بين التنزيه والتقديس والتأليه: هكذا نظرت الفرق المختلفة لعلي بن أبي طالب - مقالات
أحدث المقالات

بين التنزيه والتقديس والتأليه: هكذا نظرت الفرق المختلفة لعلي بن أبي طالب

بين التنزيه والتقديس والتأليه: هكذا نظرت الفرق المختلفة لعلي بن أبي طالب

وسام سعادة

علي شريعتي مفكر إيراني لم يكتب له أن يعاصر انتصار الثورة الإسلامية في بلاده، مع أنّه كان من ملهميها الأساسيين. اغتيل في 19 حزيران 1977، وترك تراثاً من المؤلفات والمحاضرات لا يزال يرهق المؤسسات الدينية النمطية، شيعية كانت أو سنيّة.

منها ما طرحه في كتابه "الإمام علي في محنه الثلاث"، وفيه يخلص شريعتي إلى أنّ الإمام علي، ابن عم الرسول وزوج فاطمة الزهراء، ووالد الحسن والحسين، هو نموذج لـ"المغلوب المنتصر"، وأنّ "قرابة علي من النبي أحد العوامل التي جعلت من علي ضحية وجعلته وحيداً، ولو لم يكن من آل النبي لكانت فرصته أكبر ولحالفه الحظ أكثر فأكثر".

ما يريد شريعتي قوله هنا هو أنّ التركيبة القبلية للمجتمع الإسلامي المبكر لم تكن مؤهلة للسماح لشخص آخر من بني هاشم بأن يتولى الخلافة بعد وفاة النبي.

رمز العدل: "ثكلتك الثواكل يا عقيل"

أتاحت القربى إذاً الشيء ونقيضه: فشريعتي يشدّد على العلاقات المتبادلة بين النبي وعلي، إذ يقول "قضى النبي طفولته في أحضان أم علي، وولاية أبي علي، وعلي يقضي طفولته في ولاية النبي وأحضان خديجة، أي أنه كبر وترعرع في حماية أبي فاطمة وأمها، وهذه خطة مقررة من قبل ومشروع مدون معدّ سلفاً".

في نفس الوقت، هذه القربى التي سمحت لابن أبي طالب بأن يطور نموذجه المثالي في العبادة والزهد والجهاد، في جوار ابن عمّه النبي، قلبت عليه الحسابات القبلية والعشائرية، بما في ذلك حسابات أخيه عقيل.

فعندما تولّى علي الخلافة بعد مقتل عثمان، لم يفهم عقيل طبيعة هذه الخلافة الزاهدة والعادلة، وجاء يطلب من أخيه حظوة تخالف منطق العدل هذا.

ردّ عليه عليّ بأن أحمى له حديدة، ثم أدناها من جسمه ليعتبر بها، ولما صرخ عقيل قال له الإمام: "ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى" (من "نهج البلاغة").

يستفاد أيضاً من هذه الحادثة أنّه في الوقت نفسه الذي كان فيه علي ابن عم النبي وزوج ابنته، وأنّه أسس بالنسبة للشيعة سلسلة من الأئمة من صلبه، بدءاً من ابنيه الحسن والحسين، فإنّ عليّ سيتحوّل في التراث الإسلامي إلى نموذج مثالي للعدل التطبيقي.

نموذج للعدل لا يتأثر بقرابة فلان أو علتان منه، بخلاف النماذج الأخرى التي يعتبر معظم المسلمين أنّها بدأت مع معاوية، ويعتبر الشيعة أنّها بدأت منذ حرمان علي الخلافة بعد وفاة الرسول، وهي خلافة لا يعتبرها الشيعة واجبة بقوة الدم، وإنّما بقوة الوصية الإلهية المنزلة على النبي، في يوم الغدير.

"النور المحمدي"

الإمامة بالنسبة إلى الشيعة، وإن كانت محصورة في آل بيت النبوّة، تنتقل من جيل إلى آخر منهم بوصية إلهية. أمّا القربى البيولوجية بين النبي وأئمة آل البيت فهي بمثابة انعكاس لقربى أعمق، ذهبت بعض الرؤى العرفانية إلى تفسيرها بأنّ النبي وعلي وفاطمة والأئمة الإثني عشر خلقوا قبل خلق العالم، وتطرّفت رؤى عرفانية أخرى حدّ اعتبارهم جواهر أزلية، وتمثلات أربعة عشر لـ"النور المحمديّ" الذي يجتاز كل مراحل ومستويات الوجود. 

من الذي "خان الأمانة"؟

يحذّر شريعتي في كتابه عن الإمام علي من "بعض الملالي الشيعة الشواذ المنبوذين المرفوضين عند علمائنا قاطبة" ويستطرد في أن بينهم من يضرب ثلاثاً على فخذه ويحرك رأسه يميناً وشمالاً ويتمتم قائلاً "خان الأمين" ثلاثاً أثناء السلام على النبي على سبيل التقية، لاعتقادهم أنّ الله بعث الملاك جبريل إلى علي، لكن جبريل خان الأمانة، ونزل بها على صدر محمد.

يهزأ شريعتي من هؤلاء، ويسألهم: "اشتبه الأمر على جبريل في المرة الأولى، فما باله يفعل ذلك مراراً وتكراراً، ويكرره على مدى 23 عاماً؟"

هل فعلاً كان لا يزال هناك وجود بين الشيعة الإمامية لعلماء متطرفين إلى هذه الدرجة حتى يساجلهم شريعتي في وقته؟ أم أنّه كان بالأحرى يساجل فرقاً بائدة نعرفها فقط من كتب تاريخ الفرق الدينية مثل كتاب "الملل والنحل" لشهرستاني وسواه، وإن بقيت عالقة في الوجدان الشعبي، أو في التهم المتبادلة بين المذاهب؟

في الثقافة الشعبية المتداولة اليوم، كثير من الأفكار الخاطئة حول التبجيل المعطى للإمام علي لدى الشيعة، وحول مكانة علي نسبة إلى محمد، عند الشيعة الإمامية، أو عند الفرق "الأكثر باطنية" مثل الإسماعيلية، والدرزية، والعلوية، وكل هذا يخدم تأجيج الأحقاد وأنماط التحريض بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، وبفاتورة دموية باهظة.

"دين علي"

لا يلغي هذا أنّه وجدت في التاريخ الإسلامي فرقٌ كثيرة تمارس "الغلوّ في علي"، أي تغالي في تمجيده، حدّ اعتباره مظهراً من مظاهر الحلول الإلهي في العالم، وهذه فرق خاض معها التشيّع الإمامي صراعاً محتدماً ومتواصلاً، وليس فقط على سبيل التقية.

من خلال بحثه عن استخدامات عبارة "دين علي" في بدايات التراث الإسلامي المكتوب، يتوصل المرجع الأكاديمي في تاريخ التشيّع، الفرنسي من أصل إيراني، أمير معزي، إلى أنّ هذه العبارة أخذت تستخدم منذ وقت مبكر، أو حتى مباشرة بعد وفاة النبي، وإن فضّلت عليها الشيعة الإمامية لاحقاً عبارة "التشيّع لعلي" أو "التشيّع لآل البيت" حرصاً على عدم الالتباس.

في المقابل، تحوّل "دين علي" هذا إلى بديل عن "دين محمد" لدى الفرق المتطرفة من الشيعة في القرن الثاني من الهجرة، بدءاً من مجتمع الاختلاط الغريب العجيب بين العرب والفرس، وبين الفرق الدينية المختلفة، في مدينة الكوفة. وهي فرق بدت متأثرة بالديانات السابقة على الإسلام التي كانت منتشرة في العراق.

فعلي كان رمزاً إيجابياً للمسيحيين مثلاً. إذ يلاحظ المؤرخ اليعقوبي أن النصارى قاتلوا مع علي ضد السيدة عائشة في حرب الجمل "ولم يميّز بينهم وبين المسلمين في العطاء".

وكذلك وجدت المعتقدات الإيرانية السابقة على الإسلام أنّها يمكنها أن "تترجم نفسها" بأن تحتضن صورة علي ابن أبي طالب، وترفعه إلى مرتبة ملائية أو إلهية. فكانت فرق "الخطابية" و"الكيسانية" و"البيانية" و"المغيرية" والكثير غيرها، التي يتحدث عنها مؤرخو الفرق، ولكن لا يمكن الوقوف على حقيقتها التاريخية إلا من خلال خطاب أعدائها التقبيحي لها.

كيف اختلفت مظاهر تقديس علي في الفرق المختلفة؟

وأحياناً كان الغلو في علي ينقلب نقيضه كما في الطائفة "الكاملية" التي يبدو أنّ الشاعر بشّار بن برد تأثر بمذهبهم.

هؤلاء كانوا من فرط حبهم لعلي يعتبرون أنّه لم يعد إماماً حين لم يطالب بحقه من أبي بكر وعمر وصبر على الظلم. وهكذا، كان يساءل بشّار، شعراً أيضاً: "أتهجو أبا بكر وتخلع بعده عليا؟".

ستختلف مظاهر الغلو في عليّ، أي إعطاؤه مظهراً إلهياً، من الكوفة إلى إيران إلى الهند.

ففي التشيع الاسماعيلي النزاري بالهند، ستنوجد فرق متأثرة بالتعددية الإلهية الهندوسية، وتعتبر أن النبي هو صنو براهما، وآدم صنو شيفا، وعلي صنو فيشنو، وأنّ علي هو بالتالي "رئيس المتدينين" في الدنيا.

في المقابل، سنجد عند الأيزيدية والكاكائية تأليهاً لعليّ إنما من دون الإتيان على ذكر محمد.

أفكار خاطئة غالباً ما استخدمت للتحريض بين المذاهب.. كيف اختلفت مظاهر تقديس علي بن أبي طالب في الفرق المختلفة؟

وليس هذا حال النصيرية العلوية التي لم يخرج غلوها في علي عن أرضية التشيّع العرفاني وخطوطه العامة، خلافاً للشائع عند كثيرين من أهل السنة (وعند الشيعة الإمامية أيضاً)، ولا عند العلوية البكتاشية التي بقي غلوها في علي في سياق الحب العارم لمقامه، وليس في سياق اعتباره تجسيداً أو حلولاً لله. ولا عند الشيخية التي غالت في مكانة الأئمة نسبة إلى الأنبياء، من دون أن تعتبرهم "تجسيداً لله".

ليس هناك في الغلو الشيعي بعلي ما يشابه "سرّ تجسد الإله الإبن" عند المسيحيين، إلا بالنسبة لمجموعات لم تعمّر طويلاً في التاريخ الإسلامي.

وحتى هذا الغلو في علي، الذي كثيراً ما استخدم للتحريض ضد الشيعة في عمومهم، أكثر من حاربه هم الشيعة أنفسهم، بدءاً مما يعزى لعلي في أنه حرق قوم كانوا يعتبرونه إلهاً، فاعتبروه يحرقهم بنور الرحمن، ووصولاً إلى القمع الذي تعرضت له الشيخية والبابية والبهائية في إيران.

علي - سلمان - محمد

في كتابه "شخصيات قلقة في الإسلام"، يستعيد الفيلسوف والمؤرخ المصري عبد الرحمن بدوي دروس المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، مذكراً بأنّ ما اتسمت به الفرق الباطنية من الشيعة، لم يكن ثنائية "محمد وعلي" وإنّما ثلاثية "محمد وسلمان (الفارسي) وعلي".

فثمة بين هذه الفرق من جعل من الصحابي سلمان الفارسي الشخص "الذي حمل القرآن كله إلى محمد"، أي أنه هو جبريل، وثمة من فرّق بين ملاك الوحي الذي هو جبريل، وبين سلمان الذي هو "روح التأويل"، أي أمين سرّ النبي الذي سيخلفه النبي لعلي، والذي لم يكن فقط أحد المخلصين لعلي، الذين دفنوا مع علي فاطمة الزهراء سرّاً في ليل، وأحد أركان التشيع الأربعة، بل أيضاً من سيفتح الباب لعلي، لمعرفة أسرار ما أنزله الله على محمد.

سلمان الفارسي هو إذاً الحلقة المفقودة بين محمد وعلي في العرفان الشيعي.

في التاريخ الإسلامي فرقٌ كثيرة بالغت في تمجيد علي، حدّ اعتباره مظهراً من مظاهر الحلول الإلهي في العالم، ولكنها فرق خاض معها التشيّع صراعاً محتدماً ومتواصلاً

اتخذت العلاقة بين محمد وسلمان وعلي نماذج عدّة بحسب كل فرقة، وكل مؤلف، ورمّز كل منهم بالحرف الأول. "العين": علي، النموذج الأول للإمام. "الميم": محمد، الناطق، الذي يتلقى الوحي وينطق به ويدعو الناس إليه. "السين"، سلمان، الذي يربط بين السماء والأرض، وبين علي ومحمد.

هناك بين الفرق من غالى في تبجيل شخصيتي علي وسلمان، وهناك من غالى في إحداهما، معطياً لمحبوبه مظهراً إلهياً. يلاحظ بدوي أنه "على العكس مما تدعيه كتب الفرق السنية، لم توجد فرقة شيعية مغالية ادعت بأن أحد هذه النماذج الثلاثة يمكن أن يكون الله بجوهره، فعند جميع الغلاة أن الله لا يمكن معرفته في ذاته وهو فوق كل وصف وحد، إنما الأمر هنا أمر تأليه بالمشاركة، ونوع هذه المشاركة يختلف وقفاً للنموذج الذي تفضله الفرقة".

أما علي شريعتي فيلاحظ في المقابل، أن تاريخ الإسلام عرف غلواً تأليهياً لعلي، أو غيره من الأئمة، أو لفاطمة الزهراء.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*