محمد الزلباني:
ارتبطت الخمر ارتباطًا وثيقَ الصلة بالشِّعر العربي، فتخطّت كونها سائلًا يجلب المتعة الحسية والروحية لشاربه، فنراها تعبيرًا عن المفاخرة، وإثبات الجاه، ومحفزة للمحارب المقدام قبل خوض المعارك الضارية، ومُلهمة للفكر الرشيد؛ حتى أضحت لدى البعض الفاعل والمؤثّر، عوضًا عن الفعل البشريّ، بل والإلهيّ لدى البعض، وكأنها المحرّك الرئيسيّ للكون.
وكثُرت أسماءُ الخمر ومعانيها، إما بحسب لونها أو صفاتها أو تأثيرها، فمنها الرحيق، والسيّال، والمِصطار، والحامض، والعرَق، والسامرية، والساهرية، وغيرها الكثير. وتطور ذِكرها أدبيًا في الشعر العربي بتطور الزمن، منذ عصور الجاهلية، مرورًا بصدر الإسلام، والدولتين الأموية والعباسية، حتى تلقّفها أبو نواس، وجعل منها لونًا أدبيًا قائمًا بذاته. ولكن كيف كانت "الخمريات" من قبله؟
خمريات الجاهلية... وسيلة لقتلِ الفراغ
وسط مجتمع فيه الحياة على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية قليلة أو معدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر محدود ضيق، كان لابدّ وأن يُقبل الناس على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، فلجأوا إلى الخمر، وكما يقول المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب"، بأنها كانت تُعزّز الشعور لديهم، مُتشهدًا ببيت حسان بن ثابت، الذي وصف حال شاربها بأنهما تجعلهم "سادة ملَكوا الدنيا"، وأن كلَّ واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير".
كانت الخمارات منتشرة في كلّ مكان، يزورها المسافرون للاستراحة واستعادة النشاط، وتكفّل النصارى واليهود في الغالب بإعداد تلك الأماكن، بحسب قول جواد علي، وأطلقوا عليها لفظ "الحانوت"، ويذكر علماء اللغة أن الحانوت هو "دكّان الخمر"، بينما أسماها العراقيون "المواخير".
تلك الحالة من البداوة التي لم يمحُ قساوتها إلا الخمر الموجودة في كلّ مكان، انعكست بصورة جلية على ما خلفّه زعماء الأدب الجاهلي من شعر كان يُستهلّ بالخمر أحيانًا، فيقول عمرو بن كلثوم في معلقته التي استهلها بنسيب خمري، مخالفًا في ذلك الأسلوب المتبع لدى معاصريه أصحاب مدرسة "النسيب الطللي/الوقوف على الأطلال": "ألا هُبي بصحنكِ فأصبحينا/ ولا تُبقي خمور الأندرينا/ مُشعشعة كأن الحُصّ فيها/ إذا ما الماء خالطها سخينا"، أما البيد بن ربيعة فاكتفى بوصف صفاء الخمر، قائلًا: "أغلى السباء بكل أدكن عاتق/ أو جونة قُدحت وفُضَ ختامها/ بصبوح صافية وجذب كرينة/ بمؤثرٍ تأتاله إبهامُها".
ويُقسّم الباحث الإيراني يوسف هادي بور في دراسة صادرة عام 2011 عن جامعة "آزاد الإسلامية" خمريات شعراء الجاهلية إلى قمسين، قائلًا: "الأول: هم الذين افتخروا بشرائها وشرابها وإسرافهم في هذا الأمر دون أن يصفوها إلا قليلًا؛ والثاني: هم الذين وصفوا الخمر وأجادوا فيها بعض الإجادة دون أن يكون وصفهم عميقًا، وإنما كانوا يقنعون بالظواهر فيصفون لون الخمر ومظهرها، ويصفون أقداحها وأباريقها، ويذكرون مكان شرائها، ويصفون طعمها ولونها وصفًا مُجملًا، ويشيرون إلى مفعولها في النفس".
خمريات الجاهلية ليست فنًا خالصًا
على الرغم من كثرة ذكر الخمر في الشعر الجاهلي، فإن الدكتور طه حسين، يرى بأنه لا يمكن اعتباره فنًا قائمًا بذاته، فكما يشير في كتابه "حديث الأربعاء": :لأنّهم لم يكونوا من النعمة ولين العيش بحيث يستطيعون أن يعكفوا عليها ويعاشروها معاشرة متصّلة، كما كانوا يعاشرون الإبل والشاة، وإنّما كانت تُسنح لكثير منهم فرصة اليوم أو الساعة، يشرب فيها ويلهو، فإذا فرغ من شربه ولهوه تحدّث بذلك مفاخرًا، وربّما وصف الخمر وذكر اللهو وهو لم يشرب، ولم يأخذ من اللهو بحظّ. وإنّما دعاه إلى ذلك الفخر والفنّ".
ويتّفق المؤرخ اللبناني حنا الفاخوري مع طرح طه حسين، واصفًا خمريات الجاهلية بأنها مُجرد "إلمامة سريعة" قائلًا في كتابه "الجامع في تاريخ الأدب العربي": "وقّف الجاهليّون في وصف الخمر عند مظاهرها الخارجية، وأشاروا إلى مفعولها في النفس وراحوا في تكثيف المادة التصويرية يقلّد بعضهم بعضًا، ويكرّر بعضهم أقوال البعض الآخر".
بينما لم يعتبر الباحثون الخمريات في الشعر الجاهلي "فنًا خالصًا" كما الحال في العصرين الأموي والعباسي، وكان الأعشى الأكبر بشهادة الكثيرين هو أكثر شعراء الجاهلية إمعانًا في تناول الخمريات، حيث وأطال وأجادَ وصفها كوصف عاشق لمشعوق، وتبسّطّ في الحديث عنها بحيث كادت الصورة الخمرية تكتمل فيها، وكادت جميع المعاني الخمرية الموجودة في الجاهيلة تجتمع فيه بصورة كاملة، وفق ما أكد يوسف بور، فنجد له: "وقد غدوتُ إلى الحانوت يتبعُني/ شاومِشَلٌّ شَلولٌ، شُلشلُ، شَوِلُ/ في فتيةٍ كسيوف الهندِ قد علموا/ أن ليسَ يَدفَعُ عن ذي الحيلةِ الحيلُ/ نازعتُهُم قُضُبَ الرّيحانِ، مُتّكئا/ وقهوةً مُزَّةً راووقُها خَضِلُ/ لا يستفيقونَ منها، وهى راهنة/ إلا بـ((هاتِ) وإن علّوا وإن نهِلوا/ يسعى بها ذو زجاجاتٍ له نُطُفٌ/ مُقلّصٌ أسَفَلَ السربالِ، مُعتمِلُ/ ومستجيبٍ لصوتِ الصنج تسمَعَهُ/ إذا ترجّعُ فيه القينةُ الفُضُلُ".
عصر النبوة... خمريات مختبئة في مدح الرسول
شهدت الخمريات تراجُعًا في صدر الإسلام، وما تلاه من عصر الخلفاء الأربعة، فلم يأتِ ذكرها إلا بشكل غير مباشر ضمن قصائد تمتدح الرسول (ص) كما فعل حسان بن ثابت، في قصيدته الشهيرة إبان فتح مكة، والتي يقول فيها: "إذا ما الأشرباتُ ذُكرنَ يومًا/ فَهُنَّ لِطَيّبِ الرّاحِ الفِداءُ/ نُولّيها المدامة، إن ألَمنا/ إذا ما كانَ مَغثٌ أو لِحاءُ/ ونشربُها، فتَترُكنُا ملوكا/ وأُسُدًا ما يُنَهنِهُها اللّقاءُ".
وعلى نهج بن ثابت، سار كعب ابن زهير، في قصيد "البُردة" التي ألقاها في السنة التاسعة من الهجرة بمسجد المدينة، قائلًا بشيء من التورية، وكأن الخمر زُجّت زجًا في الأبيات: "تجلو عوارض ذي ظلمٍ إذا ابتسمت/ كأنّه منهلٌ بالرّاح معلول/ شجّت بذي شبم من ماءٍ محنيّة/ صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمول".
وليس معنى عدم الجهر بقصائد الخمريات في عصر النبوة أن الخمر في ذاته كمشروب لم يكن متداولًا، فقد انتشر شربها بين الفتيان دون سماع لأيّ توجيه ديني، بحسب الكاتب علي المقري، في كتابه "الخمر والنبيذ في الإسلام"، الذي أشار فيه إلى حادثة وقعت لشاعر الرسول، حسان بن ثابت، المعروف تاريخه في شرب الخمر ومدحها ضمن قصائده قبل الإسلام، مُفادّها أن حسان عنّف جماعة من الفتيان على شربها، وسوء تنادمهم عليها، فقالوا: "إنا إذا هممنا بالإقلاع عنها، ذكرنا قولك: ونشربها فتتركنا ملوكًا/ وأسُدًا ما يُنهننهها اللقاء".
الأمويون والعباسيون يُمهدون الطريق لزعيم الخمريات أبي نواس
انتشر التّرف والغنى في العصر الأمويّ، وتهافت الناس على مُتع الحياة، وكان للخمر في مجالس الحجاز والشّام والعراق مكان مرموق ــكما يرى حنا الفاخوري ــ، ومن ثمّ ازدهر الشعر الخمريّ، وبرزت أسماء لامعة في ذلك، ولعل أبرزهم الأخطل، القائل: "شربنا فمِتنا ميتةً جاهلية/ مَضى أهلُها لم يعرفوا ما محمُّد/ ثلاثة أيّامٍ، فلمّا تنبّهتْ/ حُشاشاتُ أنفاسٍ أتتنا تُردَّدُ/ حيينا حياة لم تكن من قيامة علينا/ ولا حشر لنا به موعد".
ويروي الرقيق القيرواني في "قطب السرور في أوصاف الخمور" عن الأخطل أيضًا، أنه ذات يوم، عرض عليه عبد الملك بن مروان، خامس خلفاء دولة بني أمية، الدخول في الإسلام، فقال له: "يا أمير المؤمنين، إنني مشغوف بالخمر، أفرأيت إن أسلمتُ تدعني وشربها؟ فرد الخليفة: لا يا أخطل، لا أحلّ لك ما حرّم الله عليك، وإن أسلمتَ ثم شربتَها حدَدتك. فقال الأخطل: لا حاجة لي في الإسلام، ودين آبائي أحبُّ إليّ. فسأله عبد الملك: وما تبلغ الخمر منك؟ فتلا عليه الأخطل: فلستُ بصائم رمضان طوعًا/ ولست بآكل لحم الأضاحي/ ولست بقائم أبدًا لأنادي/ كمثل العيرِ، حي على الفلاح/ ولكني سأشربها شمولًا/ وأسجد عند منبلج الصباح".
وإذا كان عبد الملك بن مروان يقيم الحدَّ في عهده على شارب الخمر، فإن حفيده الوليد بن يزيد، صارت مجالسه الخمرية يُضرب بها المثل، وخمرياته في الشعر، تُعدّ أيقونة العصر الأموي، حتى أن البعض يعده أول من فتح باب الشعر الخمري، ومن أبياته الشهيرة، قوله: "أدِر الكأس يمينًا/ ولا تُدرها ليسار/ اسقِ هذا ثمّ هذا/ صاحب العود النضار/ من كميت عتّقوها/ منذ دهرٍ في جرار".
ولم تختلف الظروف المهيئة لبروز الخمريات في شعر العصر العباسي، والتمهيد لزعيم ذلك المجال أبي نواس، عن سابقه الأموي، بسبب انفتاحه على أقوام كثيرة لا سيّما الفُرس والروم، فشاعت الخمر، "وتوسعت مجالسها، وكثرت حاناتها وأنديتها، وزاد الإقبال عليها، وتوفر الشعراء على وصفها بصورة لم تحدث من قبل (...) ولم يكن الخلفاء بمعزل عن هذا، فإن أكثرهم شربها"، وفق ما أشار إليه الدكتور ناظم رشيد في كتابه "الأدب العربي في العصر العباسي"، ويقال إن المنصور تناول النبيذ مرّة واحدة بعد أن زيّنها له أحد الأطباء، فشربه في اليوم الأول فاستطابه، فعاد له في اليوم الثاني، وزاد منه فخدّره، ثمّ عاوده في اليوم الثالث، فأبطأ عن صلاة الظهر والعصر والعشاء، فلمّا كان من غدٍ، دعا بما عنده من الشراب فهراقه، ثمّ قال: ما ينبغي لمثلي أن يشرب شيئًا يشغله".
ويقول "رشيد"، إن أول شاعر في العصر العباسي خصّص شعره لوصف الخمر، هو أبو الهندي غالب بن عبد القدّوس، الذي قال عنه أبو الفرج الأصفهاني: "كان جزِل الشِّعر، حسن الألفاظ، لطيف المعاني، واستفرغ شعره بصفة الخمر، وهو أول من وصفها من شعراء الإسلام، فجعل وصفها وَكدَهُ وقصده (...) وكان يحنّ إليها حنين الفطيم إلى الرِّضاع".