الأب د. بيتر مدروس يكتب ’بين الدين والفلسفة‘ - مقالات
أحدث المقالات

الأب د. بيتر مدروس يكتب ’بين الدين والفلسفة‘

الأب د. بيتر مدروس يكتب ’بين الدين والفلسفة‘

يتساءل بعض المسيحيّين وربّما غيرهم: هل من تناقض بين الديانة والفلسفة؟ ويحلو لنا أن يبيّن أن لا تناقض بين اللاهوت والفكر. ويأمل المرء أن يفيد هذا المقال القرّاء الكرام في زيادة الإيمان "العامل بالمحبّة" "والعبادة العقليّة" كما يقول المثل العامّي: "الله ما شافوه، بالعقل عرفوه".

التّهجّم على الكنيسة الكاثوليكيّة ورغبة بعضهم في "فضح أسرارها وخفاياها!"

كنيسة البشر مكوّنة من أناس لا هم ملائكة ولا شياطين، وهم معرّضون للخطيئة ومطلوبة منهم التّوبة. وليس البابا "معصومًا عن الخطيئة" بل عن "الغلط في التعليم الرسمي باسم المسيح والكتاب المقدّس، في شأن الإيمان المسيحي والأخلاقيات الإنجيليّة". "وأسرار الكنيسة" الكاثوليكيّة  تتلخّص في سرّ واحد يدوم منذ عشرين قرنًا من الزّمان: هو استمراريّتها "واحدة مقدّسة جامعة رسولية"، بهرميّة ومركزيّة وإدارة لا شبيه لها، على عيوبنا نحن الإكليروس وخطايانا وخياناتنا "وجهالات الشّعب"! أو، لكي نستخدم شيئًا من مفردات بولس رسول الأمم الإناء المختار، نقول: في الكنيسة "سرّ الإثم" و "سرّ الإيمان" في وقت واحد. أمّا "سرّ المحبّة العظيمة العظيم" فهو الزّواج (أفسس 5 : 21 وتابع، 1 تيموثاوس 3 : 15). وهو"سرّ مقدّس من أسرار الكنيسة السبعة". وفي عُرفنا "يرمز إلى اتّحاد المسيح بالكنيسة"، بشريعة الوحدة وعدم الانحلال.

يُحكى أنّ الإمبراطور نابليون، على إيمانه الوطيد بالله، هتف يومًا لأحد الكرادلة: "أريد أن أقضي على الكنيسة الكاثوليكيّة!" وما كان من الكردينال إلاّ أن أجاب بسرعة البرق: "هذا ما لم نستطع نحن (أي معشر الإكليروس) أن نحقّقه!"

أيوجد تناقض بين رجُل دين مسيحيّ ولاهوت أو مؤمن مسيحيّ من جهة، ورجُل فكر وفلسفة، من جهة أخرى؟

الجواب هو أنّ"الفلسفة": لفظة من كلمتين يونانيّتين  "فيلو – سوفيّا" تعنيان "محبّة الحكمة"، والحال أنّ "رأس الحكمة مخافة الله! وتفضّل المسيحيّة "محبّة الله" بمعنى حبّنا لله "الّذي أحبّنا أوّلاً". ويردّد صاحب المزامير ("الزابور") مرّتين: "قال الجهول في قلبه: لا إله!" (مزمور 14(13) : 1، أيضًا رومية 1 : 18 وتابع). ولئلاّ يكتفي المرء بشعارات، نأمل أن يتوفّق الفلاسفة والفكّرون في أن يوفّقوا ما توفّقت به جحافل من الفلاسفة المؤمنين، ولا سيّما القدّيسين، وهم من كبار عباقرة الإنسانيّة، وما وَفّقوا فيه بين اللاهوت والفلسفة أي بين العقل والإيمان. وليعذرنا القارىء الكريم لأنّنا لا نتكلّم هنا إلاّ عن المسيحيّة، لعدم التطّفل على المسلمين أو سواهم.

"وتنفع الذّكرى" أو التّذكير: من جهابذة الفكر الإنساني مسيحيّون مؤمنون ومنهم قدّيسون، وقبلهم كان أفلاطون وأرسطو مؤمنَين، وبالذات بالخالق "الذيميورغوس δημιούργος. ومعروفة عند أرسطو الدّلائل أو البراهين لوجود الخالق، والتي تبنّاها الفيلسوف النابغة الراهب الدومنكاني القدّيس توما الأكوينيّ في "خمس طرق" quinque viae.

 وبالمناسبة، ليست فكرة أنّ "الحقيقة هي الخير والجمال" من اكتشاف "فلاسفة معاصرين"، بل من الفلسفة الكلاسيكيّة الكاثوليكيّة التومائيّة: "الكائن والواحد والحقّ والجيّد والجميل تتبادل بينها". ويشار إلى هذه الصّفات بال"فائقات"

عظماء الدين المسيحي واللاهوت من أكببر رجال الفكر والفلسفة!

وكيف يَغفَل المرء عن القدّيس أمبروزيوس أسقف ميلانو  أعظم مفكّري عصره، أو يتغافل عنه، وعن ابنه الروحانيّ أغسطينوس أسقف "هيبونة" في شمال إفريقيا وكلمات الأخير المأثورة: " الإيمان يبحث عن العقل، والعقل يبحث عن الإيمان"، "أومن لكي أفهم"؟ ولعلّ الجملتين كانتا من أكبر شعارات البابوين الكبيرَين يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر. وما اخترع الحبران المذكوران هذا الموقف العقلانيّ الّذي طالب به سلفهما البابا الأوّل القديس بطرس (في 1 بطرس 3: 15): "كونوا دائمًا مستعدّين أن تدافعوا عن سبب الرجاء الذي يعمر قلوبكم". هنا استخدم مار بطرس مرّتين جذر "لوغوس" أي "العقل، السبب، الكلمة" في "ابولوغيا" وفي "لوغوس" απολογίαوλόγος.

 ولا يجهل اللاهوتيّون ولا يتجاهلون صعوبات في بعض العقائد ولسان حالهم قول الكردينال هنري نيومان الّذي اهتدى إلى الكثلكة: "ألف صعوبة لا تشكّل شكًّا واحدًا"، فالشّك والرّيبة يعنيان عدم الثّقة بالله- حاشى وكلاّ.

في مدرسة الفيلسوف واللاهوتي بولس الرسول

أمّا القديس بولس (رومية 12: 1)، فقد كتب لأهل "المدينة الخالدة" ولنا جميعًا : "قرّبوا أجسادكم لله... عبادة منكم منطقيّة، عقلانيّة"، "لوجيكيه" ومنها "لوجيك" λογική λατρεία, logic. ويعرف أيّ مطّلع على تاريخ الغرب، ناهيكم عن الكنائس الشرقية، أنّ معظم الفلاسفة والعلماء والأطبّاء والأدباء، لقرون طويلة، كانوا أساقفة وكهنة ورهبانًا، خصوصًا من الكاثوليك اللاتين. وهم الذين أنقذوا الحضارة وحفظوا المخطوطات الفلسفية والأدبية والطّبيّة في حين غزا البرابرة مواطن الحضارة وأسقطوا الإمبراطوريّة الرّومانيّة. أسس الرّهبان والإكليروس أوّل مدارس وجامعات، مثلاً جامعة أكسفورد من تأسيس الرهبان الفرنسيسكان(على سبيل المثال لا الحصر). وهم الذين أسسوا في مناطق كثيرة من الشرق أيضًا أوّل مدارس وأوّل جامعات وسواها من أعمال الخير والإحسان والمؤسسات الاستشفائية، بإذن الله.  وكيف ننسى الراهب وليام من أوكام  الذي أعلن: "لا داعي لتكثير الكائنات بلا ضرورة"! أمّا المفكّر الفرنسي بسكال فكتب في "الأفكار": "الله: إمّا هو كائن أم ليس كائنًا. والرهان الأفضل أن تفرض وجوده!".

أمّا "فولتير" –وكان تلميذًا سابقًا لليسوعيّين- إذ ما من أحد كان يعلّم البشر العلوم  والآداب إلاّ الإكليروس، فقد نقم على الكنيسة. وصرخ  فولتير وكأنه "دون كيخوته" يقاتل طواحين الهواء : "لنسحقنّ البغيضة!" «Ecrasons l’infâme» وهو يقصد الكنيسة الكاثوليكيّة، وكأنه يقارع طواحين الهواء كما فعل "دون كيخوته" (والأديب المؤلّف الإسباني لرواية "دون كيخوته" كان كاهنًا كاثوليكيًّا اسمه "سرفانتس"). ومات فرنسوا ماري أرويه (فولتير) منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، والكنيسة الكاثوليكيّة قائمة أمينة لسيّدها ولنفسها. ومات أباطرة ومفكّرون ملحدون أو معادون للكنيسة من نيرون إلى داقيوس وإلى نابليون وفولتير وبيير لوتي وفيليسيتيه ده لامنيه (وهو قسّ فرنسي ترك ممارسة الكهنوت) وسواهم من الّذين تمنّوا دمار الكنيسة (ومعهم الأمريكي تشارلز راصل وأشباهه) أو تمرّدوا عليها وكانوا يتمنّون أن يشهدوا بأمّ أعينهم "سقوط العالم المسيحيّ" أو على الأقلّ أن تموت بموتهم. ولم يحصل ذلك ولن يتمّ لأنّ "أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متّى 16 : 18 وتابع).

خاتمة

وحَسبُنا في العصور القريبة الفيلسوف النابغة اليسوعي الفرنسي تيارد ده شاردان، والمصريّ هنري بولاد، الذي جمع بين الفلسفة وأعمال المحبّة رئيسًا لمؤسسة كاريتاس لسنين مشهود لها بمآثر لا تقع تحت حصر، أبًا روحانيًّا لعدد لا يُحصى من الأبناء والأجيال!

ونذكر أنّ التلميذ المحبوب يوحنا كتب بإلهام من الله ووحي منه تعالى: "الله محبّة"! وأعلن القديس بولس للقورنثيين ولنا: "لو كنتُ عالمًا بجميع الأسرار ولو كان لي العلم كلّه... ولم تكن فيّ المحبّة، فلست شيئًا" (عن 1 قور 13: 2).

موقع ابونا

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*