يورد الأخباريون أن بني النضر بن كنانة لم يزالوا يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب إلى الحرم بعد تفرقهم، فقيل له القرشي أي الجامع، وقيل لهم: قريش، لأن التقرش هو التجمع. ولأن قريشا جمعت بين السلطة والجاه والقرب من المعبد، فقد نعتت بـ(آل الله) و(جيران الله) و(سكان حرم الله) و(أهل الله)، فانتقلت بذلك من قبيلة ضعيفة هامشية إلى دولة مركزية تجتمع حولها القبائل، وتحكم المعبد، وتستعد لحكم شبه جزيرة العرب وتطبع التاريخ إلى الأبد.
علي اليوسفي العلوي:
لم يكن تأسيس دولة الإسلام ولا استمرارها أمرا يسيرا؛ فقد رافقته النزاعات العرقية والمصالح الشخصية والقبلية التي كانت توشك أن تهد أركان دولة الإسلام.
لقد دفعت الرغبة في درء الفتنة فقهاء أهل السنة والجماعة، على امتداد القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، إلى اعتبار أن كل ما قام به خلفاء الرسول كان ضروريا ومشروعا، وأنهم كانوا راشدين وساروا على نهج القرآن وسنة الرسول، وأنهم خير البشر بعد الرسول وأن احترامهم واجب على كل المسلمين.
لم يكتف فقهاء “السنة والجماعة” بتجريم النبش في سيرة الخلفاء، وإنما حرموا الاعتزال والفلسفة والتشيع، إلخ.
باسم درء الفتنة وحقن دماء المسلمين، ذهب هؤلاء الفقهاء إلى وجوب مبايعة الإمام (الخليفة) وطاعته سواء أكان عادلا أم جائرا، واعتبروا معارضته فتنة “والفتنة أشد من القتل”. بل إن بعضهم ذهب إلى القول بأن ستين عاما تحت إمام جائر أهون من ليلة بدون إمام. تحت نفس المسمى، لم يتردد بعض من أسندت إليهم الفتوى اليوم في تحريم مظاهرات واحتجاجات الربيع العربي، وغيرها من الاحتجاجات.
لعل تداخل السياسي والديني منذ بدايات تشكل دولة الإسلام، واعتماد الأول على الثاني في تحقيق وضمان شرعيته، هو ما جعل الخليفة إماما، وخليفة لله، وظلا لله على الأرض، إلخ. لذلك، كان سهلا على الحكام اعتبار كل خوض في السياسة مسا بالدين وضربا للاستقرار، بل وزعزعة للعقيدة؛ ومن ثمة اعتبار الحديث في الدين شأنا خاصا بالعلماء الذين تعترف لهم الدولة بالعلم، وما دونهم عوام يجب أن يقادوا بكل الطرق والوسائل إلى “الصراط المستقيم”.
هكذا إذن، فرض التوظيف السياسي للدين الحجر على عقول المسلمين، وأنشأ بينهم وبين تاريخهم جدارا سميكا من المغالطات. في اعتبارنا، لا يمكن تحرير العقل العربي الإسلامي اليوم بدون العودة إلى التاريخ لتسليط الضوء على المحطات الأساس فيه، تلك التي تميز بين ما لله وما للبشر.
هذا العمل يقتضي الانطلاق من البدايات الأولى لتشكل الدولة العربية قبل الإسلام وتحديد ملامحها وآليات اشتغالها؛ لأن تلك الدولة قامت على دعائم سياسية وعقدية واجتماعية واقتصادية، ستعمد الرسالة المحمدية في ما بعد إلى تكريس بعضها وتعديل بعضها، وإلغاء (تحريم) بعضها الآخر.
أكثر من ذلك، إن الدعائم التي رسختها تلك الدولة الفتية هي ما سيحدد الرهانات الاقتصادية والاجتماعية التي سترسم المصالح والتحالفات سواء مع الرسول أو ضده، بل هي نفسها التي ستستمر في نخر البناء السياسي والمجتمعي العربي حتى انفرط عقده، ووقع بين مخالب المغول والأتراك وغيرها من الشعوب المتربصة.
لعل أبعد ما يمكن أن نذهب إليه حتى نحصر الموضوع في ما يعنينا، ونتجنب التشويش على القارئ أو إدخاله في متاهات القبائل والبطون والسلالات، هو بزوغ قبيلة قريش وتوليها زمام أمر مكة وتربعها على سيادتها لحوالي قرنين قبل مجيء الإسلام.
يورد الأخباريون أن (قبيلة) خزاعة خرجت من اليمن بعد تنبؤ كاهن بقرب انفجار سد مأرب، فصعدت نحو الشمال إلى مكة فانتزعت حكمها من بني جرهم – وهم يمنيون قحطانيون منهم تزوج إسماعيل بن إبراهيم وبِلُغتهم العربية تكلم- وأقامت عمرو بن الحي الخزاعي ملكا عليها، وقد كان كاهنا، فنصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام – ومنها هبل- إلى العرب ووضع لهم سنن دينهم على طريقة الكهان. وهو من أنشأ المعبد بمكة ووسع عبادته بين القبائل المجاورة؛ فعظم بذلك شأن مكة بين الأعراب، وصارت تقبل عليها للتقرب إلى هبل وإلى بقية الأصنام.
من بطون خزاعة، نجد بني حُليل. وكان حُليل سادن الكعبة الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبَّى. وقصي هذا من بني كنانة التي استعان بها عمرو بن الحي في تثبيت حكمه بمكة. لذلك، ترك عمرو ومن جاء من بعده للكنانيين أمورا تخص مناسك الحج وشعائره.
تتوافق الأخبار على أن الفضل يرجع إلى قصي في إطلاق اسم قريش لأول مرة على بني فهر؛ فلقد خلد التاريخ زيد بن كلاب (400-480) الذي اشتهر باسم قصي، والذي عاش طفولته وبداية شبابه في كنف رجل وجيه تزوج أمه وأخذها مع رضيعها إلى سوريا البيزنطية تحت حكم الإمبراطور تيودور الثاني. هناك، فتح الطفل عينيه على التنظيم السياسي والنشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية في سوريا. ولما شب قصي، أخبره زوج أمه بأصله ونسبه وأمره بالعودة إلى قبيلته، قرب المعبد المقدس. عاد قصي إلى أهله وتزوج حبَّى وتقرب من زعماء كنانة. وعندما مات صهره، أعلن أحقيته في خلافته في مهمته المقدسة. ولأن خزاعة أوشكت أن تحارب قصيا في الشهر الحرام، فقد اكتسب تعاطف باقي القبائل، فعادت له – بعد التحكيم – حجابة المعبد، وسقاية الحجاج.
لما استتب الأمر لقصي، دعا قومه إلى السكن في قلب المدينة حول الكعبة حتى تمتنع العرب عن محاربتهم، ولا تستطيع إخراجهم من منازلهم، ويحكموها إلى الأبد؛ فأمر ببناء المنازل الأولى حول الكعبة، وحفر آبارا داخل مكة حتى يضمن استقرار قومه بها، ثم رمم الكعبة، ودعا قومه إلى السخاء والمساهمة في سقي وإطعام الحجاج.
لما تمكن من دواليب السلطة، أضاف لنفسه وظائف أخرى ترقى به إلى مستوى السيادة والحكم، وهي: وظيفة اللواء، التي تسمح له بقيادة تحالف قبلي إذا ما تعرضت مكة إلى تهديد؛ ووظيفة الرفادة، التي يستخلص بموجبها ضريبة من كل سكان المدينة، كان يوظفها في ترميم المعبد، وتوزيع الهدايا على الحجاج والمسافرين؛ ووظيفة الندوة، حيث خصص بيتا يجمع فيه الوجهاء وزعماء فصائل قريش وحلفائهم من كنانة لتدارس المشاكل واتخاذ القرارات.
يورد الأخباريون أن بني النضر بن كنانة لم يزالوا يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب إلى الحرم بعد تفرقهم، فقيل له القرشي أي الجامع، وقيل لهم: قريش، لأن التقرش هو التجمع. ولأن قريشا جمعت بين السلطة والجاه والقرب من المعبد، فقد نعتت بـ(آل الله) و(جيران الله) و(سكان حرم الله) و(أهل الله)، فانتقلت بذلك من قبيلة ضعيفة هامشية إلى دولة مركزية تجتمع حولها القبائل، وتحكم المعبد، وتستعد لحكم شبه جزيرة العرب وتطبع التاريخ إلى الأبد.
في حلقاتنا المقبلة، سنواصل النبش في تاريخ الفكر السياسي في بلاد الإسلام… فترقبوا المواعيد المقبلة!