ماهر جبره
حتى الآن لم يتمكن عقلي المتواضع أن يفهم معنى تهمة ازدراء الأديان. فالإنسان حر في ما يقدس وفي ما لا يقدس، فهل أصبح الإيمان مقنناً أيضاً؟
كلما طالعت الصحف المصرية صادفت خبراً عن شخص متهم بـ"ازدراء الأديان"، من مفكرين إسلاميين مثل إسلام بحيري إلى فنانين وممثلين كـ عادل إمام، ونشطاء ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مثل ألبير صابر وكريم البنا وشريف جابر، وكتّاب مثل فاطمة ناعوت ورجال أعمال مثل نجيب ساويرس. ومسيحيين مثل دميانة عبد النور، وشيعة مثل عمرو عبد الله، وصولاً إلى اللادينيين مثل أحمد حرقان. حتى رجال الدين الإسلام، مثل الشيخ عبد الله نصر، لم يحمهم تدينهم من التهمة نفسها.
للإنسان حرية الاعتقاد في ما يشاء وليس في ما يرغب به النظام الحاكم أو غالبية المواطنين المصريين. من حق الإنسان أن يؤمن بالله ومن حق جاره ألا يؤمن به. من حقه أن يؤمن بأن المسيح مخلّص البشرية ومن حق زميله في العمل ألا يؤمن بذلك. كما من حقه أن يؤمن أن محمد رسول الله، ومن حق صديقه أن ينكر ذلك. هذة هي ببساطة حرية الاعتقاد.
إن تهمة إزدراء الأديان مقبرة لحرية الفكر والاعتقاد. ولو تقبلنا قمع الناس بمعاقبتهم على ازدراء الأديان، فسيصبح أدنى انتقاد لأي شيء يمت بصلة للدين أو لرجال الدين أو حتى للسياسيين الذين يختبئون وراء عباءة الدين، هو ازدراء للأديان. وعليه فإن الحريات سيتم وأدها باسم حماية الدين وحماية الله من الإهانة.
عزيزي القارئ دعني أصارحك، عملياً ليس هنالك شيء اسمه ازدراء. حقيقة ما يحدث هو أن مجموعة من البشر تقدس شخصاً أو شيئاً، وتحاول فرض هذه القدسية على الآخرين بالقوة المادية أو المعنوية. وحين يقرر عقل جريء إزالة القدسية عن هذا الشيء أو ذاك الشخص، وينتقده بحرية، تبدأ هذه المجموعة في محاولة إجبار الآخرين على تقديس هذا الشيء وذاك الشخص.
لا يعني ذلك أنني أتفق مع كل نقد يتطرق إلى الأديان أو الفكر الديني، لكنه يعني أنني أدعم حق أي أنسان في أن يؤمن أو لا يؤمن بأي معتقد، ما دام لم يعتدِ على حريات الآخرين وحقوقهم. علينا أن نعترف أولاً أن المقدس هو مقدس عند صاحبه وليس في المطلق. فالمقدس هو شخص أو شيء فوق النقد وغالباً ما يرتبط بمفهوم ديني يؤمن به المتدين، بغض النظر عن مدى اتفاقه مع العقل أو المنطق.
حين خرج المسلمون الأوائل في جيوش إلى دول شمال أفريقيا سمّوا ذلك فتحاً. وبالتالي فإن المسلمين حول العالم يستخدمون كلمة "فتح"، بينما يسمي الآخرون الفعل نفسه "غزواً واعتداءً" وليس فتحاً. هكذا! هذه هي نسبية الاعتقاد، بمعنى أن ما تؤمن به أنت على أنه حقيقة مطلقة، قد يراه الآخر بطريقة أخرى، وهذه طبيعة البشر، الاختلاف. والحقيقة أن المشكلة ليست في الاختلاف، إنما في عدم تقبل الاختلاف كإحدى سنن الحياة، وهنا تبدأ الأزمة.
المشكلة تكمن في أن بعض المؤمنين يقولون إنه لا يجوز أن يعبّر أي شخص آخر عن اعتقاده المخالف لاعتقادهم، وإن أقصى حرية يمكن أن يمنحها المجتمع لشخص يؤمن بغير ما تؤمن به الجماعة، هو أن يغير اعتقاده من دون أن يعلن ذلك. أما إذا أعلنه فهو فاسد ومفسد ويجب قتله أو سجنه.
في مصر يسود الاعتقاد بأن كل من هو غير مسلم سني، معرّض لتهمة ازدراء الأديان، فالبهائيون مرتدون ويجب قتلهم، واللادينيون أيضاً على الرغم من الاختلاف الواسع في المعتقدات. بل حتى المسلمون من غير السنة معرضون لهذه التهمة. كذلك المسلمون السنة، وبعض المفكرين الإسلاميين، الذين يفسرون باقةً من أمور الدين بشكل مختلف، ليسوا في مأمن من هذة التهمة. نحن نعيش في مهرجان ازدراء الأديان!
الفئة الوحيدة التي من حقها الترويج والدعاية لمعتقداتها في مصر، هي المسلمون السنة، ولأكون دقيقاً هم فقط السنة الذين لا يفهمون الدين بشكل لا يختلف عن الفهم السائد له في المجتمع. تخيل مثلاً لو أن قساً مسيحياً خرج في الشارع حاملاً الأناجيل ليكلّم المارة عن الديانة المسيحية، لقامت الدنيا وهاجت وماجت، ومن غير المستبعد أن نجده مضروباً أو مسحولاً من "المواطنين الشرفاء" خلال دقائق قليلة. علماً أنه عادي جداً أن تجد بعض المسلمين يوزعون القرآن في شوارع دول الغرب، ذات الغالبية المسيحية. بل يشعرون أن ذلك حق لهم، في حين أنهم ينكرون الحق نفسه على الأقليات الدينية في بلادهم.
أليس من حق المسلم السني أن يصبح شيعياً؟ أليس من حقه أن ينكر الإسلام؟ أليس من حق البهائي أن يتحدث عن ديانته؟ أليس من حق المسيحي أن يدعو الآخرين إلى ديانته؟ أليس من حق اللاديني أن يحيا في سلام من دون نفاق أو تصنع وخوف من القتل أو الاضطهاد؟ كل هذه حقوق إنسانية مشروعة معترف بها في العالم الحر، لكننا لا نتحدث عنها، بل نحيا فوق قنبلة موقوتة من الاحتقانات الطائفية التي تنفجر في وجوهنا على أتفه الأسباب. تحكمنا قوانين تجرّم حرية الاعتقاد وتضع ازدراء الأديان سيفاً على رقبة الحرية.