن تكون نظاماً. ولهذا فهي تظل دائماً حاملة لتطلعات البشر.(15)

إن رؤية باريبي لإشكالية العلاقة بين الديمقراطية والحداثة السياسية تثير ملاحظتين أساسيتين:(16)
1- الديمقراطية نتيجة للحداثة السياسية وليست سبباً لها، مما يعني أن قواعد النظام الديمقراطي لا تأخذ معناها الحقيقي إلا في إطار الدولة الحداثية، وهو ما يعني أيضاً أن إرساء قواعد الديمقراطية (الاقتراع العام، فصل السلطات والحريات العامة) في إطار دولة غير حداثية بالمعنى الذي حدده باربيي لا يؤدي بالضرورة إلى الحداثة السياسية.
2- تأسيساً على الملاحظة الأولى وإذا قبلنا أن قواعد الديمقراطية لا معنى لها بمعزل عن الدولة الحديثة، فلا بد من القول أن علم الانتقالوجيا يواجه أزمة مفاهيم مادام يستعمل مفهوم التحول أو الانتقال الديمقراطي للدلالة على العملية السياسية التي تقوم من خلالها دول غير ديمقراطية (وضمنياً غير حداثية) باعتماد وتبني آليات وقواعد الحكم الديمقراطي السالفة الذكر.إذ كيف يمكن للاقتراع العام وفصل السلطات والحرية السياسية التي لا معنى لها خارج الدولة الحداثية أن تؤدي إلى الديمقراطية في دول تفتقر إلى مقومات الدولة الحديثة؟

المبحث الرابع: الدولة المدنية وثقافة المواطنة:

أول من قال بالمواطنة، هو الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي اعتبرها من أساسيات المجتمع المدني Civil Society واقتصرت ممارستها على أناس مؤهلين Qualified. استثنى أرسطو العبيد والنساء والبرابرة، من ممارسة المواطنة، باعتبارهم "غير مكتملين إنسانيا". (17)

أولاً: المواطنة:
المواطنة مفهوم مشتق من الوطن، يرتبط في تطبيقاته بالدولة الحديثة، التي نتجت عن عصر الأنوار الأوروبي، والثورة الصناعية، والثورات الاجتماعية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحديداً مع الثورة الفرنسية عام 1789. فالمعنى كما هو مستخدم الآن، وافد من خارج الإطار المعرفي العربي.
وبالمعنى المعاصر فإن ثقافة المواطنة تعني، من بين أشياء أخرى:(18)
- خلق رابطة روحية وثقافية عبر الزمن مع المكان، من خلال الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي للناس، أي تاريخ المواطنين أنفسهم، وخبراتهم وتجاربهم وثقافتهم المادية والمعنوية.
- بث روح المسؤولية تجاه الحيز المكاني للوطن، والحرص على استدامة الموارد الطبيعية والثقافية والمعنوية للبلاد، باعتبارها ملكاً مشتركاً بين الأجيال الحالية والأجيال القادمة.
- تعلم مبادئ وأساسيات إدارة العلاقة بين المواطنين أنفسهم. فالوطن ليس مجرد رقعة أرض وإنما هو أيضاً علاقات بين المواطنين أنفسهم، وبين هؤلاء ووطنهم.
كما يشير مفهوم المواطنة إلى المساواة والندية وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتصبح عنوان الهوية.
التطورات التاريخية، والثورات الاجتماعية فرضت الانتقال، من المفهوم القديم الذي سادت فيه الإمبراطوريات، والحكم المطلق، والذي يعتبر الفتح، بالرضا أو القوة، من أساسيات نشوء الكيانات الكبرى، إلى مفهوم الدولة المبني على العلاقة التعاقدية.

عناصر المواطنة، هي الأرض والسيادة والعقد الاجتماعي. هذه التطورات لا يوجد ما يماثلها في البلدان العربية، بسبب مورثات ثقافية سكنت في اليقين طويلاً؛ ولتعطل النمو في الهياكل الاجتماعية، الذي هو نتيجة طغيان الاستبداد العثماني على الأمة، لقرون عديدة.

مبدأ "المواطنة" يعتبر الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي. وتستند المواطنة، على مشتركات ثقافية. ويعزو الباحثون بروز هذا المبدأ، بظهور الدولة الحديثة، التي ارتبطت بعصر القوميات، ونشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة من خلال اعتراف الجيران وبقية دول العالم بسيادتها ضمن هذه الحدود. وإلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى ونشوء عصبة الأمم، استمر الاعتراف عملياً بحق الفتح، الذي يتيح للإمبراطوريات التوسع في ممتلكاتها، على حساب الأمم الأخرى.

في ظل دولة المواطنة، يعيش المنتمون للدولة، تحت خيمة الوطن، يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديموغرافي أو الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزاً في الحقوق على الآخرين. والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلاً إيجابياً، يضيف قوة للمجتمع ولا يأخذ منها .

العقد الاجتماعي، ركن أساسي في دولة المواطنة، وترسخ حضوره، بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) الذي وضع تصوراً متكاملاً عن فكرة العقد. وقد أثرت نصوصه في صياغة الدستور الأمريكي، عام 1784. لم يكن روسو أول من تنبه لفكرة العقد الاجتماعي، فقد تأثر بكتاب الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة للكاتب الانجليزي، توماس هوبز (1588-1679)، وبكتاب «اتفاقيتان» للكاتب الإنجليزي جون لوك (1632-1704). وكتاب «روح القانون» لمونتيسكيو. (19)

تصور هؤلاء الفلاسفة أن الدولة ينبغي أن تقوم على نظام اجتماعي تعاقدي، يعبر عن توافق أبناء الأمة، ويمثل الإرادة العامة للمجتمع. وقد طور روسو هذه النظرية، لتتحول مع الأيام، إلى تعبير عن سيادة دولة القانون، واحتكار الدولة لسلطة الإلزام.

وفقاً لعقد روسو، يتساوى جميع أعضاء المجتمع السياسي، ويشتركون في ملكية أرض الوطن وموارده. وهم أيضاً شركاء في القرارات المتعلقة بهم كمجموعة. والفرد حر في أفعاله، إذا لم ينص القانون بخلاف ذلك. ومهمة القانون والدولة، هي ضمان حريات الأفراد وحقوقهم، والمجتمع هو فوق الدولة وهو سيدها.
تطور مفهوم المواطنة لاحقاً، ليتضمن دولة الرفاه Welfare state، حيث لكل مواطن حق في الرعاية. والدولة تضمن كفالة الذين لا يتمكنون من الاعتماد على أنفسهم: كالأطفال، والمرضى، وكبار السن، والعاجزين، والعاطلين عن العمل. وقد أضاف هذا التطور، حقوقاً اقتصادية لمفهوم المواطنة، إضافة إلى الحقوق السياسية.

سيظل مفهوم المواطنة والدولة الحديثة، مغيباً في فكر تيارات الإسلام السياسي، باختلاف تشعباتها، ما لم تحدث نقلة نوعية في بنيتها ومنطلقاتها، بحيث تتمكن من تجاوز غربتها التاريخية. إن ذلك يستدعي تغييراً في المرتكزات الثقافية والفكرية التي تستند عليها هذه التيارات، وقبول فكرة التعدد والتسامح والتعايش السلمي مع الآخر، بما يعزز مفهوم الشراكة والتوافق الوطني. وهو وحده سبيلها، إذا أرادت التخلص من غربتها، والعيش في القلب من أوطانها وليس على هوامش التاريخ. (20)

المبحث الخامس: مفهوم المجال العام:

المجال العام هو فضاء في الحياة الاجتماعية حيث يتجمع الناس معاً, ويناقشون بحرية المشكلات المجتمعية بعد أن يحددوها, ومن خلال مناقشاتهم يؤثرون على الفعل السياسي أو بعبارة أخرى على السياسات والقرارات الحكومية.(21)

ويعد مفهوم المجال العام واحداً من المفاهيم التي جرى الاعتماد عليها في قراءة العلاقة بين السلطة والمجتمع في المجالات السياسية الحديثة، خاصة بعد أن تمت ترجمة كتاب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس للإنكليزية «التحول البنائي للمجال العام» عام 1989، الذي عرف من خلاله هذه المفهوم، بوصفه فضاء يتجمع فيه الأفراد لتشكيل ما يقترب من الرأي العام حول احتياجات المجتمع من الدولة، وللنقاش حول المسائل العامة بشكل عقلاني.

وقد اعتمد هابرماس في تأكيد أطروحته هذه على خصوصية النطاق العام التي ظهرت في خلفية ما قبل الحداثة الأوروبية، التي شيد عليها المجال العام البرجوازي، في إطار ازدهار المجتمع المدني والتجاري، الذي ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، والتي أدت إلى تصور جديد للمجال العام آنذاك بشكل عبر عن وجود مجتمع مدني منفصل عن الدولة. ووفقاً لهذا التصور والتقيد الصارم بهذا التاريخ على تعريف الحيز العام، بوصفه مثالاً معياريا في الحوليات الغربية، فان هذه الرؤية اعتقدت بأن المجتمعات المدنية والمجالات العامة خارج أوروبا الغربية، لم تستطع أن تتطور نظراً إلى خضوعها لنير تقاليد الدولة المستبدة / أو بسبب الثقافة الدينية التي تحول دون مقاومة المجتمعات لتلك الدول القمعية.

الإشكالية في هذا الطرح، أن هابرماس قد فشل من خلال هذا المنحى البحثي الذي اعتمده، في ملاحظة أن ثمة جذوراً مهمة لفكرة المجال العام الحديث تكمن في النظرية السياسية الكلاسيكية وكذلك في الممارسات التراثية، كما أنه قلل من الدور الذي لعبه التراث الديني في تكوينه. في حين أن منظرين آخرين قاموا بتغطية هذه الفجوة، أمثال أستاذ علم الاجتماع الإيطالي في جامعة نابولي أرماندو سالفاتوري في كتابه المهم للغاية الذي ترجم للعربية بعنوان «المجال العام: الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام» وغريغ كالهون – كل من زاويته – عبر التأكيد على أن فكرة وجود المجال العام، هي في الأساس ذات مسارات تطورية طويلة الأمد يمكن تتبعها في ثقافات وحضارات أخرى، ولذلك سعوا من خلال هذا الطرح إلى فكرة ضرورة البحث عن محاولات داخل صور مختلفة من التراث، كصور سابقة للفكرة الحديثة للمجال العام.

المجال العام مصطلح يطلق على مجال النقاش والتداول العام الذي يحقق التواصل الاجتماعي بين الجماعات المختلفة والآراء المختلفة. ويضم المجال العام مجالات فرعية للنقاش والحوار، تبدأ من الصالونات الفكرية وتتدرج عبر الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة وصولاً إلى النقاشات التى تدور في أروقة النقابات المهنية وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية.

فالمجال العام هو الذي يلهم المجتمع الأساليب القويمة في التفكير والتدبر العام والتواصل الجمعي. إنه يحول المناقشات المتفرقة إلى مناقشات تصب في هدف عام، وتتم وفق قواعد وأصول عقلية بحيث لا يتحول النقاش إلى فوضى، طالما أنه يقوم على العقل والبصيرة والتدبر والقدرة على التفاوض وتقديم الحلول والمرونة في الاستجابة لأفكار الأطراف الأخرى.

المجال العام والمجال الخاص:
تعود أول النقاشات التي تناولت الانقسام بين المجالين العام والخاص إلى اليونان القديمة، حيث كان يُشار إلى ما هو عام بوصفه مجال السياسة وإلى ما هو خاص بوصفه مجال العائلة ومجال الحياة الاقتصادية. وقد عاد المنظّرون السياسيون المحدثون إلى فكرة العام في محاولاتهم تنظير الحكم الديمقراطي. فمنذ القرن الثامن عشر فصاعداً، نسبت النظرية السياسية الليبرالية إلى المجال العام سلسلة من الوظائف الديمقراطية: مهمة تقويم الآراء وصياغتها، مناقشة معنى السياسة وإعادة تعريفها، وإجبار الدولة على تسويغ أفعالها.

ولعلّ يورغن هابرماس أبرز المنظّرين المعاصرين لهذه الوظائف السياسية. فبحثه التاريخي الباكر في التحول البنيوي الذي اعترى المجال العام منذ القرن الثامن عشر كان بحثاً أساسياً بالنسبة لجميع الجدالات اللاحقة ([1962] 1989). والسؤال السياسي الأساسي الذي يطرحه المجال العام هو، بالنسبة لهابرماس، كيف يمكن تعزيز مشاركة واسعة النطاق ومتكافئة إلى هذا الحدّ أو ذاك في الخطاب العقلاني–النقدي حول غايات المجتمع الحقيقية. وهو يرى أنّ المجال العام قد خُلِقَ إلى حدٍّ بعيد لأغراض تتعلق بتناول مسألة الدولة وتلك الضروب من القضايا العامة التي يمكن أن تتوجه إليها أو تتعلق بها سياسة الدولة.

ويمكن القول إن 'المجال العام' يتوسط بين 'المجال الخاص' و'مجال السلطة العامة'. والمجال الخاص يتضمن المجتمع المدني في معناه الضيق, ونعني عالم التبادل السلعي والعمل الاجتماعي. في حين أن مجال السلطة العامة يتعلق بالدولة, أو مجال الشرطة, والطبقة الحاكمة.

والمجال العام يعبر كلاً من المجال الخاص ومجال السلطة العامة من خلال آلية الرأي العام الذي يجعل الدولة بصيرة بحاجات المجتمع. وهو بهذه الصورة يتميز عن الدولة, لأنه مجال لإنتاج الخطابات التي يمكن من ناحية المبدأ أن تكون ناقدة للدولة. وهو أيضاً يتميز عن الاقتصاد الرسمي, لأنه ليس مجالاً لعلاقات السوق, ولكنه مجال للعلاقات الخطابية والعلاقات بين خطابات مختلفة إيديولوجياً, هو مسرح للجدل والنقاش وليس مجالاً للبيع والشراء.

ويتناول البحث المعاصر المتركّز على المجال العام عدداً من القضايا المهمة: اتساع المشاركة السياسية، وجود مجالات عامة متعددة أو متداخلة، تأثر وسائل الاتصال الحديثة، ونوعية الخطاب النقدي–العقلاني وعلاقته بالنشاطات المشكّلة للثقافة وهذه القضايا هي أيضاً موضع بحث في النقاشات التي تتناول المجال العام الدولي، وتلحّ على موضوعات مثل حقوق الإنسان، والتحول الديمقراطي، وتدفّق رؤوس الأموال والاستثمارات.


المراجع:
1- إمام، إمام عبد الفتاح(1994)، الطاغية: دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، الكويت: عالم المعرفة، ص160.
2- دي توكفيل، ألكسي(1997)، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة: أمين مرسي قنديل، القاهرة: عالم الكتب.
3- مكي، يوسف(2014)، مفهوم المواطنة بين الأيديولوجيا وبين الرؤية المدنية للدولة، مجلة اليوم، العدد 14868، تاريخ 28/1/2014، على الرابط: http://www.alyaum.com/article/3123865.
- 4S. N. Eisenstadt،Framwarks of Great Revolutions،Culture،History and Human Agency.International social science journal،No. 133،(August 1992) PP. 385-401.
5- فوكوياما، فرانسيس(1993)، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة: حسين أحمد أمين، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ص180- 186.
6- مكي، يوسف(2014)، مفهوم المواطنة بين الأيديولوجيا وبين الرؤية المدنية للدولة، مرجع سابق.
7- زايد، أحمد(2013)، ماذا تعني الدولة المدنية، جريدة الشروق، 29/11/2013. على الرابط: http://www.dawlamadaneya.com/ar/index.php/articles/37-2011-05-04
8- مكي، يوسف(2014)، مفهوم المواطنة بين الأيديولوجيا وبين الرؤية المدنية للدولة، مرجع سابق.
9- زايد، أحمد(2013)، ماذا تعني الدولة المدنية، جريدة الشروق، 29/11/2013. على الرابط: http://www.dawlamadaneya.com/ar/index.php/articles/37-2011-05-017-14-46
10- مغيث، أنور(2013)، "الحداثة السياسية...رسوخ الفكرة الديمقراطية"، الأهرام، العدد 46371، تاريخ 21/11/2013، على الرابط: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/243795.aspx
11- الهاشمي، محمد أحمد(2006)، "الفصل بين الدولة والمجتمع كمعيار للحداثة السياسية". قراءة في كتاب ًالحداثة السياسيةً لموريس باربيي. الحوار المتمدن، العدد 1422، تاريخ 6/1/2006.
12- تركماني، عبدالله(2004)، أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر(1)، تاريخ 4/12/2004 ، على الرابط: http://hem.bredband.net/cdpps/s415.htm
13- الهاشمي، محمد أحمد(2006)، الفصل بين الدولة والمجتمع كمعيار للحداثة السياسية. مرجع سابق.
14- مغيث، أنور(2013)، "الحداثة السياسية...رسوخ الفكرة الديمقراطية"، مرجع سابق.
15- المرجع السابق.
16- الهاشمي، محمد أحمد(2006)، الفصل بين الدولة والمجتمع كمعيار للحداثة السياسية. مرجع سابق.
17- مكي، يوسف(2014)، مفهوم المواطنة بين الأيديولوجيا وبين الرؤية المدنية للدولة، مرجع سابق.
18- هاني الحوراني، ثقافة المواطنة، صحيفة الدستور الأردنية، العدد 706، تاريخ 11 آذار 2012.
19- مكي، يوسف(2014)، مفهوم المواطنة بين الأيديولوجيا وبين الرؤية المدنية للدولة، مرجع سابق.
20- الشاهر، شاهر إسماعيل(2014)، من تشخيص السلطة... إلى تأسيس السلطة...دور مؤسسة الرئاسة في عملية صنع القرار، الفكر السياسي، العدد 50، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
21- يسين، السيد(2009)، انهيار المجال العام وصعود الفضاء المعلوماتي، مجلة الديمقراطية، 1/4/2009.

منظمة صوت العقل

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*