دانية الزعيمي:
بعدما تابعنا في الجزء الأول، حكاية التعذيب في الدولة الأموية، حيث يحفل التاريخ بواحدة من أكثر مظاهر انعدام الإنسانية شناعة، نتابع في هذا الجزء الثاني، بعضا من حكاية تعذيب أكثر شناعة، سطرها العباسيون بعيد استيلائهم على الحكم.
يذكر الطبري في تاريخه أن أبا مسلم الخراساني، صاحب الدعوة العباسية في خراسان، أعدم نحو ستمائة ألف، بين رجل وامرأة وغلام، بينما يذكر اليعقوبي في تاريخه، أنه قتل مائة ألف؛ رقم يجده المفكر العراقي هادي العلوي، في كتابه “فصول من تاريخ الإسلام السياسي”، أقرب إلى المعقول.
اليعقوبي يورد أيضا أن زعيم الدعوة العباسية قبل ظهورها، إبراهيم الإمام، كان قد كتب إلى الخراساني بقتل أي غلام يبلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه.
رغم هذا، حين استولى العباسيون على الحكم، أعلنوا على لسان خليفتهم الأول، أبو العباس السفاح، أنهم حاربوا الأمويين لسوء سيرتهم وخرقهم بالناس وإذلالهم واستئثارهم بالفيء والمغانم!
للسفاح حكاية شنيعة حين استخلافه، إذ أمر عمه، عبد الله بن علي، بنبش قبور خلفاء بني أمية وإخراج رفاتهم وجلدهم وصلبهم وحرقهم أو حرق ما بقي منهم ونثر رمادهم في الريح…
حكايةٌ، يذكر المفكر المصري فرج فودة، في كتابه “الحقيقة الغائبة”، لم يأتها أحد قبله ولا بعده، كما تابعنا تفاصيلها في ملف منفصل على مرايانا.
الواقع أنه، بدءًا من الخليفة الثاني، أبو جعفر المنصور، واجه العباسيون معارضة نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة، الإمامية، الزيدية، الخوارج، المعتزلة، ولاحقا الإسماعيلية وغيرها، فضلا عن منافسي الخلفاء والخارجين عليهم.
… فما كان منهم إلا أن اتبعوا نفس أساليب الأمويين في القمع، لكن بعد تطويرها، وذلك لمضاهاة التصاعد في أشكال المعارضة المسلحة يذكر العلوي.
الباحث العراقي عبود الشالجي يورد في “موسوعة العذاب”، أن المنصور مارس نحو الرعية جميع أنواع العذاب، فدق الأوتاد في العيون وسمّر المعذبين في الحيطان، ودفن بعضهم أحياء، وبنى على البعض الحيطان، وهدم البيوت على الآخرين.
تؤكد روايات في “مقاتل الطالبيين” لأبي الفرج الأصفهاني، أن المنصور قتل بعض العلويين بدفنهم أحياء.
الشالجي يذكر أيضا أن المنصور حبس البعض في سرداب تحت الأرض، لا يعرفون ليلا ولا نهارا، فكانوا يبولون ويتغوطون في موضعهم، حتى إذا مات منهم ميت لم يدفن، بل يبلى وهم ينظرون إليه، فاشتدت عليهم رائحة البول والغائط، فكان الورم يبدو في أقدامهم ثم يترقى إلى قلوبهم فيموتون.
مع العباسيين، تطور أيضا القتل بالتقطيع، فبعد أن كانت الأيدي والأرجل تقطع دفعة واحدة، يذكر العلوي أنها صارت تقطع إلى عدة أوصال ويضم إليها أجزاء أخرى من الجسم.
أجزاء… أوصلها الخليفة الرشيد، إلى أربعة عشر قطعة، مع تطوير في الوسيلة، يذكر الطبري، حيث صارت تستعمل مدية غير حادة بدلا من السيف.
من جهته، كان اتهام الإنسان عند المتوكل بأنه من شيعة آل علي كافيا لقتله، بينما كان القاهر شديد القسوة، حتى إن الشالجي يذكر أنه لما استخلف عذب امرأة أبيه، أم المقتدر، وضربها بيده مائة مِقرعة (سوط) وعلقها بثديها ثم علقها وهي مكنسة فكان بولها يجري على وجهها.
الشالجي يضيف أن القاهر كان يتلذذ بأن يأمر بقتل الابن، ثم يحضر رأسه فيضعه بين يدي الأب، ثم يأمر بذبح الأب… ويضع الرأسين أمام ثالث يقتله من بعدهما.
إجمالا، كانت المعاملة الوحشية تسود سجون بني العباس… يذكر الباحث عباس عروة في “قراءة في تاريخ التعذيب”، أن منافذ جسم الضحية كانت تسد بالقطن ويوضع في دبره منفاخ وينفخ، ثم يضرب بالسياط حتى يتمزق جسمه في داخل السجن، أو تقلع عيناه ويصب مكانهما الرصاص.
غير أن القتل تحت التعذيب، يذكر العلوي، بلغ أشنع حالاته بعد الحقبة العباسية الأولى. اقترن ذلك بتعقد الوضع العام للمجتمع العربي، الذي عانى مع ظهور الإسلام مخاضات التدرج من البداوة إلى الحضارة، التي استكملها في غضون القرن الأول للحكم العباسي.
هكذا، حدث أن حالة القمع، التي انفلتت من أي ضابط، تصادفت مع ذروة النمو الاجتماعي حينذاك.
سيكون جديرا بالذكر أيضا هنا أن التعذيب السياسي ظل مقتصرا على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية، إلا في ما ندر.
كان هناك تمييز ملحوظ، يذكر العلوي، في المعاملة بين أسرى الحرب من “الكفار”، وأسرى الحرب من المسلمين… بتعبير أوضح، كان الأسير “الكافر” يسترق أو يفدى أو يقتل بالوسائل الاعتيادية، تبعا لأحكام الشريعة الإسلامية في أسرى الحرب، ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب.
إضافة إلى من أسلفنا ذكرهم من الخلفاء، يورد عباس عروة أسماء عدة من وزرائهم وولاتهم وقوادهم، كانوا أدوات لهم في تطبيق القمع، فسجل لهم التاريخ صفحات مظلمة في التعذيب، من بينهم عبد الله بن علي، معن بن زائدة، يزيد بن مزيد، وعقبة بن مسلم، الفضل بن مروان، محمد بن عبد الملك، حامد بن العباس…
بالمقابل، لا بد من الإشارة إلى أن العصر العباسي عرف فترات ضوء أيضا، وإن كانت معدودة، فقد تحسنت وضعية المساجين في حكم بعض الخلفاء الذين تميزوا بالعدل، مثل المعتضد بالله…
عباس عروة يوضح أن السجون، شهدت عناية في عهد المعتضد، وخضعت لنظام موحد إلى حد ما، بل وظهرت روح إنسانية في معاملة المساجين، كما أنه أوقف للسجون أموالا كبيرة لنفقات المساجين وثمن أقواتهم ومائهم وسائر مؤنهم.
في الجزء الثالث نتابع: 7 أنواع من التعذيب كان الهدف منها غير سياسي!