لنقولها بصراحة هذه المرة - مقالات
أحدث المقالات

لنقولها بصراحة هذه المرة

لنقولها بصراحة هذه المرة

المُفكِّرد. سيد القمني يكتب:

لستُ ممن ينتظرون وقوع الحدث ليُتاجر به ويُدلي بدلوه، ولستُ ممّن يَظهرون فقط في المصائب لجني الفوائد، ولا ممّن يَشُقّون الجُيوب ويلطمون الخدود في لحظة بعينها لينصرف بعدها ليُحصي مكاسبه والانصراف إلى منافعَ أُخرى أو لشؤونه وملاهيه، فقد سبق وأمضيتُ العمر وقُلتُ كُلَّ ما يُمكن قَوْله تشخيصًا وعِلاجًا، وقدَّمتُ مِئات الدّراساتِ المُوثقة الّتي لا تبغي سِوى وجْهَ الوطن ومُواطنيه، وقدَّمتُ عشراتِ التّحذيرات وفي كُلّ مرّة كان الواقع يُؤكِّدها، وها هِيَ نُبوءاتي الّتي سَخِرَ منها كُتّاب السُّلطان والمشيخة واقِع ماثل أمامَكم، وليتها خابت وطاشت وليتني كنتُ من جَلادي الذّات واهمًا كما قالوا، وليتني كُنتُ مُجرّد مُتشائم أو كذوب كما قال آخرون، حتى لا يُلطّخ وجهي عار وطني. (اسعفيني يا عين) سمعتها كثيرًا في أُغنية أم كلثوم، لكني لم أعرف مذاقها الحقيقيّ إلا ليلة مجزرة كنيسة القديسيْن، فقلبي كان يُوشك أن ينشقّ وأبحث عن دمعة واحدة تُخفّف وطأته فلا تأتي، والفم أصابه التّصلُّب فلا تخرج منه الصّرخات بعدما تيبّس الحلق وجفَّ وصار حطبًا فكتم الصّرخة وكمَّم الصّوت.

وكلما تابعتُ تعليقات السّادة أهل الرّأي من المتنفّذين والسّياسيّين والمأجورين وصيادي الفُرص والسّفلة ازداد ألمُ الجسد العليل، ولم تسعفني سوى معدتي بالقيئ الدّموي، وعندما رأيتُه اعتبرتُه مُشاركةً مُتواضعة في قذف الدّم على وجوه السّفلة والأوغاد. لم تهلع بناتي كعادتهن مع أحوال أبيهن الصّحيّة المترديّة، فعيونهن مُتسمِّرة على التّلفاز بينما قامت كبراهن (إيزيس) تمسح بمناديل الورق الدّم عن وجهي وملابسي وهِيَ لا ترى ما تمسح بعدما غامت رؤيتها خلف سيل الدّموع، وعينها بيني وبين التّلفاز، بينما كانت أخواتها ذاهلات هلعًا وفزعًا ورُعبًا ووجعًا.

ليوميْن لم ننم إلا إعياء في أماكننا أمام الفضائيات، وكان العار والشّعور بالقذارة المتدفّقة من التّلفاز يدفعني للنهوض للاستحمام فلا أتمكّن، لأنّ مُنحطًا جديدًا جاء يسكب حَيْضَ فمه، فأخذت أمسح بكفي على أكمامي ووجهي وأهش عني في حركات لا إراديّة كما لو كان وَسَخُنا الإعلاميّ قد لطّخني.

وكانت خُلاصة قَوْل سادتنا أنَّه عمل إرهابيّ قادِم من خارج البلاد قاصِدًا أمن مصر المستتب وسلامة كُلّ مواطنيها الآمنين السّعداء، وأنّ البحث جارٍ عن ستة أشخاص دخلوا البلاد... فأيُّ خطاب عبيط أهطل يرى النّاس بقرًا ليقول لهم قَوْله هذا، وأي عُهر وكذب مقيت، وأيُّ قُدرة على الرُّخص والابتذال؟!

نعم، نعلم جميعا أنَّ قاعدة العراق قد توعّدت وأنذرت وحدّدت كنائس بِعيْنها وكتبتْ اسم كنيسة القديسين السّكندريّة بالبنط الأكبر، فماذا فعل الأمنُ المصريّ؟ يغلب على ظنّي أنّ أحدهم لم يطلّع على هذا البيان لأنَّهم مشغولون بأمور أُخرى ليس من بينها أمن المواطنين، وهل لا بُدَّ للقاعدة أن تُرسل مندوبًا لها إلى مصر للقيام بالعمليّة؟ هذا كلام كذبة مساطيل أعفوا أنفسهم حتى من الفهْم واستعمال العقل قبل القَوْل، كان يكفي القاعدة أفرادًا من الألوف الّتي خرجت في مظاهرات الكراهيّة طوال الشّهر الماضي للقيام بالعمليّة؟ وهل الأمن المصريّ من السّذاجة بحيث لا يجد في الجماعة الإسلاميّة أو الجهاد أو الإخوان وغيرهم من عُتاة القتلة أيَّ رابط مع القاعدة؟!

تُدهشكَ هُنا جرأةُ رجال الأمن التّلفزيونيّين وهُمْ يؤكّدون أنَّه لم يسبق أن عرفت مصر العمليات الانتحاريّة، لذلك فالعمليّة برُمّتها تخطيطًا وتنفيذًا وأشخاصًا قادِمة من خارج مصر؟! فماذا عن تلميذ الهندسة الّذي انتحر بحزام ناسف بحَيّ الحُسين؟ وماذا عن تفجيرات طابا ودهب والعريش وما قبلها وما بعدها؟ الطّريف أنَّ الجهاد المصريّ أعلن مسؤوليته عن هذه التّفجيرات لكن الأمن المصريّ أكَّدَ أنَّه ليس الجهاد لأنّ الشرطة المصريّة سبق لها أن احتوته وفكَّكته؟ أليست تلك من المُفارقات المُدهشة حين يُعلن الفاعلون أنّهم فعلوها ثم يتبرع الأمن المصريّ لنفي التّهمة عنهم؟ وهو نفس ما قيل بشأن تهديدات الجهاد لصاحب هذا القلم المُوقّعة باسم مُنظمة الجهاد المصريّة والّتي وصلته بعد تهديدات قاعدة العراق ممّا يُؤكِّد التّرابط والتّواصل والتّفاهم بين الطّرفيْن، وفي الْيَوْم التّالي للإنكار الّذي قدَّمه صحفيّو روز اليوسف الأمنيّين بنسبة التّهديد للجهاد، كان الجهاد يضرب في سيناء.

لقد ترك الأمن المصريّ أحمد منصور يُسافر إلى الدّوحة آمنًا وترك سليم العوّا يعوي حتى تاريخه (سبق وأعلنتُ استعدادي لمُناظرة العوّا تلفزيونيًا فذهب لقناة الجزيرة يقول ما يُريد في سلسلة حلقات وهو أمر معهود فيمن لا يعوي إلا في بيته)، بعدما أشعلوا النّار وبدأت حرب الكراهيّة والمظاهرات الألفيّة بعدها مُباشرة، في حملات مسعورة تريد دم المسيحيّين المصريّين بهتافات علنيّة لا تخجل، ونفس الأمن هُوَ من قام باعتقال المسيحيّين الّذين تظاهروا أمام كنيستهم بالعمرانيّة ليُطالبوا المحافظ ببقائها، رُبَّما مع الغضب أتلفوا شيئًا مُتواضِعًا وقذفوا الشُّرطة بالأحجار، ولكن دون أن يسبّوا الإسلام والمسلمين، وهو الأمن المشغول الآن بالبحث عن المُتسلِّلين إلى البلاد من قاعدة العراق! فأيّ "قرون" أنتم؟

هذا ناهيك عن شمّاعة إسرائيل والمُوساد المُملّة والمموجة والمقرفة والهزيلة والهزليّة والمُقزِّزة في آن معًا. فهل كان الموساد وراء جرائم الكُشْح ومنقطين والطّيبة وديروط وأبو فانا، ونجع حمادي الّتي هِيَ فضيحة وعار على مصر كُلِّها بعد مضي عام كامل دون صدور الحُكْم على المجرمين، بل ودخول الرّأس المُدبِّر للجريمة البشعة عُضوًا عن الحزب الوطني بمجلس الشّعب للمرّة الخامِسة على التّوالي.

ثُمَّ ماذا عن المجزرة الحقوقيّة للمسيحيّين المحرومين من أيِّ مناصب وما يلاقونه في محاكم الأحوال الشّخصيّة، وما يفرضه الشّارع الملتاث من مذلّة وهوان علي أيِّ مسيحيّ، ويا حبذا لو مسيحيّة شعرها مكشوف تضطرها ظروفُها لاستخدام المواصلات العامّة والسّير في شارع المجانين، ومن لا يخرج من بيته تدخل عليه في بيته لعنات التّكفير والكراهيّة عبر ألوف الميكرفونات مدعومة بالأحاديث والآيات. إنَّه العار مُجسدَّا بكُلِّ صنوفه ومُفرداته ومعانيه ومُرادفاته.

عار علينا عندما سَمَحنا للوهابيّة الإخوانيّة أن تُحوّل مصر الجميلة المرحة المُنتجة المُبهجة إلى مُنتقبة مُبرقعة ذليلة المِنح البترودولاريّة، وأن نحوِّل شعبَها المُنجز البهيج إلى قطيع من الغوغاء، ويهولنّك أن تجد الإخوان يسيرون الْيَوْم في جنازة موتى جريمتهم.

عار على شيخ الأزهر أن يذهب للتعزية بالكاتدرائيّة، وهو من أعاد مناهج الفقه الإرهابيّة للتدريس بالأزهر بعدما رفعها المرحوم سيد طنطاوي، وبعد مجموعة دراسات مُطوّلة نشرناها بصدد تلك المُقررات، وهِيَ المُقرَّرات الّتي تتفنّن في زرع الكراهيّة ضد المسيحيّين، مع وجوب إذلالهم وعدم موالاتهم وأن من والاهم من المسلمين فهو منهم، وأنَّ أضعف الإيمان إشعارهم بالاحتقار والازدراء أينما وجدناهم! عار على المفتي أن يذهب للتعزية بالكاتدرائيّة بينما فتاواه هُوَ وداره تقف من قضايا الأحوال الشّخصيّة مع المسيحيّين موقف أنَّ الإسلام هُوَ الدّين الأعلى، وتصدر بعدها الأحكام على هذا الاعتبار دون النّظر إلى أن النّظام الحُقوقي يفترض المساواة بِغض النّظر عن اللوْن، أو الجنس، أو العقيدة، بينما تُعلن تلك الأحكام بوضوح أنَّ من أوصى ببناء كنيسة فهو كمَنْ أوصى ببناء خمارة أو حظيرة خنازير.

عار أن يبقى ثلاثةُ محافظين في مناصبهم بعد ثُبوت طائفيتهم المقيتة في التّعامُل مع مشاكل المسيحيّين.

عار على مصر كُلِّها أن يبقى المسؤولون عن الأمن في كراسيهم بعد المجزرة وبعد إعلان القاعدة الواضح. عار أن يتم تكليف القصّاب بالقبض على زميله الجزّار. عار أن يظل بناء الكنائس مرهونًا بقرار من رئيس الجمهوريّة بينما المساجد العشوائيّة الّتي تأوي الإرهابيّين وتخرِّجهم تُبنى بين ليلة وضحاها مدعومة من الدّولة معفيّة من أيِّ شروط بل وتقدم لها كُلّ الخدمات والتّسهيلات بالمجّان!

عار على مصر، حُكّامًا ومحكومين، أن يتم نفي رعيّة لها من المواطنة لأنَّهم غير مسلمين بنص المادة الثّانية من الدّستور.

الحكومة تعلم أنَّه من العار أن تضع خانة للديانة بجواز السّفر لأنَّه سيطّلع عليها العالم لكنها تضعها بالبطاقة الشّخصيّة بهدف الفرز الطّائفيّ بين المواطنين.

عار على الإعلام أن يتوجّه بخطابه ولغة هذا الخطاب -بل وبالدّراما والأغاني للمسلمين وحدهم- كما لو كان الوطن يخلو من غيرهم.

عار على التّعليم أن يصطبغ -حتى في المواد العلميّة البحتة- بالصّبغة الإسلاميّة، بل ويُلقي بستة قرون من تاريخ مصر في القمامة، لأنَّها كانت حقبة قبطيّة وكما لو كانت تاريخًا لبلد عدو.

عار علينا أن نُسمّي ما تفعله القاعدة بالعراق مُقاومة وأن نسميه في مصر إرهابًا.

عار أن نترك مصر؛ ست الحسن كُلَّه، تُفتح مرّة أُخرى على يد الوهابيّة بدمويتها وعُنصريتها وبدائيتها وجهلها وانحطاطها، لتسود على مصر الجميلة الخلّاقة المُبدعة الّتي ظلّت ماضيها على سماحة المذهب الحنفي.

عار على كُلّ مصري يحب وطنه أن يظل ساكتًا ساكنًا راضيًا بالاستبداد السّياسيّ المُتحالف مع الاستبداد الدّينيّ مع فساد لا نظير له، وتركه يمتص دم الفريسة وما بقي في شرايّينها دون أن يشبع.

إن لم يبدأ التّغيير الآن لرفض الفساد والاستبداد السّياسيّ وسيطرة التّطرف الإسلاميّ المنفلت، وإقامة نظام مدنيّ حُقوقيّ يرعى حُقوق الأقليّات قبل الأكثريّة، ويُعيد الدّين إلى مكانه الطّبيعيّ داخل المسجد والكنيسة ولا يتعدى أبوابهما، بعيدًا عن المُشترك الاجتماعي العام، وإعادة صياغة دستور كامل المدنيّة يقوم على عَقْدٍ اجتماعيّ يرعى الصّالح العام لكافة المواطنين على التّساوي، فإنَّ القوادِم ستكون أفدح من السّوالف. ولأنىّ مصريّ صعيديّ فإنَّني أرفض العزاء قبل أخذ الحقوق، وإن لم يبدأ هذا الآن، فلتبدوا بإقامة سُرادقات العزاء في مَوْت بلد عظيم كان اسمه مصر.

أقول قوْلي هذا وبعده لا آمن من التّصفية أومن تلفيق قضيّة.

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث